دور الصحافة الحرة في بناء الدول المتقدمة


الدول التي تفتقر إلى صحافة حرة تظل عالقة في دوامة الفوضى والظلم وبعيدة عن تحقيق التقدم

 

موقع الإمام الشيرازي

 

 

تُعد الصحافة الحرة ركيزة أساسية لبناء دولة القانون والمؤسسات، فهي العين الساهرة التي تراقب السلطة، والصوت الذي ينقل الحقيقة، والمنبر الذي يعزز الحوار العام. وإذا أردنا نموذجاً يُبرز هذا الدور بوضوح، فإن الولايات المتحدة الأمريكية تقدم مثالاً تاريخياً ومهنياً يُجسد قوة الصحافة الحرة في صناعة دولة متقدمة. من خلال هذا المقال، نسعى لإيصال رسالة واضحة إلى الدول التي لا تزال تعاني من القمع والاستبداد، وإلى مجتمعاتها التي تتوق إلى الحرية والكرامة والرفاه: لا سبيل لبناء دولة عادلة ومتقدمة دون صحافة حرة تُشكل العمود الفقري للمساءلة والشفافية.

الصحافة الحرة .. تاريخ وتأثير

تتمتع الصحافة الأمريكية بإرث طويل يمتد لأكثر من قرنين، حيث كانت ولا تزال ركيزة أساسية في صياغة النظام الديمقراطي. منذ تأسيس الجمهورية، كرّس الدستور الأمريكي حرية الصحافة في التعديل الأول، مما منحها حماية قانونية غير مسبوقة. هذه الحرية سمحت للصحافة بأن تلعب دوراً محورياً في كشف الفساد، وتعزيز الشفافية، وتمكين المواطنين من اتخاذ قرارات مستنيرة.

على سبيل المثال، في القرن العشرين، كشفت صحيفة "واشنطن بوست" فضيحة ووترغيت في سبعينيات القرن الماضي، التي أدت إلى استقالة الرئيس ريتشارد نيكسون. هذا الحدث لم يكن مجرد انتصار صحفي، بل تأكيد على أن الصحافة الحرة قادرة على محاسبة أعلى السلطات. وفي العقود اللاحقة، استمرت وسائل الإعلام الأمريكية، من "نيويورك تايمز" إلى شبكات مثل "سي إن إن" ومنصات رقمية حديثة، في تقديم تحقيقات استقصائية تُسلط الضوء على قضايا مثل الفساد المالي، والانتهاكات الحقوقية، والسياسات غير العادلة.

التنوع الهائل في وسائل الإعلام الأمريكية، من الصحف التقليدية إلى المنصات الرقمية، يعكس تعددية الآراء ويضمن تغطية شاملة للقضايا المجتمعية. هذا التنوع، إلى جانب المهنية العالية التي تتجلى في التزام معايير الصحافة الأخلاقية، يجعل الصحافة الأمريكية قوة فاعلة في بناء مجتمع واعٍ ومؤسسات قوية.

الصحافة الحرة وصناعة دولة المؤسسات

دولة القانون والمؤسسات لا تُبنى بمجرد وجود دساتير مكتوبة أو محاكم مستقلة، بل تتطلب آليات رقابة فعالة، وهنا تكمن أهمية الصحافة الحرة. فهي:

(1) رقيب على السلطة لما تقوم به من كشف التجاوزات وتمنع استغلال السلطة، مما تعزز مبدأ المساءلة.

(2) منصة للحوار العام توفر فضاءً للنقاش حول السياسات العامة، مما تساعد في صياغة قوانين عادلة.

(3) مصدر للمعلومات إذ تمَكِّن المواطنين من فهم حقوقهم وواجباتهم، مما يعزز المشاركة المدنية.

(4) حامية للعدالة الاجتماعية حيث تسلط الضوء على قضايا المهمشين وتدافع عن حقوقهم.

