![]() |
كلام للإمام الرضا حول الحكم وأولوية العدالة .. تقييم الواقع المعاصر دعوة متجددة للاحتفاء بأيام أهل البيت (عليهم السلام) كما ينبغي؛ لا فقط كما هو معتاد، من خلال التأمل في سِيَرِهم وإدراك جوهر قيَمِهم، لنستكشف حقيقة تديننا وأيضاً حقيقة واقعنا، وصولاً لنكون كما ينبغي، ونعمل كما يجب
موقع الإمام الشيرازي
"... جاء المأمون ومعه كتاب طويل، فأراد الإمام
الرضا (عليه السلام) أن يقوم، فأقسم عليه المأمون بحقّ رسول الله (صلى
الله عليه وآله) أن لا يقوم إليه، ثمّ جاء حتّى انكبّ على الرضا وقبّل
وجهه، وقعد بين يديه على وسادة، فقرأ ذلك الكتاب عليه، فإذا هو فتح
لبعض قرى كابل، فيه: إنّا فتحنا قرية كذا وكذا.
------------------------------ يُقدّم هذا النص الرضويّ، أو الحوار بين الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) والمأمون، خليفة الدولة العباسية، درسًا عميقاً في الأولويات الأخلاقية والإنسانية والسياسية التي ينبغي أن يحكم بها الحاكم. في هذا النص، يحاور الإمام الرضا المأمون الذي يبتهج بانتصار جيشه وفتح "قرية من قرى الشرك" أو مدينة أو حتى دولة، ليعيد توجيه بوصلة الحاكم من الافتخار بالتوسع العسكري إلى جوهر المسؤولية الحقيقية والقيم الدينية والإنسانية: تحقيق العدالة ورعاية الشعب. هذا النص ليس مجرد حوار تاريخي، بل هو تأمل مبدئي وديني وإنساني في طبيعة القيادة، وهو أيضاً صراع القِيَم بين المجد الزائل والعدالة الدائمة، وهو يحمل صدىً عميقًا يتردد في واقعنا المعاصر. النص .. نقد قيَمي للقيادة يبدأ الحوار بتساؤل الإمام الرضا (عليه السلام): "هل سرّك فتح قرية من قرى الشرك؟"، وهو سؤال يبدو بريئًا للوهلة الأولى، لكنه يحمل في طياته نقدًا عميقًا. المأمون يرى في الفتح مصدراً للسرور، لكن الإمام يُعيد صياغة المعادلة الأخلاقية، مشيراً إلى أن الفرح بالانتصار العسكري لا معنى له إذا كان الشعب يعاني من الظلم والإهمال. يقول الإمام: "يا أمير المؤمنين، اتّق الله في أمّة محمّد، وما ولّاك الله من هذا الأمر وخصّك به، فإنّك قد ضيّعت أمور المسلمين". هذه العبارة تُلخص جوهر الفكرة: الحكم أو المسؤولية ليست امتيازاً، بل أمانة إلهية وأخلاقية تُلزم الحاكم بحماية شعبه وتحقيق العدالة لجميع أفراده. الإمام (عليه السلام) يُشبّه الحاكم بـ"العمود في وسط الفسطاط"، وهي استعارة بليغة تعكس المركزية والمسؤولية. كما أن الفسطاط (الخيمة) ينهار إذا ضعف عموده، فإن المجتمع يتداعى إذا أهمل الحاكم واجباته. هذا التشبيه يُبرز فكرة فلسفية أساسية: الحاكم او القائد ليس مجرد رمز للسلطة، بل هو العنصر الحيوي الذي يحفظ تماسك المجتمع واستقراره. العدالة كمعيار للقيادة في هذا الحوار، يُقدّم الإمام الرضا (عليه السلام) معياراً أخلاقياً لتقييم القيادة: العدالة. الانتصارات العسكرية، مهما كانت عظيمة، لا يمكن أن تُبرر إهمال الشعب أو تركه تحت وطأة الظلم. الإمام يُحذّر المأمون من أن تفويض الحكم إلى غيره، والابتعاد عن "بيت الهجرة ومهبط الوحي"، أي مركز الحكم الشرعي والروحي، قد أدى إلى ظلم المهاجرين والأنصار، وترك المظلومين دون من يسمع شكواهم. هذا النقد يتجاوز السياق التاريخي ليصبح مبدأً عالمياً: الحاكم أو الزعيم أو القائد الذي يُفضّل المجد الشخصي أو التوسع الإقليمي على رفاهية شعبه يخون أمانته. من منظور فلسفي، يمكن ربط هذه الفكرة بأفكار فلاسفة مثل أفلاطون، الذي رأى في كتابه "الجمهورية" أن الحاكم العادل هو من يحكم لصالح المجتمع، لا لتحقيق مصالحه الشخصية. كذلك، يتردد صدى هذا المبدأ في فلسفة العقد الاجتماعي