![]() |
دولة الإمام أمير المؤمنين .. النموذج المُضَيَّع
موقع الإمام الشيرازي 16/ربيع الثاني/1447
الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام): "إذا بُني المُلْكُ على قواعد العدل ودعم بدعائم العقل، نصَر الله مواليه وخذل معاديه". وقال (عليه السلام): "قلوبُ الرعية خزائن راعيها، فما أودعها من عدل أو جور وجده" (غرر الحكم: 4118 - 6825)
------------------------------ في زمن يعج بالأزمات المتفاقمة في العديد من الدول الإسلامية – من الفقر المدقع والفساد المنتشر إلى قمع الحريات وانتشار النزاعات الداخلية وغياب العدل وضعف القانون – يزعم بعضٌ أنهم يسيرون على نهج الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الذي يُعَدّ رمزاً للعدل والحكمة والإنسانية. لكن الذي يتضح أن هذه الادعاءات تتعارض مع الواقع المرير، حيث تتراكم الأزمات ويتفاقم الفساد رغم الوعود بالإصلاح. فكيف يمكن أن يكون نهج علي بن أبي طالب – الذي شيَّد دولة قامت على الحرية والعدل والرحمة – غائباً عن هذه الدول؟ في الوقت، إن سيرة الإمام أمير المؤمنين ليست مجرد قصة تاريخية، بل دليل حي ومنهج غض لبناء مجتمعات ترفل بالحرية والعدالة والكرامة الإنسانية، ودعوة للحكام وكل صاحب مسؤولية – صغيرة أو كبيرة - للتأمل في مسؤولياتهم تجاه شعوبهم. يجمع المؤرخون على أن سنوات حُكْمِ الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) شهدت منحاً غير مسبوق للحريات في عصر كان العالم بأسره يئن تحت وطأة الاستبداد والحكم الفردي وغياب العدالة. فقد حَكَم الإمام دولة شاسعة تغطي مناطق واسعة تعادل عشرات الدول الحديثة في جغرافية العالم اليوم. كانت هذه الدولة، بقوتها العسكرية وعدد سكانها الهائل، الأكبر في تاريخها، ومع ذلك لم يلجأ أمير المؤمنين إلى القمع أو التخويف أو الاعتقال التعسفي لفرض سلطته. بل كان احترام حرية الرأي والتعبير في عهده قمة السمو الأخلاقي؛ فالمعارضون الذين خرجوا عليه لم يواجهوا سيوف التخويف أو عمليات الاغتيال. وفي رسالة إلى مالك الأشتر، يحذر أمير المؤمنين من وصف المعارضين بـ"المنافقين"، مؤكداً أن الحكم يجب أن يعتمد على الحجة لا على القمع. هذا النهج لم يكن مجرد فعل تسامح، بل استراتيجية حكيمة لإدارة الدولة بأبوة ورحمة ومراعاة مصلحة الأمة ككل، حيث منح كل من يعارض بالكلمة الحرية والأمان التام. أيضاً، كان زهد الإمام أمير المؤمنين – الذي اكتفى فيه "من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه (*)" – يهدف إلى هدفين أساسيين يعكسان عمق رؤيته السياسية والأخلاقية: أولاً، إبعاد أي شبهة عن حكمه كحاكم يسعى للترف، مما يسلب منتقديه – الذين شككوا حتى في مناقبه الجليلة والشائعة – أي حجة يمكن أن يستخدموها ضده. ففي زمن كانت السلطة تقاس بالثراء والقصور، اختار أمير المؤمنين العيش البسيط ليثبت أن الحُكمْ خدمة لا امتيازاً. ثانياً، وهو الأهم، تذكير الحكام بمسؤولياتهم الجسيمة تجاه معاناة الشعب. فإن مجرد وجود جائع في أقصى ركن من أركان الدولة كان يُعدّ في ميزان علي بن أبي طالب مسؤولية مباشرة تحمل تبعاتها، سواء في الدنيا أو الآخرة. لذا، الإمام (عليه السلام) دعا الحكّام والمسؤولين إلى مشاركة الفقراء شظف العيش، وجعل مستوى رفاههم يعكس مستوى أدنى طبقات المجتمع. ويقول الإمام (عليه السلام): "أعقَلُ المُلوكِ مَن ساسَ نفسَهُ لِلرَّعيَّةِ بما يُسقِطُ عنهُ حُجَّتَها، وساسَ الرَّعيَّةَ بما تَثبُتُ بهِ حُجَّتُهُ علَيها" (غرر الحكم: 3350). ما يعني أنه لكي يكون الحاكم عادلاً، فهو يجب أن يكون قوياً في حُكْمِ نفسه وأن يلتزم بالاستقامة قبل أن يطالب الشعب بالعدل والالتزام بالقوانين، وأن الحاكم الذي يحكم نفسه بالعدل ويطبق العدل على الشعب هو الذي يستطيع أن يثبت سلطته في قلوب الناس ويحظى باحترام شعبه. وفي رسالته الشهيرة إلى مالك الأشتر (الرسالة 53)، يقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): "وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ وَاللُّطْفَ بِهِمْ، وَلَا تَكُنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعًا ضَارِيًا تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، أَوْ نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ" (نهج البلاغة)، مشدداً على أن الحاكم يجب أن يملأ قلبه رحمة ومحبة تجاه الشعب، ولا يعامل الناس كفريسة، فالشعب إما إخوان في الدين أو أشقاء في الإنسانية. هذا التعاطف النبيل لم يكن شعاراً في عهد أمير المؤمنين، بل سياسة عملية تجسدت بأروع الصور على أرض الواقع؛ فقد أمر (عليه السلام) بتوزيع الزكاة والصدقات بكفاءة، وأنشأ نظاماً قضائياً يحمي الضعفاء، مما أدى إلى استقرار نسبي رغم التحديات الداخلية. في الواقع المعاصر، حيث تدَّعي حكومات وأحزاب أنها تسير على نهج علي بن أبي طالب، يظهر التناقض بوضوح. فالأزمات الاقتصادية والاجتماعية تتفاقم، والحريات تُقمَع، بينما يعيش الحكام وعوائلهم وأقرباؤهم في رفاهية. وهكذا، فإن سيرة الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب طريق النجاح الحقيقي إلى إقامة "دولة الإنسان" –الدولة التي تجمع بين العدل والحرية والخير والسلام والرفاه. إن كل ما في دولة علي بن أبي طالب تذكير الحكام بأن الحُكْم أمانة، لا سلطة مطلقة. بالتالي، إذا أرادت الدول/دولنا الخروج من أزمتها، فإن على الذين بيدهم أمور البلاد اتباع الإمام لا بالكلام فقط، بل أيضاً بالعمل، وذلك من خلال الزهد في المنافع الشخصية، والأمانة والكفاءة في أداء المسؤولية، والعدل والرحمة والتسامح في التعامل مع الشعب، فإن في ذلك سبيل الخلاص والازدهار. --------------------- (*) من كتاب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري، عامله على البصرة، وقد بلغه أنه دعي إلى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها": "ألا وإن لكل مأموم إماماً يقتدي به ويستضئ بنور علمه. ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد، فوالله ما كنزتُ من دنياكم تبراً، ولا ادخرت من غنائمها وقرأ، ولا أعددت لبالي ثوبي طمراً، ولا حزت من أرضها شبراً" (بحار الأنوار: ج33 – ص474). |