في الولايات المتحدة، ساهمت الصحافة في تعزيز هذه العناصر من خلال تحقيقاتها وتقاريرها التي أثرت في إصلاحات تشريعية، مثل قوانين حماية البيئة، وحقوق العمال، والمساواة العرقية. هذا الدور يُظهر أن الصحافة ليست مجرد وسيلة إعلام، بل قوة دافعة للتغيير الاجتماعي والسياسي.

في السياق، يتفق أكاديميون أمريكيون، في مجموعة مؤلفات ومقالات، على أن الصحافة الحرة هي أساس بناء دول متقدمة، لأنها:

(1) تُعزز الشفافية والمساءلة.

(2) تُمكّن المواطنين من المشاركة في الحياة السياسية.

(3) تحمي سيادة القانون عبر كشف التجاوزات.

(4) تُثري النقاش العام وتدافع عن حقوق المهمشين.

أما رسالتهم إلى الدول التي تعاني من القمع فهي: "لا يمكن تحقيق التقدم دون صحافة حرة تنتقد السلطة وتنقل الحقيقة."

الصحافة في الدول القمعية

في العديد من الدول التي تعاني من الاستبداد، وتُكمم أفواه الصحفيين، وتُغلق وسائل الإعلام المستقلة، ويُحرم المواطنون من الحق في المعرفة. هذه الدول غارقة في مستنقع الفساد، والظلم، وغياب المساءلة، لأن غياب الصحافة الحرة يعني غياب الرقابة على السلطة. إلى هذه الدول ومجتمعاتها، الالتفات بأهمية الى أن لا حرية حقيقية ولا حياة كريمة دون صحافة حرة. الصحافة الحرة هي الأساس الذي يُبنى عليه كل شيء آخر: حكومات رشيدة، ومؤسسات كفوءة، ومجتمعات آمنة. بدونها، تبقى السلطة بلا رقيب، والفساد بلا حدود، والظلم بلا صوت يفضحه. إن الحرية التي تتوقون إليها لن تتحقق إلا إذا كان لديكم صحفيون أحرار ينقلون الحقيقة دون خوف، ووسائل إعلام مستقلة تتحدى الروايات الرسمية.

في السياق، ينبغي للمجتمعات في هذه الدول، إدراك أنه طالما تقبلون بقمع الصحافة، فإنكم تُسلمون مصيركم ومستقبل أجيالكم للسلطات المستبدة. الحرية تبدأ من الدفاع عن حق الصحفي في الكلمة، وحق المواطن في المعرفة، وإن دعم الصحافة الحرة هو استثمار في مستقبل المجتمع، لأنها الطريق الوحيد لبناء دولة عادلة تقوم على القانون والمؤسسات.

العراق: درس من الواقع

إذا نظرنا إلى العراق كمثال، نجد أن غياب الصحافة الحرة أو تقييدها ساهم في استمرار الفساد وسوء الإدارة. الصحفيون في العراق يواجهون التهديدات والقتل في كثير من الأحيان، مما يحد من قدرتهم على كشف الحقائق. هذا الواقع يُظهر أن الدول التي تفتقر إلى صحافة حرة تظل عالقة في دوامة الفوضى والظلم، وبعيدة عن تحقيق التقدم.

بالتالي، فإن الصحافة الحرة ضرورة وجودية لبناء دولة متقدمة. الولايات المتحدة، بتاريخها العريق وتعددية وسائل إعلامها، تُظهر كيف يمكن للصحافة أن تكون قوة دافعة للعدالة والمساءلة. وهكذا، ليس للدول التي تعاني من القمع وشعوبها التواقة إلى الحرية إلا أن يدركوا حقيقة أن لا مستقبل كريم دون صحافة حرة، عليه ينبغي أن تكون الصحافة الحرة شعارهم، ودعوتهم، وخطوتهم الأولى نحو بناء دولة القانون والمؤسسات، لأنها - الصحافة الحرة - السبيل الوحيد لتحقيق العدالة والتقدم والأمان لكم ولأجيالكم القادمة.

