العالم يقود أفكاره: هل يمكن التغيير بالقراءة؟

طارق القزيري

  

موقع الإمــام الشيرازي

14/شعبـــــــان/1430

     مذ أطلقها "أفلاطون" ومقولة "الأفكار تقود العالم" (Ideas rule the world) تتعزز في لحظات عديدة من التاريخ، من أهمها عندما كررها من دان له العالم، بالنجاة من الكساد العظيم : "جون كينز". وبدهي أن هذه المقولة تمنح اصحاب الافكار، ومحترفي – مثلما هواة – الكتابة، نصيبهم من الفخر المتسامي، كونهم أهل القيادة والتغيير.. بحق أو بدونه.

وبات السؤال بين المثقف والسياسي وأيهما أقدر وأكثر فعالية، مشروعاً لدرجة الإفتتان، وصارت مصطلحات كـ: المسؤولية التاريخية للمثقف، والفعالية الإجتماعية، ودور النخبة، وأثر الكتّاب في إنتاج الوعي، ودور الثقافة في التغيير، وصلة الثورة بالانتاج الفكري والابداعي.. صارت كلها رائجة، ليجلس الكاتب والمثقف بأريحية، متأبطا ذروة سنام الفخر، كفاعل أبرز، أو أهم، في حياة الجماعة والمجتمع أو الوطن..الخ.

ولكن هل هذا صحيح؟

هل تبدو التغيرات والتحولات في الاجتماع والسياسة، مديونة للحبر والأوراق وآلات الطباعة، ومن ثم مواقع الويب ومدوناته؟؟. لايشرح لنا أحد ماهي الآلية التي يتوسل بها الفكر ليفعل ويقود للتغيير؟. ألا يكون الأمر أقرب للأسطورة!!. تلحّ، وتوجّه، دون أي تمحيص ولا تحقّق. في كتابه "الميديولوجيا" يبحث "ريجيس دوبريه" بشكل مختلف للغاية في هذه المسألة!!.

دعونا ننسى الفكر، ونبحث في التغيير، طالما أنه هو المقصود اصالة، لنبحث كيف كانت تحولات الواقع، وكيف تعسرت التحولات أو استنكفت. وبالتأكيد فلا يمكننا سوى الاختزال "المخل"، ولكن الأهم هو تعزيز ثغرة لرؤية مختلفة حول الموضوع، وبمقاربة مختلفة أيضا.

* لماذا أهتم السيد المسيح بتأكيد أنه "مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَوْرَاةِ" واستمر القرأن يؤكد ويذكّر، المجتمع القبلي المكي والعربي بـ "مّلّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ"؟ أي مستوى من الوعي يتوجه إليه هذا الخطاب، الذي أفلح في التغيير فعلا؟.

لازال إنتشار المسيحية والإسلام، مثار نظر وبجدارة. فالمسيحية أكثر الديانات إنتشاراً في الأرض، والإسلام اسرعها انتشاراً، بشكل قياسي لانظير له، هما ظواهر متفردة، وآثارهم على المجتمعات التي تشربتهم، تجعلهم، نماذج تغييرية غير مألوفة ومفيدة جداً للبحث.

 

* لماذا توقفت الفتوحات الإسلامية في فرنسا عند "بلاط الشهداء – 732 م"، ولم يتسرب الإسلام لغرب أوروبا، كما فعل في أجزاء واسعة من أفريقيا وآسيا، بلا حروب؟. حتى أن السلطان سليم الأول قرر أن ينصرف عن أوروبا، مكتفيا ببلغاريا "معركة كوسوفو - 1389 م"!!. وإذا عرفنا الظروف الجغرافية لكون المسلمين في الأندلس، وطول المدة سبعة قرون، يجعل تعليق الإخفاق في وصول المسلمين لعمق غرب أوروبا، يتجاوز قضية التجهيزات والإمداد والنواحي العسكرية الصرفة. ونحن نعلم مدى التغيير الذي أحدثه دخول الإسلام، على الثقافة والاجتماع في كل مكان.

