الإمام الشيرازي .. محطات فكرية (7)


 

موقع الإمام الشيرازي

  

  

*  عمل الإمام الشيرازي (أعلى الله درجاته)، عبر عطاءاته المتعددة وأنشطته المتنوعة، إلى إزالة الركام التاريخي، الذي يحول دون تفاعل الإنسان المسلم فردا وجماعة مع الإسلام وقيمه الكبرى، فعمل على صياغة خطاب ديني وثقافي يستهدف ردم الهوة والمسافة بين الإسلام والمسلمين، ولقد أبلى الراحل الكبير السيد محمد الشيرازي في هذا السبيل بلاءا حسناً، فمع كثرة الصعوبات والمعوقات والمثبطات، إلا أنه لم يتوقف عن العمل في سبيل عزة الإسلام والمسلمين، بل إنه بوعيه الفذ وإرادته الصلبة، حوّل العقبات إلى عتبات للرقي بمشروعه وعطائه العلمي والثقافي. وإن من ثمار منهجه، أن الإنسان الذي يؤمن بهدف كبير، ينبغي أن يعمل إليه مهما كانت الصعوبات والعقبات، وأن لا تشغله مقولات المثبطين أو مناكفات الخصوم والمنافسين عن هدفه الأساسي، فالجهد كله ينبغي أن يتجه إلى الهدف، ولا مجال في هذا السياق إلى معارك جزئية، تعرقل المسيرة، وتضيع الغاية وتزيد من إرباك المجتمع بصراعات تافهة لا طائل من وراءها ولا رابح فيها... يقول الإمام الشيرازي رضوان الله تعالى عليه: (الإنسان الذي يعمل أكثر وبكيفية أحسن، يكون أكرم ذاتاً، والأكرمية الذاتية تتبعها الأكرمية العرضية، فإن كل ما بالغير ينتهي إلى ما بالذات، وإن المهم ألا يخرج الإنسان عن منهج الله، ليوفر لنفسه السعادة ويبعد عنها الشقاء، وحيث إن الإنسان يعيش دائماً حالة الطموح والأمل، ولكل فرد أهداف يرسمها لنفسه، ويسعى دوماً نحو تحقيقها، فإن النقطة المهمة التي يجب أن يلتفت إليها الإنسان هي أنه إذا أراد أن يكون لنفسه شخصيةً قويةً، لابد أن يجعل أعماله لله عز وجل، فإن ما كان لله ينمو، وما كان للشيطان يخبو).

 

*  ونحن في هذه الظروف الحساسة، أحوج ما نكون إلى دراسة تجارب العلماء والحركات الإصلاحية والتجديدية في الأمة، واستيعاب العبر والدروس منها، وذلك من أجل أن ننطلق في عملنا الثقافي والاجتماعي والعلمي من النقطة التي وصلوا إليها، ونستفيد من كل العمل المتراكم الذي قاموا به في فترة حياتهم. فقراءة تجارب العلماء والمصلحين وفكرهم وعطاءهم، هو من الروافد الأساسية التي تغنى واقعنا، وتثري معارفنا، وتزيدنا تواصلا مع عظماء تاريخنا. ومن الشخصيات الهامة في تاريخنا المعاصر، التي نحن بحاجة إلى دراسة تجربتها، وقراءة عطاءها، وفهم اتجاهاتها الفقهية والسياسية والثقافية والاجتماعية، هو الإمام الشيرازي (رضوان الله تعالى عليه). حيث إن تجربته مرت بمراحل وحقب متعددة، كما أن عطاءه واهتمامه الفكري والعلمي استوعب دوائر ومجالات عديدة، كما أنه لم يحصر اهتمامه بقضايا بسيطة. فالهموم التي يحملها تتسع لكل الدوائر والقضايا، وأنه لم يتخلى لحظة واحدة عن تتبعه واهتمامه بقضايا الإسلام والمسلمين في سائر بقاع الأرض.

 

*  مرجعية الإمام المجدد السيد محمد الحسيني الشيرازي مرجعية دينية لم تعرف الفصل بين الشأن الفقهي والشأن السياسي والاجتماعي، فكل هموم الأمة همومه، ومارس الخدمة والعطاء في حقول الحياة المختلفة. فهو رجل العلم والعمل، ورجل الاجتهاد والجهاد، عاش عمره الشريف كله للإسلام، فدافع عنه بفكره وقلبه، وعرّف به بلسانه وقلمه وأخلاقه، وخاض كل معاركه تحت راية الإسلام. فكانت حياته كلها للإسلام. فشعوره ووجدانه مغمور بحب الرسول الأكرم  وأهل بيته الأطهار (صلوات الله عليهم)، وبعقله وبفكره أنار طريق الأمة، وبلور أحكام الدين، وعمل بكل الوسائل على كشف حقائقه ومضامينه للناس. فكان نموذجا لذلك الإنسان الذي نذر حياته كلها للإسلام.