ملحق

(1) أستاذ القانون في جامعة ييل، وأحد أبرز الخبراء في القانون الدستوري وحرية التعبير في الولايات المتحدة، توماس إيمرسون (Thomas I. Emerson)، في كتابه The System of Freedom of Expression، يؤكد أن الصحافة الحرة هي "الركيزة الأساسية للديمقراطية"، لأنها تمكّن المواطنين من الوصول إلى المعلومات اللازمة لاتخاذ قرارات سياسية مستنيرة. وأشار إلى أن الصحافة المستقلة تحمي من استبداد الحكومات عبر كشف التجاوزات وتعزيز الشفافية.

(2) مديرة مركز حرية التعبير العالمية في جامعة كولومبيا والأكاديمية، أغنيس كالامارد   (Agnes Callamard) ترى أن "الصحافة الحرة تعتمد على سلطة قضائية قوية ومستقلة تحمي حقوق الصحفيين". وأشارت إلى أن الصحافة المستقلة تُعد "أداة حيوية للمجتمعات الديمقراطية" لأنها تكشف الفساد وتدافع عن حقوق المهمشين. رؤيتها هذه تربط بين الصحافة الحرة والنظام القضائي، مؤكدة أن بناء دولة متقدمة يتطلب مؤسسات تحمي الصحفيين من القمع.

(3) أستاذة الاتصالات في جامعة بنسلفانيا، ورئيسة سابقة لمركز أننبرغ للإعلام، والخبيرة في تأثير الصحافة على المجتمع، باربي زيليزر (Barbie Zelizer)، في كتابهاTaking Journalism Seriously ، تقول أن الصحافة الحرة هي "العمود الفقري للمجتمع المدني"، لأنها توفر منصة للنقاش العام وتمكّن المواطنين من محاسبة الحكومات. وأشارت إلى أن الصحافة الأمريكية، بفضل حماية التعديل الأول للدستور، لعبت دوراً حاسماً في تعزيز الشفافية خلال أزمات مثل الحرب في فيتنام وفضيحة ووترغيت. تركيز زيليزر على دور الصحافة في تمكين المواطنين يُظهر أن الدول المتقدمة تعتمد على صحافة مستقلة لضمان مشاركة فعالة في الحياة السياسية.

(4) أستاذ الصحافة في جامعة كولومبيا، ومؤلف كتب مرموقة حول تاريخ الصحافة الأمريكية، مايكل شادسون  (Michael Schudson)، في كتابه Why Democracies Need an Unlovable Press ، جادل بأن الصحافة الحرة "ليست محبوبة دائماً، لكنها ضرورية" لأنها تتحدى السلطة وتكشف الحقائق غير المريحة. وأشار إلى أن الصحافة الأمريكية ساهمت في بناء دولة متقدمة من خلال دورها في مراقبة الحكومة، كما في تغطية فضائح مثل أوراق البنتاغون (1971). وأكد أن "الصحافة الحرة هي أداة لتعليم الشعب وتعزيز سيادة القانون". يؤكد شادسون أن الصحافة، حتى عندما تكون مثيرة للجدل، تظل أساسية للحفاظ على ديمقراطية قوية ومؤسسات عادلة.

(5) جون ستيوارت ميل (مفكر بريطاني) دافع عن حرية التعبير والصحافة، المثال: في كتابه "عن الحرية"، يقول: "حرية الصحافة ضرورية لمنع الطغيان ولتمكين المجتمع من تصحيح أخطائه". وأكد أن الصحافة الحرة تُمكّن المجتمعات من النقاش والتطور من خلال تبادل الأفكار. أفكار ميل شكلت أساساً فكرياً للديمقراطيات الحديثة، حيث أصبحت الصحافة الحرة أداة لتعزيز العدالة الاجتماعية وبناء مؤسسات قوية.

8 / ذو القعدة / 1446هـ