عند جان جاك روسو، حيث يُعتبر الحاكم خادماً للإرادة العامة، لا سيداً عليها. الإمام الرضا (عليه السلام)، في هذا النص، يُقدّم رؤية إنسانية تتجاوز الزمان والمكان، مؤكداً أن العدالة هي جوهر الحكم، وأن أي إنجاز خارجي يفقد قيمته إذا لم يُترجم إلى رخاء وأمان للشعب. جون راولز؛ فيلسوف سياسي وأخلاقي أمريكي (1921 - 2002)، في نظريته عن "العدالة كإنصاف"، يقترح راولز أن العدالة تتطلب إعطاء الأولوية للأضعف في المجتمع، وهذا يتماشى مع تركيز الإمام (عليه السلام) على حماية المظلومين. في السياق، العدالة في الإسلام ليست مجرد تطبيق القانون، بل هي رحمة وإحسان. الإمام (عليه السلام) يدعو إلى عدالة تنبع من التقوى "اتّق الله"، أي الخوف من الله سبحانه والشعور بالمسؤولية الأخلاقية. النص وواقعنا المعاصر يحمل هذا الحوار دلالات عميقة لواقعنا اليوم، حيث تُظهر العديد من الصراعات السياسية والعسكرية نزوعًا مشابهًا لما نقده الإمام الرضا (عليه السلام). في عالم يشهد حروباً عبثية، وصراعات على النفوذ، وتوسعًا إقليمياً تحت شعارات مختلفة، غالباً ما تُهمَل مصالح الشعوب. حكام وجماعات مسلحة يغامرون بمستقبل بلدانهم، مدفوعين بطموحات شخصية أو أيديولوجيات ضيقة، تاركين شعوبهم تحت وطأة الفقر، والظلم، والحرمان، والخوف، والتهجير، والمرض، والدمار. على سبيل المثال، يمكن ملاحظة هذا النمط في العديد من النزاعات المعاصرة، حيث تُشّن حروب باسم "تحرير الأرض" أو "الدفاع عن الوطن" أو "نشر القيم"، لكنها - في الحقيقة - لا تؤدي سوى إلى تدمير البنية التحتية، وتشريد الملايين، وتعميق الانقسامات المجتمعية، وتوريط البلاد والعباد بأزمات خانقة. في هذه الحالات، يصبح "الانتصار" وهمياً، لأنه يأتي على حساب استقرار المجتمع ورفاهيته. كلام الإمام الرضا (عليه السلام) يدعونا إلى التساؤل: ما قيمة الفتح إذا كان الشعب يعاني؟ وما جدوى التوسع إذا كان الحاكم بعيدًا عن هموم رعيته؟ التأمل الإنساني .. القيادة خدمة من منظور إنساني، يُعلمنا الإمام أن القيادة ليست مجرد سلطة، بل خدمة. الإمام الرضا (عليه السلام) يدعو الخليفة العباسي المأمون إلى "الرجوع إلى بيت النبوة"، وهي دعوة رمزية للعودة إلى القيم الأصيلة التي تقوم عليها السلطة: العدالة، والرحمة، والمسؤولية. هذه الدعوة الرضوية تتجاوز السياق الإسلامي لتصبح مبدأً إنسانياً عالمياً: الحاكم أو المسؤول يجب أن يكون قريبًا من شعبه، ومستمعًا لهمومهم، ومُدركًا لمعاناتهم. في عالم يعاني من أزمات القيادة، حيث يفضل بعض المظاهر الخارجية للسلطة على جوهرها الأخلاقي، يأتي هذا النص ليذكّرنا بأن القائد الحقيقي هو من يجعل من العدالة والرحمة محور حكمه. إنه درس في الأولويات: لا انتصار يُضاهي انتصار الحاكم على ظلم شعبه، ولا فتح يُعادل فتح قلوب الرعية بالعدل والإحسان. الحوار بين الإمام الرضا (عليه السلام) والخليفة المأمون ليس مجرد لحظة تاريخية، بل تأمل فلسفي عميق في طبيعة الحُكْم والسياسة ومسؤولياتها. يحذّر النص من الانبهار بالانتصارات الخارجية على حساب العدالة الداخلية، ويدعو إلى إعادة تقييم الأولويات السياسية والأخلاقية. في عالمنا المعاصر، حيث تتكرر مآسي الحروب العبثية والصراعات المدمرة، يبقى هذا النص الرضويّ بمثابة منارة إنسانية، تذكّر الحكّام والقادة بأن قوتهم الحقيقية تكمن في خدمة شعوبهم، وأن العدالة هي العمود الذي يحفظ استقرار الأمم. كما يقول الإمام: "اتّق الله في أمور المسلمين"، وهي دعوة لكل حاكم ومسؤول، في كل زمان ومكان، ليحكم بالعدل ويعيد الإنسان إلى صدارة اهتماماته.
10/ ذو القعدة / 1446هـ |