العراق .. صناديق تتغيّر وطبقة سياسية لا تتغير


 

 

موقع الإمام الشيرازي

23/جمادى الأولى/1447

 

 

انتهت الانتخابات البرلمانية العراقية قبل أيام، وبدل أن تعكس نتائجها رغبة العراقيين في التغيير أو مساءلة الطبقة السياسية التي حكمتهم طوال العقدين الماضيين، عادت الوجوه ذاتها إلى مواقع النفوذ. هذا "الاسترجاع السياسي" يثير أسئلة جوهرية حول معنى الانتخابات في بلد تتآكل فيه الخدمات وتغيب فيه المحاسبة، بينما تقف الطبقة الحاكمة بمسمياتها الدينية والحزبية فوق المساءلة الشعبية.

تبدأ مسؤولية الحاكم – كما يذكّرنا القرآن الكريم والنهج العلوي – من كونها أمانة قبل أن تكون سلطة. يقول تعالى: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (الحجر:92)، ويقول الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): "اتقوا الله في عباده وبلاده فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم" (نهج البلاغة: خطبة 167). وهي نصوص تذكّر بأن المسؤولية ليست شعاراً يُرفَع في الحملات الانتخابية، بل عقداً أخلاقياً يقاس بآثار العمل في حياة الناس.

ومع ذلك، فإن الواقع العراقي اليوم يشهد انفصالاً عميقاً بين الخطاب الأخلاقي الذي تتبناه القوى السياسية – خصوصاً تلك التي ترفع لافتة "التدين" – وبين النتائج الملموسة على الأرض.

مفارقة أصبحت نظاماً

العراق ليس دولة فقيرة. على العكس، يملك أحد أكبر احتياطات النفط والغاز في العالم، وثروات زراعية ومائية وبشرية هائلة. لكن هذه الثروات لم تُترجم يوماً إلى بنى تحتية محترمة، أو نظام صحي إنساني، أو تعليم يليق بدولة نفطية.

الكهرباء ما زالت معضلة، والمياه الصالحة للشرب ليست مضمونة، والمستشفيات مكتظة ومستهلكة ولجوء الناس الى القطاع الخاص والاصطدام بالتكاليف الباهظة أو السفر خارج العراق، ونقص يقارب ثلاثة ملايين وحدة سكنية، ومدارس متهالكة والحاجة ماسّة الى أعداد كبيرة، بالإضافة الى أن التعليم في العراق إجمالاً لم يعد مجانياً!!

إن هذا التناقض بين وفرة الموارد وبؤس الخدمات لم يعد مجرد خلل في الأداء؛ لقد أصبح جزءًا بنيوياً من إدارة الدولة.

والمواطن العراقي، الذي عاش خمس حكومات منتخبة و"إصلاحات" لا تُعَد، ما يزال يسأل الأسئلة نفسها منذ 2003:

لماذا لم يُبنَ نظام صحي محترم حتى الآن؟

لماذا تتكرر الأزمات ذاتها رغم الموازنات الانفجارية؟

لماذا لا يحاسَب الفاسدون والمقصّرون؟

هذه ليست أسئلة تقنية، بل أسئلة وجودية تعبّر عن وعي يومي مأزوم يختبره المواطن في الكهرباء والماء والدواء والدوائر الحكومية.

بالتالي، فإن أحد أخطر مظاهر الأزمة هو التناقض بين الخطاب الديني للأحزاب والممارسة السياسية. كثير من المسؤولين يظهرون في المناسبات الدينية، ويتحدثون عن الأخلاق والعدالة ورعاية الضعفاء، لكنهم في إدارة الدولة ينتجون العكس تماماً، حيث لا يجد العراقيون إلا إهمالاً، وفساداً، وتسويفاً للوعود، وتغييباً لحقوق الناس.

هذا ما يسمى "التدين المزيف"؛ إذ توظف الأحزاب الرموز الدينية لكسب الشرعية الشعبية، دون الالتزام بروح الدين نفسه الذي يقوم على العدل والأمانة والرحمة والكرامة والرعاية. عليه، فإن المسؤول أو الحزبي الذي يرفع شعار الدين ثم يغضّ الطرف عن معاناة شعبه لا يكتفي بالإخفاق الإداري، بل يرتكب خيانة أخلاقية مزدوجة تجاه الدين والمجتمع.

لماذا لا تعمل الانتخابات كما يُفترَض؟

الانتخابات، في الفلسفة السياسية، آلية لمحاسبة الحاكمين ومعاقبة الفاشلين واستبدالهم بآخرين. كما يقول د. إياد العنبر: "الانتخابات استفتاء على الأداء السياسي، وهي وسيلة لتجديد النخب وضمان عدم تحوّل السلطة إلى ملكية خاصة."

لكن هذه الفلسفة لا تعمل في العراق. السبب يعود أولاً وأساساً إلى الطبقة الحاكمة؛

رُوي عن الإمام جعفر الصادق عن أبيه، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت أمتـــي، وإذا فسدا فسدت أمتي، قيل يا رسول الله ومن هما؟ قال: الفقهاء والأمراء" (الخصال: ص15).

أيضاً، سبب آخر في قصور تطبيق السياسة الصحيحة يعود الى بنية سياسية واجتماعية واقتصادية تجعل تغيير النخب أمراً شديد الصعوبة حيث:

* الأحزاب الممسكة بالسلطة تسيطر على الوزارات والموارد والوظائف، ما يجعلها قادرة على توجيه أصوات واسعة عبر شبكات الزبائنية.

* بعد 20 عاماً، أصبح أداء الدولة الضعيف جزءًا من "الوضع الطبيعي"، ولم يعد المواطن يتوقع تغييراً جذرياً.

القوى الناشئة، المدنية أو المستقلة، تتعرض للعزل أو التشويه أو الإضعاف المنهجي.

* المواطن الذي يبحث عن وظيفة أو عقد أو دعم اجتماعي قد يفضّل "الاستقرار" – حتى لو كان فاسدًا – على المجهول.

نتيجة ذلك: صناديق الاقتراع تتغيّر، وقوانين الانتخابات تتغير، لكن الطبقة السياسية لا تتغير.

ويبقى السؤال: هل ما زال التغيير ممكنًا؟

إعادة إنتاج الطبقة السياسية نفسها في الانتخابات الأخيرة ليست قدراً محتوماً، لكنها مؤشر خطير على الجمود السياسي. ومع ذلك، فإن طريق الإصلاح – كما علّمنا القرآن الكريم والنهج العلوي – يبدأ من الإنسان نفسه: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: 11).

التغيير ممكن، لكنه يتطلب إرادة مجتمعية، وثقافة تراكمية، وحركات سياسية جديدة تخرج من رحم المعاناة اليومية لا من حسابات السلطة. كما يتطلب وعياً بأن الإصلاح لا يتحقق بالخطاب الديني ولا بالشعارات الوطنية، بل بالعمل الحقيقي؛ أي بالمراقبة والمساءلة والمحاسبة، وإنهاء الحصانات الأخلاقية والسياسية التي تحتمي خلفها النخب الحاكمة.

العراق بلد غني، لكن غناه لن ينعكس على شعبه ما دامت الطبقة السياسية تعتبر الدولة غنيمة لا مسؤولية، وتستخدم الانتخابات بوابة للعودة لا آلية للمحاسبة. وما لم يتحول صوت المواطن إلى قوة تغيير حقيقية، ستبقى الدورات الانتخابية تتكرر، وستبقى النتائج كما هي؛

نفس الوجوه، ونفس السياسات، ونفس الأزمات.