معضلة التفسيرات العاطفية لفوز زهران ممداني


 

 

حسن المصطفى

موقع الإمام الشيرازي

24/جمادى الأولى/1447

 

 

أثار فوز زهران ممداني بمنصب عمدة مدينة نيويورك موجة واسعة من التفاعل في الأوساط العربية والإسلامية، اتسمت في جزء كبير منها - بحسب متابعتي لها خلال الفترات الماضية - بطابع عاطفي أكثر منه عقلاني، وكأنها تريد إسقاط واقعٍ عربي ما على ما يحدث في الولايات المتحدة، رغم اختلاف البيئات، وهي بذلك تمارس فعلاً رغبوياً يعيد إنتاج الآخر على مقياس الذات وفي مرآة أمانيها، مما يعني انحيازاً مسبقاً في التفسير، يقود بطريقة تلقائية إلى نتائج غير دقيقة، بل قد تكون في معظمها مضللة!

لقد تحوّل الحدث المحلي الأميركي إلى ساحة انفعالٍ نفسي وفكري، هو في إحدى صوره يكشف عن هروب من الواقع اليومي العربي، ويبيّن محدودية القدرة على الفعل، أو تراكماً للخيبات، أو نشوة في إعادة تعريف «الهزائم»، وإن كان عبر إنجازات الآخرين التي لا نصيب لنا بها! أي إن أصحاب هذه التفسيرات الرغبوية، عوضاً عن القراءة المتأنية البصيرة للتغيرات الكبرى التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، وحرب إسرائيل في غزة، وما أحدثته من هزات عميقة في الفكر والوجدان العربيَّيْن، وبدلاً من التأمل والمراجعة النقدية لكل ما حصل؛ دلف هؤلاء لعلاج أوجاعهم عبر آمال بعيدة، تتعلق بتفاصيل صغيرة، هي جزء من المشهد، وليست لبّه أو عصبه المحرك لما دفع إلى انتخاب ممداني عمدة لمدينة نيويورك!

البعض رأى في الحدث انتصاراً للمسلمين على خصومهم، وآخرون عدّوه ثمرةً لـ«طوفان الأقصى» أو بداية النهاية للسياسات الأميركية المؤيدة لإسرائيل! في المقابل، برز من مجّد ممداني بوصفه رمزاً لليقظة الإسلامية أو اليسارية، فيما انشغل آخرون بالجدل حول مذهبه العقدي وكأنه مرشح في انتخابات يمثّل فيها طائفة ما، وليس مرشحاً للحزب «الديمقراطي» الذي هو حزب مدني-علماني!

جميع هذه التفسيرات تشترك في تعبيرها عن مآزق مفاهيمية في الفكر العربي-الإسلامي، بعيدة عن القراءة الواقعية المتوازنة التي الجمهور العام والنخب في الدول العربية بحاجة ملحة إليها لفهم ما يجري، وإن كان ذلك يمثّل صعوداً لتيار داخل «الديمقراطيين»، أو هل بالفعل ما حصل مؤشر على تراجع آليات العمل التقليدي في المؤسسات الأميركية، أم أن هنالك موجات عابرة قد تكون مؤقتة، وقد تبدو قادرة الآن؟ أي التفسيرات الأكثر موثوقية تجعلنا نفهم الواقع الداخلي الأميركي المعقد بطريقة تخدم مصالحنا، وتجعلنا قادرين على التعامل مع المتغيرات من دون أن نتفاجأ بها!

إن تلك الموجة من الانفعال لا تنبع من معرفة دقيقة بالسياق السياسي الأميركي، بل من حاجة وجدانية لدى بعض الجماهير العربية إلى إيجاد رموز «تعويضية» تمنح شعوراً بالانتصار في عالمٍ تتوالى فيه الخيبات؛ لذا، تم التعامل مع فوز زهران ممداني بوصفه حدثاً يتجاوز حدوده المنطقية، في حين هو في جوهره نتاج عملية ديمقراطية محلية داخل مدينة متعددة الثقافات مثل نيويورك، عُرفت تاريخياً بانفتاحها على التنوع والتجديد الاجتماعي والاقتصادي.

