الخصال العشر للعقل الكامل في الميزان الرضويّ .. قراءة تحليلية


دعوة متجددة للاحتفاء بأيام أهل البيت (عليهم السلام) كما ينبغي؛ لا فقط كما هو معتاد، من خلال التأمل في سِيَرِهم وإدراك جوهر قيَمِهم، لاستكشاف حقيقة تديننا وأيضاً حقيقة واقعنا، وصولاً لنكون كما ينبغي، ونعمل كما يجب

 

موقع الإمام الشيرازي

 

قال الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام): "لا يتمّ عقل امرئ مسلم حتّى تكون فيه عشر خصال: الخير منه مأمول، والشرّ منه مأمون، يستكثر قليل الخير من غيره، ويستقلّ كثير الخير من نفسه، لا يسأم من طلب الحوائج إليه، ولا يملّ من طلب العلم طول دهره، الفقر في الله أحبّ إليه من الغنى، والذلّ في الله أحبّ إليه من العزّ في عدّوه، والخمول أشهى إليه من الشهرة.

ثمّ قال (عليه السلام): "العاشرة وما العاشرة."

قيل له: "وما هي؟"

قال (عليه السلام): لا يرى أحداً إلّا قال: هو خير منّي وأتقى، إنّما الناس رجلان: رجل خير منه وأتقى، ورجل شرّ منه وأدنى، فإذا لقي الذي شرّ منه وأدنى قال: لعلّ خير هذا باطن وهو خير له، وخيري ظاهر وهو شرّ لي، وإذا رأى الذي هو خير منه وأتقى تواضع له ليلحق به، فإذا فعل ذلك فقد علا مجده، وطاب خيره، وحسن ذكره، وساد أهل زمانه." (بحار الأنوار: ج 75 – ص 336).

------------------------------

في منظومة الأخلاق الإسلامية، يحتل العقل مكانة مركزية بوصفه أداة التمييز بين الخير والشر، والضابط للسلوك، والدافع نحو الكمال. ومن أروع ما قُدِّمَ في هذا الباب، حديث الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) الذي لخّص فيه صفات "تمام العقل" أو "تمام التدين" للمسلم في عشر خصال عميقة، تشكّل مشروعاً أخلاقياً متكاملاً لصياغة الإنسان المؤمن المتزن روحاً ووعياً وسلوكاً. أيضاً، هذا "النص الرضويّ" يجمع بين البعد الأخلاقي الفردي والاجتماعي، مما يجعله منهجًا متكاملاً للسير نحو الكمال الإنساني.

(1-2) الخير مأمول منه، والشر مأمون

هذان القيدان يشكّلان قاعدة العلاقات الإنسانية. فالعاقل لا يُخشى أذاه، ولا يُخاف شره، وهذا يعكس ضبطه لنفسه والتزامه بمكارم الأخلاق، بل لا يُنتظر منه إلا الخير والمعروف والأمانة. هذه الصفة النبيلة تبني الثقة بين الأفراد وتُشيع الطمأنينة بين الناس، وتُخرِج الإنسان من قوقعة الأنانية إلى عالم التأثير الإيجابي في المجتمع. أما غياب هذا المبدأ فيُنتِج شخصاً غامضاً، يُخشى صمته كما يُخشى فعله، بينما المؤمن العاقل يُستأنس به ويُرجى خيره.

(3-4) يستكثر قليل الخير من غيره، ويستقل كثير الخير من نفسه

في هذه الخصلة اختزال رائع لتنمية مستدامة لـ "التواضع والنقد الذاتي". العاقل لا يغتر بأعماله، بل يحتقرها خشية التقصير، ويرى الخير في الآخرين كثيراً، فينعكس ذلك على سلوكه تواضعاً وشكراً وتسامحاً وتواصلاً وتعاوناً ومودة. وهي خصلة تصنع مجتمعاً خالياً من الكِبر والإعجاب بالذات وتضخيمها.

(5) لا يسأم من طلب الحوائج إليه

الإنسان الكامل لا يتبرَّم من حاجات الناس، ويُظهر كرماً وصبراً في خدمة الآخرين، دون ملل أو تذمّر، حيث يرى "خدمة الناس" طريقه نحو القرب من الله. الإمام يربط العقل الحقيقي بالخدمة العامة، وجعل الناس يجدون فيه باباً لقضاء الحوائج. وفي هذا دلالة على أن العطاء جزء من نضج العقل، لا مجرد شعور عاطفي طارئ.

(6) ولا يَمِلّ مِن طلب العلم طول دهره

طَلَبُ العلم عند الإمام ليس طارئاً، بل هو سلوك دائم وهدف مستدام. فالملل من العلم دليل على ضيق الأفق، بينما العاقل الحقيقي يعلم أن كل معرفة جديدة تفتح له باباً لفهم ذاته والكون والدين والخالق تبارك وتعالى. في هذه الخصلة تأكيد أن العقل لا يكتمل دون شغف مستمر بالتعلّم.