 

*  ترك الإمام الشيرازي مئات الكتب والأبحاث والدراسات في مختلف التخصصات، وإحياء ذكراه السنوية تعني فيما تعني الانفتاح والتواصل النوعي مع إرثه العلمي والفكري والثقافي.

 

*  الحرية بكل مستوياتها هي من أهم الأفكار والمبادئ التي عمل الإمام الشيرازي على بلورتها والدعوة لها. لذلك عمل على محاربة الاستبداد بكل صنوفه وأشكاله. واعتبر أن الحرية هي من صميم الدين، ولا يمكن أن تستقيم الحياة الإسلامية بدون الحرية ونبذ الاستبداد السياسي والاستئثار بالرأي والقرار. فالإسلام هو دين الحرية والشورى، ولم يقم هذا الدين على اضطهاد مخالفيه أو مصادرة حقوقهم أو تحويلهم بالكره عن عقائدهم أو المساس الجائر بأموالهم وأعراضهم ودمائهم، وإنما قام على الحرية والشورى والتسامح والمياسرة واللطف وفضائل الأخلاق.

 

اعتاد الناس منذ زمن بعيد أن يتعرفوا على العالم أو المرجع الديني من خلال قراءة الكتب (عنه وله) أو عن طريق آخرين يستطيعون الاتصال به أو رؤيته عن كثب، وبغير ذاك فإن الناس يُروى لهم عن المرجع سماعاً فقط، ويتبعوه للتقليد بالاستماع والقراءة أكثر بكثير من أن يشاهدونه وجها لوجه، وربما سبب هذا الواقع فجوة بين المرجعية وعموم المجتمع، بل وأثار لغطاً وسبب في أحيان مفاسد، ولقد كان لسماحة الإمام الشيرازي الراحل الريادة في تحجيم هذه الظاهرة ميدانيا، فقد أهلته علميته البالغة وحسه العقائدي وإخلاصه للدين والمبدأ الى ردم الهوة وسد كل ثغرة بإيثار وتضحية من سماحته ليتصرف تصرفاً عقلانيا حكيما لم يسبقه به أحد، لذا ابتكر أسلوب المرجعية الميدانية الذي قل أن استخدمه سواه، وهو النزول إلى الشارع فعلياً، دون أية واسطة وأي وكيل، بل نزولاً مباشراً بنفسه، إذ قد خصص من وقته الثمين جزءا ليس باليسير، للتجوال في الشارع، ومحادثة الناس وجهاً لوجه، وممارسة المرجعية الميدانية بالتبليغ بالوعظ والإرشاد شخصياً، وكان يتصل بالأفراد من أصحاب المحلات التجارية وغيرها، ويطلعهم على ما يجهلون من أمور وما يغفلون من وقائع، يحاور الكبير والصغير ويصحح الأخطاء، وهذه الممارسة قد أدت دورها الفاعل في تقويم الشخصية العقائدية والمذهبية للكثير من الناس، وكان لذلك الأسلوب الأثر الكبير في رأب الصدع، بل لتجديد التصاق الناس بالمرجعية، ولا زال الكثير من الكربلائيين يحتفظون في ذاكرتهم بالصور والذكريات لمرجعيته الميدانية وإرشاداته المباشرة.

 

*  اللاعنف (مبدأ وسلوك) أخذ حيزاً كبيراً من تنظيرات المجدد الشيرازي الثاني، وتشكل من خلال طابع شمولي، فهذا المبدأ أصل في كل المناشط الإنسانية الفكرية والاجتماعية والسياسية، وحتى العسكرية، وكي تتوضح نظرية اللاعنف عند الإمام الشيرازي لابد من الارتداد إلى المنظومة المعرفية التي شحنها (قده) بهواجسه وتطلعاته وتنظيراته، فقد ألف كتباً خاصة في توضيح نظرية اللاعنف، ولم تخلو بحوثه الأخرى من التطرق لهذه النظرية، ومن كتبه التي خصصها لشرح نظريته كتاب «اللاعنف في الإسلام».

