بيان (موقع الإمام الشيرازي)

حول الاعتداءات التي طالت زوار البقيع ووضع الشيعة في السعودية

 

موقع الإمام الشيرازي

29/صفر/1430

من جديد تنكأ جراحات البقيع، ومن جديد يغزو أعداء الإنسان والحرية على حرمات الله وجمع من المقهورين المستضعفين، فمنذ مئات السنين يشن خوارج الماضي الأسود وتكفيريو الحاضر الدامي حرباً لا هوادة فيها على أتباع أهل البيت (ع)، فشهيد يتلو شهيد، ودماء تصل بدماء،  وظلم يتبع ظلماً، ومظلوم ينحر بعد مظلوم، فشهداء أتباع أهل البيت (ع) في العراق يذكرون بشهداء أفغانستان، وشهداء باكستان يشيرون الى شهداء هذا البلد وذاك، والقافلة تسير، وسيوف البغي والعدوان تقطف الرقاب بعد الرقاب من بين أطفال ونساء، لا لشيء سوى أنهم تمسكوا بالثقلين: كتاب الله وعترة رسول الله (ص) وجاهروا بحب من فرض الله حبهم.

لقد تمثلت شدة الحرب على أتباع أهل البيت (ع) بصور متنوعة جمعت أكثر مشاهد العنف توحشاً، وأكثر طرق القتل بشاعة بسفك الدماء وقطع الرؤوس والاعتداء على الأعراض والحرمات، وغير ذلك الاعتداءات بعد الاعتداءات على أضرحة أئمة المسلمين، جميع المسلمين، في المدينة المنورة والنجف الأشرف وكربلاء المقدسة والكاظمية المشرفة وسامراء العسكريين، فضلاً عن التهديم المروع لأضرحة البقيع المقدس الذي مازالت آثاره الأليمة باقية في الضمير والوجدان، كما إن نداءات التهدئة والتعقل التي أطلقها علماء ومفكرون ومثقفون للحد من تشدد العصابات الدينية المجرمة ووقف أعمالها الدموية بحق كل من يخالفها بالرأي لم تزد تلك العصابات إلا إصراراً على منهجها الإلغائي والإجرامي! وفي نفس الوقت فإن التكفيريين ماضون بعملهم التخريبي المستصحب لآلة قتل الإنسان وتدمير البلدان وحرق نتاج المدنية الحديثة حيث إنهم قد أغلقوا نوافذ البحث والتواصل والحوار, فهم لا يؤمنون بقيم المواطنة والتعايش السلمي بين الناس والدول والأمم, بل إنهم يسعون – وهو الأخطر – لامتلاك أسلحة الدمار الشامل ومقاليد حكومات، وضرب دول وابتزاز أخرى.

