![]() |
![]() |
مزامير علوية.... كتبها إنسان حر |
جورج جرداق |
موقع الإمام الشيرازي ثمة شيئان منفصلان، وإن كانا على اتصال, الكتابة عن "علي"، والإقتداء بـ"علي"... الكتابة عن "علي بن أبي طالب (ع)" صعبة غير أنها مركب مستطاع, أما الإقتداء بـ"علي"، فإنه أمر لا يمكن التحدث عنه إلا بالصعوبات التي تذكرك بالمحال، الذي يحتاج إذلاله الى أعاجيب القدرة. كثير من الكتّاب والباحثين والدارسين قد كتبوا عن "علي بن أبي طالب"، آلاف المجلدات والكتب والأعمال الأدبية، وجميع من كتب أقر بأن الكتابة عن "علي" عمل صعب مستصعب, لأن شخصية "علي" بالغة الثراء في جميع جوانبها, فالإحاطة بكل هذه الجوانب صعبة جداً، ولكن الجهود الإنسانية تتضافر من أجل الوصول الى كشف جوانب معيّنة من عظمة "علي" الإنسانية الخالدة, وهذا أمر معروف، غير أن الاقتداء بشخصية "علي" هو الذي يذكر بالأعمال النادرة, ثمة قادة عسكريون كبار، ومفكرون وفقهاء عظماء، وبلغاء، وزهّاد، وعباقرة، وعلماء، وفي التاريخ هناك الاسكندر العظيم، يعشق الفلسفة، فيأخذ معه (أرسطو) أستاذه، وهناك أفلاطون الفيلسوف وأستاذه سقراط، وهناك بوذا، وكونفوشيوس، وقادة الثورات، والمصلحون، كل متخصص في ميدانه، أما "علي"، فهو الحاوي على جميع سمات العبقريات المتعددة، فهو الحافظ لتراث رسول الله الأعظم (ص)، وهو الخليفة القائد، وهو المحارب العظيم، وهو الفيلسوف، وهو الأستاذ في العدل والمؤسس لعلم النحو، وهو الفقيه القاضي، والعالم بالحساب والفلك، وهو أمير الحكمة والبلاغة، وهو الإنسان النبيل, وهو الأخلاقي الرفيع، والأنموذج في كل شيء. يستطيع المرء أن يتعلم من "علي" أشياء كثيرة، ولكن لا يستطيع أن يكون مثله, فلقد كان "علي" في زمنه وحيداً إلا من قلة مخلصة إخلاصاً نادراً، ومن أنصار ومؤيدين، يتجمّعون ويتفرقون لأمر أو أمور كان "علي" أعلم بها من غيره, وحين خذلته المحنة، في زمنه، أنصفه التاريخ، فإذا بأفواج المحبين من رجال الفكر والكفاح الإنساني، والعدل، والمعرفة، يتصلون به بحسب الفكر والإيمان ونسبهما, فلقد أصبح حب "علي" حقيقة موضوعية، تاريخية، يقر بها المحب والمبغض. كان وحيداً في عبقرياته، عجيباً في مسلكه، لذلك لم يكن جميع أعدائه، من طينة واحدة، فبعض الذين حاربوه كانوا يرون فيه عدوهم الأكبر، عدو باطلهم، أو كفرهم، أو شركهم، أو ظلمهم، وبعض الذين حاربوه، رأوا فيه المقياس الذي يكشف عن بعدهم من الحق والعدل، رأوا من خلاله هزالهم، في حين كانوا يحسبون أنفسهم مهمّين، فإذا بهم في الضآلة، بالمقارنة مع شخصية "علي"، وكانوا يهيئون أنفسهم لدور كبير بين أتباعهم، فيأفل نجمهم أمام شمس "علي" النيّرة، فحاربوه لافتضاحهم بالمقارنة، ولعجزهم عن الارتفاع الى مستوى الحق والصدق, وبعض الذين تركوا معسكره, وهم كثرة, إنما فعلوا ذلك لأنهم لم يطيقوا عدله، وحقه وصدقه وحبه الكبير للناس. سئل الخليل بن أحمد العروضي الشهير، من قبل أبي زيد النحوي: " لِمَ حجر الناس علياً، وقرباه من رسول الله (ص) قرباه وموضعه من المسلمين موضعه، وعناؤه في الإسلام عناؤه؟ فأجابه الخليل:"بهر الله نوره أنوارهم، وغلبهم على صفو كل منهل، والناس الى أشكالهم أميل، أما سمعت الأول حيث يقول: وكل شكل لشكله ألِفٌ أما ترى الفيل يألف الفيلا لقد أحبه في زمنه أناس حباً خارقاً، وبالغ بعضهم في الحب، فألّهوه وكفروا، فأمر بالقذف بهم في النار، وهم غير نادمين! وهذا أمر عجيب، نادر، يفرض نفسه في طلب التحليل لظاهرته الغريبة المثيرة! هل كان ممكناً نجاح شخصية "علي" في عصرها نجاحاً سياسياً؟! وهو ما هو عليه (الحقّانية) التامة والعدل التام؟ وهل مستويات الناس الذهنية والنفسية، وحاجاتهم ومصالحهم كانت تسمح لهم بالانتماء الى عالم "علي"، عالم المثل العادلة، والإنصاف والزهد؟ لقد حسم اغتيال الإمام "علي" المناقشة، وقطع الطريق أمام محاولته التصدي للهجمة المضادة، ووجد في الموت فوزه الأكبر، قائلاً وهو يرقب مغادرة روحه: "لقـد فـزت ورب الكعبـة"! رحل "علي" واستمر الناس فيما هم عليه من صراعات سياسية، ودنيوية، ودينية، ومصلحية, لقد عاش "علي" حراً نهائياً من شرنقة المنافقين، والمساومين، والمنتفعين ،وحلفاء المارقين، فقد وجد حريته في الملكوت الأعلى، وحين ظل الآخرون, الذين ناوؤه, في عالمهم، عالم الملك والجور، فإنه أضحى فوراً علماً أبدياً ترفعه البشرية، في كل الصدور. إن شخصية "علي" خلقت لأن تكون رمزاً للعدل والحق بمواجهة الخطيئة العامة، والانحراف، والظلم، والكفر، والضلالة، إنه مثال أجمل من الجميل. فهو الإنسان البسيط، الزاهد، المتواضع، وهو الإنسان القوي، الشامخ، اللامع في شتى الألمعيات، والنادر في أغلى الندرات، والجامع لصنوف العلم، والأدب، والمعرفة، بحيوية قل نظيرها في تاريخ البشر. إن شخصية "علي" الموسوعية الهائلة، فكراً وسلوكاً، تدعو الأخيار، والشرفاء العادلين، الى الاقتداء به، وحسبهم إن عجزوا عن تحقيق أشياء وأشياء على طريق الاقتداء، فإنهم يعوضون عن ذلك العجز بالحب.. فـ"علي" جدير بالحب والإكرام من قبل كل إنسان حر، ذي ضمير نجيب.. و"علي" معلم الحب، والعفو، الذي يرنو الى التسامي فوق النظرات الضيقة التي تقسم البشر الى طبقات وفئات عنصرية، وطائفية، وعشائرية، وغيرها من التقسيمات اللاإنسانية، التي لا تليق بمن استخلفه الله على أرضه. فـ"علي" معلم عظيم كافح من أجل سمو الإنسان وارتقاءه وحياته وحريته ووجوده.. فهل هناك من يقول عن نفسه أنه إنسان ولا يقول "أنا أحب علياً, أنا علوي". |