ولا تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّه (9) وجوه الجمع بين الروايات المتعارضة في السباب

السيد مرتضى الشيرازي

 

موقع الإمام الشيرازي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين،

ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً،

واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

 

سبق: إن طوائف الروايات في السباب قد تبدو متعارضة؛ إذ هناك ما يدل على حرمته، كقول أمير المؤمنين (عليه السلام): "إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ وَلَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وَذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ" (1). وهناك ما يدل على وجوبه في بعض الصور، كقول رسول الله (صلى الله عليه وآله):"إِذَا رَأَيْتُمْ أَهْلَ الرَّيْبِ وَالْبِدَعِ مِنْ بَعْدِي فَأَظْهِرُوا الْبَرَاءَةَ مِنْهُمْ وَأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ وَالْقَوْلَ فِيهِمْ وَالْوَقِيعَةَ وَبَاهِتُوهُمْ كَيْلَا يَطْمَعُوا فِي الْفَسَادِ فِي الْإِسْلَامِ وَيَحْذَرَهُمُ النَّاسُ" (2) وحيث إن الرواية الأولى موردها -وهو معاوية- أهل الريب والبدع، بل هم من أجلى مصاديقها، فتتعارض مع الثانية، ولا يمكن تخصيص الأولى بالثانية وإلا استلزم خروج المورد القبيح.

وقد سبق أن هاتين الطائفتين أما مندرجتان في باب التزاحم، وأما مندرجتان في باب التعارض:

والتعارض يبتني على تكاذب الدليلين مما ينتج عدم ثبوت الملاك إلا في أحدهما، وهو الراجح منهما بالمرجحات المنصوصة أو الأعم -على مبنى الشيخ- ووجود الخلل في صدور الآخر (أو جهة صدوره أو إرادته بالإرادة الجدية)(3). وأما لدى التساوي فالتساقط هو الأصل الأولي والتخيير (الظاهري) هو الأصل الثانوي، مما يكشف عن عدم توفرهما معاً الملاك ثبوتاً، بل أحدهما فقط أو لا شيء منهما. فتأمل.

والتزاحم يبتني على تسليم صدورهما واحتواء كل منهما على الملاك، ولكن حيث ضاقت قدرة العبد عن الجمع بينهما حدث التدافع العرضي والتزاحم، وعليه يجب تقديم الأهم، وذلك مما يقع بعهدة المكلف في التزاحم الامتثالي، وبعهدة المولى في التزاحم الملاكي.

كما سبق، عرض وجه الحل على كلا المبنيين، والآن سنزيد ما حققناه في الدرس السابع في وجه الجمع بين طائفتي الروايات، بناء على التعارض، وصفوته: إن التعارض بدوي، وإن وجه الجمع ثابت، وإنه عرفي، وإنه تشهد به الروايتان بنفسهما، وذلك مبني على تعدد إطلاقات السباب ومزيد تحقيقه وتوضيحه في ضمن مطالب:

الإطلاقات المتعددة والمعاني المتنوعة

المطلب الأول: إن اللفظ الواحد قد يطلق على معنيين أو أكثر، أو فقل أنه يستعمل في معنيين أو أكثر بشكل عرفي، وبما تساعد عليه اللغة أيضاً، وقد يراد منه، في استعمالٍ في آية أو رواية أو في كلام العرف، معنى، ويراد به في استعمالٍ آخر في آية، أو رواية أخرى، أو في كلام العرف مع معنى آخر، وحيث قد لا يلتفت المستمع إلى وجود إطلاقين أو معنيين لهذه الكلمة، فقد يتوهم التخالف أو التعارض بين الروايتين النافية أحداهما والمثبتة اخراهما، ولنضرب لذلك أمثلة من الروايات ومن العرف جميعاً:

إطلاقات (الكفر) الستة

1-  كلمة (الكفر)، فإن لها إطلاقات متعددة، فقد يراد بها ما يقابل الإسلام، وقد يراد بها ما يقابل الإيمان، وقد يراد بها ما يقابل النعمة، وقد يراد بها الترك أو البراءة، وقد يراد بها الأمر التكويني: فقد يقال (كافر)، ويراد أنه كافر بالله تعالى أو بالنبوة، وهذا له أحكام منها: النجاسة مثلاً أو عدم جواز زواجه من مسلمة، وقد يقال (كافر) ويراد به الكافر بالإمامة، وهذا له أحكام أخرى؛ فمثلاً ليس بنجس ويجوز زواجه من الشيعية، لكنه لا يصح أن يكون إمام جماعة للشيعة مثلاً، وقد يقال (كافر) ويراد به الكافر بالنعمة الإلهية، قال تعالى: (لِيَبْلُوَني‏ أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ)(4) على رأي، وقال تعالى: (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً)(5)،وقد يراد بالكافر (الساتر) للشيء تكويناً ولذا سمي المزارع كافراً لأنه يستر. وقد ذكرنا في بعض الكتب:

"ومن الأمثلة الكلامية والفقهية: عنوان (الكفر)، فإن له ـ كما يستفاد من عدد من الآيات والروايات ـ إطلاقات خمسة(6)، بل إن هذه الإطلاقات الخمسة هي صريح رواية الإمام الصادق (عليه السلام) الآتية، وكل منها يختص بآثار وأحكام، فلا يصح القياس إلا بعد تحديد المعنى المراد به لو أخذ كأوسط في كل من الصغرى والكبرى، فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) إن الكفر على خمسة أوجه ـ نذكرها بتوضيح أو تصرف وإضافات(7):

الأول: كفر الجحود بالربوبية، وأنه لا جنة ولا نار، كما في من قالوا: (وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ)(8).

الثاني: كفر الجحود بما هو الحق الثابت عنده، كما في ما جاء في قوله تعالى: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً)(9). إذ المراد جحدوا بالآيات التي جاء بها موسى كالطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم واليد البيضاء، وعلى أي فمطلق جحود ما ثبت أنه حق لديك هو كفر(10).

الثالث: كفر النعمة، كما في قوله تعالى: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)(11). وقوله: (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ)(12). و(فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ)(13).

الرابع: الكفر بمعنى الترك، فالتارك شيئاً هو كافر به، كقوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ)(14). والمراد بالكفر بحسب نص الإمام الصادق (عليه السلام) ههنا هو: وتتركون العمل ببعض الكتاب، وكلام الإمام في حد ذاته حجة في التفسير، فلا يرد أنه لعل المراد الكفر النظري أو العقدي لا العملي، إضافة إلى أن الظاهر أنهم كانوا يؤمنون بحرمة سفك الدماء والإخراج، لكنهم عملاً كانوا يخالفون، بل إن ظاهر الآيتين بتمامها هو الكفر العملي ـ فلاحظ ـ بل لعل صريحها هو ذلك(15).

وعليه: فإن كل من لا يعمل بقوانين الإسلام السياسية والاقتصادية والحقوقية وغيرها، فهو كافر بهذا المعنى.

الخامس: الكفر بمعنى البراءة، كما في قوله تعالى: (كَفَرْنَا بِكُمْ)(16). أي تبرأنا منكم وكذلك الأمر في: (يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ)(17)(18).

ومن ذلك يتضح معنى ما ورد في الروايات الكثيرة من كفر المخالف، فإنه لا يراد به الإطلاق الأول بل الثاني في بعضهم، بل يراد الثالث أو الرابع فيهم جميعاً، كقول الإمام الصادق (عليه السلام) عندما سئل عن قول الله (عز وجل):‏ (فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ)‏،فقال: "عَرَفَ‏ اللَّهُ‏ إِيمَانَهُمْ‏ بِوَلَايَتِنَا وَكُفْرَهُمْ بِهَا يَوْمَ أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ فِي صُلْبِ آدَمَ عليه السلام وَهُمْ ذَرٌّ" (19).

وقد يقال: بأن جامع المعاني الخمسة هو الستر، وأنه الموضوع له، ولذا يقال للزارع: إنه كافر، لأنه يستر البذرة في الأرض، قال تعالى: (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ)(20)(21).