إن الحقبة السوداء التي عانت منها – وما زالت - العديد من الشعوب المسلمة وغير المسلمة من المذهب التكفيري وما عكسه على الأرض عبر تنظيمات (القاعدة، وطالبان، جيش المجاهدين) لم تكن لتنتهي في بعض البلدان لولا تظافر جهود الجميع من حكومات وشعوب وعلماء ومثقفين بالرغم من أن قوة القانون وسيف العدالة كان الفيصل في إيقاف همجية العصابات المتطرفة، ولعل أتباع أهل البيت (ع) في المملكة العربية السعودية قد خصتهم قوى التكفير بالكثير من المآسي الدامية ففي العام 1804م اندفع عبيد محمد بن عبد الوهاب من قلب الصحراء نحو المدينة المنورة حيث قدموا عرضاً من عروض تعصبهم الأعمى بتحطيم بلاطة ضريح النبي الأكرم (ص)، كما صاحبت عملية الاكتساح الوهابي لشبه الجزيرة العربية أعمال عنف مريعة ضد الشيعة حيث قام "جيش الإخوان" باجتياح منطقة الإحساء (ذات الأغلبية الشيعية) وحاول قائدهم فرض المذهب الوهابي بالقوة على ساكنيها، وفي عام 1925م عاثت الزمرة ذاتها تخريباً في "جنة البقيع"، وأقدموا في العام 1926م على قطع رؤوس عدد غفير من يشاركهم الوطن الشيعة بالسيوف، يرافق ذلك، أنه ومع تبلور معالم الدولة السعودية في ثلاثينيات القرن العشرين جرى تهميش أتباع أهل البيت (ع) بصورة ممنهجة، كما تم تجريدهم من أي دور لهم في الشأن العام بالرغم من أن الشيعة قد أبدوا الكثير من المرونة في تناسي التاريخ الأسود والتطلع نحو مستقبل أفضل يستند على أسس عادلة تعطي كل ذي صاحب حق حقه إنطلاقاً من قيم التسامح والمحبة والسلام، وتعميق المشتركات، وعبر تعزيز سبل الثقة والتعاون بين أبناء المملكة على البر والتقوى من أجل خير الجميع ومن أجل الحفاظ على وحدة الوطن السعودي، ولقد تسامحت الإدارات السعودية مع الشيعة نوعاً ما، لكنها لم تقبلهم كما هم، فكانوا الأقلية غير المرغوب فيها، ولعل التبديلات الوزارية والإدارية الأخيرة شاهد ودليل على أن هناك رفضاً مقصوداً وتهميشاً متفق عليه لأتباع أهل البيت (ع) في السعودية وإلا كيف يمكن تبرير عدم إحالة منصب وزير أو وكيل وزير أو مدير عام لأحد من أتباع أهل البيت (ع) سواء أكانوا من الشيعة الإثني عشرية أم من الطائفة الإسماعيلية.

وفي الوقت الذي يستنكر العالم همجية الاعتداء على ثلة من المؤمنات والمؤمنين من زوار البقيع المقدس كانوا يتجمعون عند المسجد النبوي الشريف لإحياء الذكرى الأليمة لشهادة الرسول الأعظم (ص) الذي قامت به عناصر ما تسمى بهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التابعة للسلطات السعودية والتي عمد فيه عناصر الهيئة المشؤومة إلى مضايقة الزوار بهدف منعهم من أداء الزيارة وقاموا بمصادرة كاميرات الفيديو التابعة للنساء اللاتي كن يؤدين مراسم الزيارة، وقد أدى تلفظ بعض عناصر الهيئة على عشرات الزائرات بألفاظ بذيئة وغير أخلاقية الى اشتباك أكثر من ألفي زائر مع عناصر الهيئة ثم تطور الأمر الى قيام هيئة الادعاء العام باعتقال عدد من الزائرين الذين احتجوا على التصرفات المشينة التي طالت النساء الزائرات فيما قامت عناصر تكفيرية بالاعتداء على أحد علماء الشيعة من خلال طعنه ثلاث طعنات نقل على أثرها الى المستشفى، وحيث تتعالى أصوات العراقيين لإنقاذ أكثر من ستمائة معتقل عراقي في السجون السعودية ينتظرون أحكاماً غير إنسانية بعد أن تم تنفيذ حكم الإعدام الذي صدر بحقهم بقطع رقاب أكثر من خمسة عشرة منهم، في هذا الوقت، يستذكر أتباع أهل البيت (ع) ذكرى مأساة طالت بأمدها وآلامها وأنفدت ما تبقى من صبر صالحي الأمة وعقلائها, فأقل ما يقال عن جريمة هدم قبور البقيع المشرفة أنها نكران لجميل النبوة الخاتمة وجفاء لئيم لبيت الرسالة الهادية وعدوان – ما زال قائماً – على الله ورسوله وإلا فأي شرعة من شرائع الله، وأي قيم يؤمن بها إنسان تبرر هدم أضرحة تضم بين ثنايا تربتها الطيبة الأجساد الطاهرة لأربعة من أولاد نبي أمة الإسلام (ص) الذي لم يسأل الأمة أجراً إلا المودة في القربى.