 

*  يعد الإمام الشيرازي في مسيرته العملية مثالاً فريدا في التصدّي وتحمّل المسؤولية والجهاد في سبيل الله، وقد خاطبه كثير من الفقهاء بعد موته بهذه الصفة لمعرفتهم بملازمتها له طيلة حياته، فقد كان يحمل همّ الأمة الإسلامية، حيث عمل من خلال التأليف فـ«قد راقب باهتمام بالغ جميع حركات التحرر، وقضايا البلاد الإسلامية السياسية، والسياسات العالمية، فكتب في ذلك مجموعة من الكتب، موجهاً ومعالجاً بل ومتنبئاً.. وكمثال على هذه الكتب: (النازحون من العراق عام1391هـ)، (حوار حول تطبيق الإسلام)، (من عوامل الاستقلال في العراق)، (لنحافظ على استقلال أفغانستان)، (إلى إخواني في الهند و باكستان وأفغانستان)، (هل سيبقى الصلح بين العرب وإسرائيل؟)، (تدويل البلاد الإسلامية)، (ماذا بعد النفط؟)، (مجموعة البيانات 3ج) وهي مجموعة البيانات التي كان يصدرها الإمام الشيرازي، حول الأحداث السياسية وغيرها، ومن أبرزها: (بيان حول العصيان المدني في الانتفاضة الشعبانية في العراق – ومآل هذه الانتفاضة)، (بيان حول العدوان على الكويت - تنبأ فيه عن رجوعها إلى أهلها، وتوجيه ضربة عسكرية لنظام صدام -».

 

*  الذي يلحظ الأعداد المتزايدة من العلماء والخطباء والكتّاب والقيادات الاجتماعية وأصحاب الكفاءات المختلفة التي تنتمي للمدرسة الشيرازي في عموم منطقة الخليج، يكبر ويثمن الجهود المتفانية لهذه المدرسة، ويدرك حجم وسعة التأثير لهذه الثقافة والروح التي تقف وراءها. لقد أصبحت المنطقة تنعم بنخبة من الكفاءات في شتى المجالات الحضارية والقيادية، بعد أن كانت فقيرة جداً، ويعود الفضل في ذلك للجهود التأسيسية العظيمة التي خصصها الإمام الشيرازي الراحل رضوان الله عليه لمنطقة الخليج التي تتمتع بوجود الإمكانيات البشرية المتميزة في هذه المنطقة الحيوية.

 

*   من أهم الأمور في أي نهضة فكرية تستمد جذورها من الرؤية الدينية هو التأصيل الشرعي للقضايا الجديدة، وهذا التأصيل مهم جداً في صياغة أي مشروع فكري مرتكز على الرؤية الإسلامية. وقد اهتم الإمام الشيرازي الراحل بإعطاء رؤية شرعية تجاه المستجدات والقضايا المستحدثة، فموسوعته الفقهية لم تقتصر على الأبواب المتعارف عليها في الفقه والتي تبدأ من باب (الاجتهاد والتقليد) وتنتهي بباب (الديات)، بل أضاف لذلك العديد من الأبواب الجديدة: كالإدارة والاقتصاد والاجتماع والحقوق والقانون والبيئة والسياسة والإعلام والمرور والنظافة والتاريخ... وغيرها من المواضيع التي عمل على تأصيلها فقهياً؛ وهو الأمر الذي يكشف عن إبداعه الفقهي، وعقليته المفكرة، وذهنيته الوقادة، وعلمه الغزير.

 

*   تميز الإمام الشيرازي بالحث والتشجيع على ممارسة مختلف الأنشطة والمناشط الاجتماعية والثقافية، فمن يقرأ كتبه سيجد فيها الكثير من أدبيات العمل الثقافي والإسلامي وما يتفرع منه من فاعلية وعطاء ونشاط وحيوية واجتهاد وجد وإخلاص. وكان يحث كل من يزوره أو يلتقي به على تأسيس هيئات ثقافية، أو مؤسسات اجتماعية، أو لجان لقضاء حاجات الناس... وكان لتوجيهاته وإرشاداته الأثر الكبير في تأسيس مئات المشاريع والمؤسسات في مختلف المجالات الثقافية والإعلامية والاجتماعية. ولم يكتفِ الإمام الشيرازي بالتنظير للعمل والنشاط، بل كان هو القدوة والأسوة في ذلك، فهو مثال للفقيه العامل، وهو كتلة من النشاط، وطاقة من الحيوية والعطاء الذي لا ينقطع.

27/ذو القعدة/1435