* هل كانت أفكار فولتير وروسو حقاً، أسباباً للثورة الفرنسية؟ وكيف أمكن أن يقتاد لويس السادس عشر للسجن، حاملاً معه كتب فولتير؟ أكان فولتير يعني الثورة والتغيير فعلاً آنذاك؟ أم الثورة منحته معنى تاريخياً آخر؟ هل بعث فولتير الثورة؟ أم الثورة هي من نشر فكر فولتير؟.

* هل كان يمكن أن تنجح دعوة "حسن البنا" – الإخوانية – لولا أنه رفع شعار الخلافة وإستعادتها، كعنوان أبرز له؟. الخلافة التي لم تنهار آنذاك إلا من فترة وجيزة نسبياً، وظل غيابها جرحاً مهيناً، لمسلمين تجتاح جيوش الصليبيين والفرنجة، وطنهم، وقد "تأخروا وتقدم غيرهم"!!.

* لماذا انتشر الفكر اليساري اشتراكياً وشيوعياً، في نفس المناطق التي ورثها لاحقاً الفكر الصحوي الإسلاموي؟ وهمس كثيرون عن التشابه الحركي والتأطيري، بين اللينينية والقطبية "سيد قطب"؟

* لماذا استشرت "الماركسية الثورية" في أمريكا اللاتينية، ربما أكثر من أي مكان آخر في العالم، ولا زالت ناهضة، وإن في صور مختلفة؟. وفي نفس الوقت يمثل أتباع الكنائس المسيحية في دولها، العدد الأكبر في العالم، والشعور التقديسي، مستمر بلا توقف. كيف تساوقت الماركسية والكنيسة معا، واي معنى نستفيده من تجذّر عقيدتيّ خلاص هناك؟.

وإذا أردنا العودة بتحليل مضمون الاستفهامات السابقة: يمكن أن نقرر – في حالة التسليم بصوابيتها – معطيات، ضمنية فيها، من ذلك:

1. أن الحجة المنطقية لذاتها ليست كافية، فثمة مستوى أعمق تتحدد به مواقف القبول والرفض. إذ لا يعقل أن تكون ثمة وسائل دعوية للآنبياء غير مجدية، أو غير منتجة. الإسلام والمسيحية، هما ظاهرتين مميزتين.

2. أن ثمة موانع تبدو أشبه بالدائمة، وأقرب لخصائص المجتمعات، نتيجة لظروف بالغة العمق، والتجذر أيضاً، تملي على واقعها شروط لعبة القبول والاستبعاد، بغض النظر عن توازن واتساق المقابل.

3. قد تكون الدلالات والمعاني السائدة لنص ما أو فكر ما أو منطومة فكرية وثقافية ما، مختلفة تماماً عن دلالات نفس الفكر والمنطومة في أجواء أخرى، وبشكل مضاد ربما.

4. الوعي العام نتيجة للتحشيد والتجميع، أكثر من الإقناع، فلا نتصور أن الجموع تقتنع بل تتبع، بما يعني أن البناء يكون على رصيد أساسي داخل هذه الجموع نفسها، لابد أنه ناسب هذه الفكر أو غيره، وليس لآن هذا الفكر كان مقنعاً أو مفحماً، بحسب منطق الجموع لا الآفراد.

5. التساكن بين المتضادات في مجتمع أو وعي ما، وقابلية واقع حضاري وثقافي معين لهما، يعني ان ثمة تشابهات أخرى أعمق، أو التناقض ليس هو المؤثر الرئيس، بل حيثيات أخرى، يغفل عنها النظر المؤطر مسبقا، بدوافع أخرى غير النظر المجرد والمعرفة.

فإذا كان التماسك المنطقي والحجة الذاتية غير كافية، واختلاف حالة القبول والرفض الاجتماعي لنفس الدعوات والافكار والوقائع، وأن الاتفاق الجمعي، لايقود له الاقتناع، بل التوافق والتواطؤ، كيف يكون الفكر هو من يقود التغيير؟

على الأقل نصل هنا لمرحلة التقليل من غلواء الفخر المترف لأصحاب القلم والفكر... ففي الجبة غيرهم الكثير... هذا إن كانوا قد لبسوها أساسا...

وللحديث بقية..

* كاتب ليبي – هولندا

إيلاف