(7) الفقر في الله أحبّ إليه من الغنى

هنا ننتقل إلى عمق الروح وجوهر الإيمان. العاقل لا تُغريه مظاهر الدنيا، بل يقيس الغنى والفقر بمعيار القرب من الله سبحانه. هذا لا يعني الزهد بمعناه السلبي، بل هو استقلال عن عبودية المال، واختيار لما يُرضي الله تعالى، لا ما يُرضي النفس والناس.

(8) الذلّ في الله أحبّ إليه من العزّ في عدوه

هذه العبارة تفضح المساومات الأخلاقية التي يقع فيها بعض الناس حين يقايضون كرامتهم بدعم الأعداء أو الولاء لمن هو خارج الوطن مقابل منصب أو سلطة أو مال، ولو كان ذلك الولاء على حساب حقوق شعبه ومصلحة بلاده. العاقل الحقيقي أو المؤمن الحقيقي، في منظور الإمام، يختار الذل في طاعة الله على أن يتزين بعزّ زائف من مصدر معادٍ للحق.

(9) الخمول أحبّ إليه من الشهرة

في عالم يلهث فيه الناس وراء الشهرة، يقدّم الإمام الرضا (عليه السلام) مقياساً مختلفاً، وهو أن تكون مغموراً لله سبحانه، خير من أن تكون مشهوراً للناس. لأن الشهرة تُدخِل الرياء، وتُفسِد الإخلاص، بينما الخمول يتيح البناء الصامت "الإيجابي والحقيقي" للنفس.

(10) تقدير الآخرين وازدراء الذات (تواضع عالي)

في الخصلة العاشرة، والتي قال عنها الإمام: "وما العاشرة!"، نجد قمة البناء النفسي للعقل الكامل، وهي رؤية الآخرين خيراً منه دائماً. ليس لأنها حقيقة دائماً، بل لأنها تربي الإنسان على التواضع، وتُخرجه من قفص الغرور والحكم المطلق على الناس.

إذا رأى مَن هو دونه قال: "لعلّ خيره باطن"، وإذا رأى من هو فوقه تواضع له ليلحق به. هذه "الشك المنهجي" في خير النفس وخطورة الرياء، تمنع الإنسان من احتقار الآخرين، وتدفعه لتحسين ذاته لا الإنشغال بعيب غيره. هذه الصفة تُعتبر تاج الأخلاق، لأنها تمنع الكِبر، وتُعزّز التعاون الاجتماعي، وتجعل الإنسان في حالة دائمة من المراجعة الذاتية.

ختم الإمام بثمرة هذه العشرة: "فإذا فعل ذلك فقد علا مجده" فيصبح عزيزاً بين الناس بسبب أخلاقه، "وطاب خيره" فتزداد بركته ونفعه للآخرين، "وحسن ذكره" حيث يترك أثراً طيباً في القلوب، "وساد أهل زمانه" فإن السيادة الكريمة والحقيقية لا تُنال بالسطوة أو المال أو المظهر، بل بهذا البناء الأخلاقي العميق، وفقاً للنص الرضويّ المبارك.

اليوم، وفي زمن طغت فيه المظاهر على الجوهر، وصار "الذكي" هو من يربح أكثر لا من يتقي أكثر، يقدم لنا الإمام الرضا (عليه السلام) معياراً مغايراً لقياس العقل، ينطلق من الرحمة، والتواضع، والصدق، وحب العلم، والزهد في الدنيا، والاعتراف بخيرية الآخرين.

يقدّم هذا "النص الرضويّ" رؤية متكاملة للإنسان الذي يجمع بين صلاح الذات والإصلاح الاجتماعي. الصفات العشر ليست مجرد قيم نظرية، بل منهج عملي لبناء مجتمع تسوده المحبة والتواضع والعدالة. يُذكّرنا كلام الإمام الرضا (عليه السلام) بأن العقل الحقيقي ليس بالذكاء أو العلم فقط، بل بالأخلاق التي تُترجم هذه المَلَكات إلى سلوكٍ يُصلح الدنيا والآخرة.

وهكذا، نحن بحاجة اليوم إلى "عقل ديني أخلاقي"، لا مجرد عقل تنظيري، عقل يحاسِب صاحبه ويرتقي به ديناً وخلقاً. عقل يعيش بين الناس، ويخدمهم، ويتواضع لهم، ويبحث عن الحق لا عن مجد زائف أو شهرة أو منصب أو مال. إنها دعوة لتجديد مشروع الإنسان الكامل فينا... كما رسمه الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام).

 

12/ ذو القعدة / 1446هـ