وكما في كل مرة, وبعد كل جريمة قتل على أبرياء واعتداء على ضريح, ومنذ عشرات السنين تقام مجالس العزاء، وتكتب الكلمات الحزينة، وتنشد القصائد الوجيعة، وتستذكر سلسلة الهجمات الهمجية، والتساؤل يبقى هو هو: الى متى سيقيم أتباع أهل البيت (ع) مجالس الرفض والعزاء, ويصدرون بيانات الشجب والتنديد, والحال على ما هو عليه, بالرغم من تكرار حوادث الاعتداء على الأضرحة المقدسة ومن يزورها؟! وأين هي المشكلة؟ هل هي في الذي دينه الهدم والتكفير؟ أم في الذي يمانع الإعمار لأكثر من سبب؟ أم إن الخلل في آلية المعالجة؟ هل أصوات الإيمان التي تدعو الى الإعمار غير مسموعة بسبب ضعفها وتشتتها؟! أم إن الحل قد يكون بـ (تدويـل القضيـة) بجانبها الإنساني والحضاري من خلال مؤتمر عالمي يستقرأ التداعيات السيئة لتلك الاعتداءات الطائفية على وحدة الأمة وثقتها بقيمها فضلاً عن تهديدها للسلام العالمي والإنساني حيث إن تواصل تلك الهجمات وبقاء تهديم قبور البقيع المقدسة دون حل لايمكن قراءته إلا أنه إصرار مقصود على تهميش إرادة مئات الملايين من المسلمين الذين يقدسون تلك الأضرحة المهدمة، ويعتبرون رفع الظلم عنها وإعمارها وزيارتها من خير الأعمال ومن أفضل الباقيات الصالحات.

لقد أصبحت – اليوم - أعمال العنف والقتال والاغتيالات تلصق بالإسلام, وبالتأكيد أن سبب ذلك لا يعود للإسلام لكنه يعود لبعض ممن يدعون بأنهم (مسلمون)؟! حيث إن لصق أعمال العنف التي تجري - هذه الأيام - بالاسلام يعود إلى بعض الممارسات اللامسؤولة لبعض الجماعات المتطرفة!! وفي أجواء الاحتقان الطائفي والمذهبي المتواجدة في عدد من البلاد الاسلامية، ومن أجل اقتناع عموم المسلمين بحتمية وجود الآخر ليكون (الآخر) مصدر غنى وليس عامل فرقة وفتنة، تكمن المحطة الأولى التي ينبغي أن ينطلق منها المسلمون في العمل على رفع المستوى الثقافي والأخلاقي والحضاري، كما يجب السعي على ترسيخ قيم السلام والتآلف والمحبة في وعي المسلمين بدينهم الذي يأمرهم بالعدل والإحسان، لأن القراءة المنحرفة للإسلام هي التي تؤدي الى بروز فكر كفكر الخوارج وهمجية القاعدة وتوحشها، قال الله تعالى: "فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ الله ُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ" الزمر: 17-18، وقال سبحانه: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا اِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ" الحجرات: 13، فالتقوى هي معيار الأفضلية كما أن ثقافة تقبل الآخر واستماع الرأي الآخر هي ملاك التعقل الذي كرر القرآن الكريم الحث عليه. واليوم يحتاج المسلمون الى تسييد مفاهيم التعايش السلمي، وتعميق أسس التعاون عبر تفعيل استلهام  سيرة قائد المسلمين رسول الله (صلى الله عليه وآله) حيث تعامل مع الآخر (مسلماً أكان أو يهودياً أو نصرانياً أو كافراً أو مشركاً) أفضل تعامل، وقد قال الله تعالى: "لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا اِلَيْهِمْ اِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" الممتحنة: 8، وقال سبحانه: "وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ" الأعراف: ،85 وقال عز من قائل: "فَذَكِّرْ اِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ،لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ" الغاشية:21-22، وقال جلّ وعلا: "لاَ اِكْرَاهَ فِي الدِّينِ" البقرة: 256. حيث إن ثقافة تقبل الآخر واستماع الرأي الآخر هي ملاك التعقل الذي كرر القرآن الكريم الحث عليه.