أسباب فوز ممداني الحقيقية تعود إلى برنامجه الانتخابي الذي لامس هموم سكان المدينة اليومية: الإسكان، والنقل العام، وتكلفة المعيشة، والعدالة الاجتماعية، والضرائب، والصحة؛ فقد نجح في بناء رأي عام واسع يضم الشباب والعمال والمهاجرين، واستفاد من تراجع الثقة بالسياسيين التقليديين، ومن التحول التدريجي نحو التيار التقدمي داخل المدن الكبرى. فوز ممداني لم يكن مواجهة دينية أو آيديولوجية، بل نتيجة عمل ميداني منظم ضمن قواعد اللعبة السياسية الأميركية، ولذا تواصل ممداني مع المسلمين واليهود على حد سواء، وزار المجتمعات المحلية المختلفة من دون أن يقطع الصلة بالقاعدة الانتخابية الأوسع خصوصاً تلك التي كانت في المنطقة الرمادية!

أيضاً، من المهم التذكير بأن ممداني عمدة مدينة نيويورك فقط، لا حاكم ولاية نيويورك. العمدة مسؤول عن إدارة الخدمات البلدية والإشراف على المؤسسات المحلية، في حين أن الحاكم يقود السلطة التنفيذية على مستوى الولاية. هذا التمييز الجوهري غاب عن كثير من التعليقات العربية التي اختزلت النظام الأميركي في صورة واحدة، وتجاهلت أن الولايات المتحدة تتكون من طبقات متداخلة من الحكم الفيدرالي والمحلي.

إن فوز ممداني حدث مهم ضمن نظام سياسي قانوني مستقر، في بلد منقسم سياسياً، لكنه يحتفظ بدرجة عالية من الحيوية المؤسسية. كما أن قدرة المجتمع الأميركي على إنتاج قادة من خلفيات دينية وعرقية مختلفة لا تعني بالضرورة تبني الدولة لخطاب هؤلاء القادة أو مواقفهم الأخلاقية، بل تعكس مرونة النظام وقدرته على استيعاب التعددية تحت سقف القانون. إنها حيوية نابعة من توازن دقيق بين حرية التعبير والالتزام بالمؤسسات، لا من تحول جذري في الهوية الأميركية أو في سياستها الخارجية.

رغم أن زهران ممداني عبّر مراراً عن دعمه للحق الفلسطيني في العيش بسلام وكرامة، فإن منصبه لا يتيح له تقرير سياسة خارجية أو تعديل مواقف واشنطن من الشرق الأوسط. إنه معارض لبعض سياسات إسرائيل، لكنه أيضاً من الرافضين لمعاداة السامية، وهو يميز بوضوح بين نقد الاحتلال وممارسات القتل غير القانونية ورفض وجود إسرائيل بوصفها دولة التي يعترف بها دولة قائمة وفق مقررات الأمم المتحدة. هذا الخط السياسي متسق مع الخطاب التقدمي السائد في المدن الأميركية الكبرى الذي يسعى إلى التوفيق بين العدالة الإنسانية وحماية الأقليات الدينية والعرقية والثقافية.

من الخطأ إذن إسقاط المعارك الرمزية لمنطقة الشرق الأوسط على انتخابات محلية أميركية، فربط فوز زهران ممداني بـ«طوفان الأقصى» أو بوصفه انتصاراً على واشنطن الرسمية، أو أنه «صفعة لإسرائيل»؛ يعكس قراءة بالغة الاستعجال!

إن فوز ممداني هو انعكاس لتجربة سياسي أميركي شاب، نجح في اجتراح خطاب مؤثر وإدارة تحالف محلي داخل منظومة تسمح بالتنافس المفتوح، فيما الاحتفاء المبالغ به لا يضيف إلى الوعي العربي سوى مزيد من الوهم الرمزي، والجمهور العام في حاجة إلى التحرر منه!

* (كاتب وباحث – السعودية)