إن هذا الواقع المأزوم بسياسة التهميش والفكر القمعي والأحزاب المسلحة ودعاة التكفير ووحشية فتاويهم, يستدعي عقلاء الأمة وأحرارها للبحث الجاد عن حل يحفظ الأوطان والمواطنين من منزلقات الفتنة والحروب الطائفية والأهلية, وذلك بسد الفراغ الحادث في وعي عموم الأمة والذي عبره تتسرب الأفكار المتطرفة والقاتلة, ويكون ذلك من خلال نشر القيم القرآنية وثقافة أهل البيت (ع)، فإنها كفيلة باستقطاب الجهود العالمية الى صف الأخيار، كما ينبغي العمل على إيجاد هيئات عالمية لحماية الأمة ومقدساتها, وتحشيد التظاهرات السلمية في بقاع العالم لغرض محاسبة أصحاب فتاوى هدم أضرحة الإباء والحرية والحياة, وتفعيل مشاركة الشعوب وتضامنها في التعامل الإيجابي والفوري مع قتلة الإنسان، والتصدي لأعداء الحرية والعلم والحياة والرفاه!.

وفي الوقت الذي ينبغي العمل على ضمان الحريات الدينية والفكرية في العديد من بلدان المسلمين التي تفتقد حريتها كما تفتقر معالم التقدم والحياة والرفاه، من المهم تأكيد الاعتراف (قولاً وعملاً) بحقوق الأقليات الدينية والمكونات المذهبية والقومية، وبالتالي فإن الشروع بإعمار أضرحة البقيع يرتبط ارتباطاً مباشراً ومتلازماً بقوانين حقوق الإنسان التي أقرتها جميع الأديان السماوية والقوانين الوضعية والتي تستوجب الاعتراف بالملايين المهمشين من أتباع أهل البيت (ع) في المملكة العربية السعودية والتي يذكرهم بعض الإعلاميين – خطأ - بـ (الأقلية الشيعية في السعودية) وهم ليسوا أقلية، لقد تسامحت المملكة العربية السعودية – طوعاً أو كرهاً - مع قيام مؤسسات دينية تنتج عصابات دينية تكفيرية تثير الرعب والخوف والفتنة بين الشعوب والقبائل، وقد عانى المجتمع السعودي مرات ومرات من إرهاب تلك العصابات وشقيقها الأكبر تنظيم القاعدة الذي طالت أعماله الإجرامية مؤسسات الدولة والأموال العامة وممتلكات الناس في السعودية والعديد من بلدان العالم، كما هددت تلك العصابات المتطرفة أمن المجتمع السعودي وتجاوزت على حريته وحياته وأمنه واستقراره، وفي الوقت الذي تتكرر فتاوى التكفير بحق أتباع أهل البيت بين الحين والآخر، وتتواصل الانتهاكات المخزية التي ترتكبها زمر ما يسمى بـ(هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) السيئة الذكر والفعل والصيت ضد مواطني المملكة وضيوف الرحمن القادمين من كل فج عميق.. تتأكد الحاجة الى ضرورة تفعيل دور المؤسسات الحقوقية والإنسانية ومنظمات المجتمع المدني، وتوفير المناخات الحرة والآمنة للكفاءات والنخب الفكرية والثقافية التي تعمر بها المملكة، وتعديل المناهج التعليمية السعودية وإصلاحها، وفي الوقت نفسه، وفي ظل الواقع السياسي والأمني العالمي الجديد وما فرضه من تغييرات ومتغيرات من المهم التذكير بأن المسلمين (شعوب وحكومات) إذا لم يغيروا واقعهم المأزوم فكرياً وحياتياً وإنسانيـاً، فإن التغيير قد يأتي من الخارج وضمن أجندة خاصة قد لا تتفق مع مصالح المسلمين، وإن التاريخ وعي للحاضر، وإن في قصص الآخرين عبرة لأولي الألباب.

موقع الإمام الشيرازي

www.alshirazi.com

29/صفر/1430