والارتداد

2- وكذلك كلمة (الارتداد)؛ وقد ورد "ارْتَدَّ النَّاسُ بَعْدَ النَّبِيِّ إِلَّا ثَلَاثَةَ نَفَرٍ الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ وَأَبُو ذَرٍّ الْغِفَارِيُّ وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ، ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ عَرَفُوا وَلَحِقُوا بَعْدُ" (22). وهنا قد يتصور الجاهل بتعدد الإطلاقات أن المقصود أنهم كفروا بالله العظيم أو بالرسول الكريم، وأنهم مرتدون بالمعنى الأخص، وأن زوجاتهم – على ضوء ذلك تبين وتنفصل منهم/ وإن إرثهم يقسم، وإن بدنهم قد تنجس، وإنه قد وجب الحد على مرتدهم الفطري والملي -بنوعيه- لكنه لو التفت إلى أن الارتداد له إطلاقات، وهو يختلف باختلاف المتعلَّق، وإن المراد الارتداد عن الإمامة وعن حكم الله فيها، لَعَلِم  بأن الأحكام السابقة لا تترتب، بل أحكام أخرى فرعية، ككونه لا يستحق الزكاة الواجبة ولا يُصلّى خلفه وما أشبه ذلك.

والإمامة

3- (الإمامة)؛ فإنها تطلق على إمام الجماعة، وإمام الجمعة، وتطلق على الإمام المعصوم (عليه السلام).

والملكية

4- (الملك)؛ فإن له إطلاقات عديدة، كما أوضحناه في بحث (حق الخلو – السرقفلية)، وإن منه الملك المبعّض ذاتاً وآثاراً.

والجنّ

5- (الجن)؛ فإنه قد يطلق، ويراد به الكائن المعروف (المخيف لبعض)، وقد يراد به كل ما جنّ واستتر فيشمل المكروب والفايروس مثلاً.

والعرفان

6- (العرفان)؛ فقد يراد به المعنى اللغوي الأعم جداً، وهو مصدر عرف يعرف معرفة وعرفاناً، وقد يراد به المعنى الضيق جداً المصطلح عليه لدى بعض والمقصود به عرفان أمثال ابن عربي، وقد يراد به معنى آخر هو عرفان أهل البيت (عليهم السلام)، كما فيما في الصحيفة السجادية، وههنا تتجلى مغالطة بعض -مثلاً- حيث يستدل على صحة العرفان بالمعنى الأخص بأن بعض العلماء كالمقدس الأردبيلي فرضاً مدح العرفان! مع إن مراده عرفان أهل البيت (عليهم السلام) وليس عرفان فصوص الحكم والفتوحات!.

7- (السب)؛ فإن له إطلاقات متعددة كما سيأتي.

الوجه في تعدد الإطلاقات

المطلب الثاني: إن الوجه في تعدد الإطلاقات هو أحد الأمور التالية:

أ- فقد يتعدد الإطلاق ويتنوع المعنى نظراً للاشتراك اللفظي بين المعاني العديدة، نظير العين الموضوعة لسبعين معنى، منها: الباصرة، ومنها: النبع الجارية، ومنها: الجاسوس، ومنها: عين الركبه والذهب وغير ذلك، فهذه الإطلاقات كلها حقيقية ونحتاج حينئذٍ إلى القرينة المعينة، وليس السباب من هذا القبيل ظاهراً.

ب- وقد يتعدد الإطلاق ويتنوع المعنى لكون أحدهما موضوعاً له، والآخر مجازاً غالباً، لكن لا إلى حد هجران المعنى الحقيقي، وإلا كان من المنقول، وحينئذٍ يتردد المعنى بينهما.

ج- وقد يتعدد المعنى نظراً للاشتراك المعنوي بين الحصص مع الانصراف تارة إلى هذا المعنى – عند قوم أو في مكان أو زمان خاص – وتارة إلى معنى آخر، عند قوم آخرين أو في زمان أو مكان آخر، كما قد يكون الانصراف لمناسبات الحكم والموضوع أو غير ذلك(22).

د- وقد يتعدد الإطلاق نظراً لكون الموضوع له حقيقة تشكيكية ذات مراتب، فقد ينفي أحدهما صدق عنوانٍ على موضوع، وهو يريد المرتبة الأعلى، وقد يثبت الآخر الصدق، وهو يريد المرتبة الأدنى، ولا تعارض بينهما؛ إذ انصب النفي والإثبات على مرتبتين، لكن الجاهل بوجود مرتبتين قد يتصور التناقض بين النفي والإثبات، إذ توهم ورودهما على أمر واحد ومعنى فارد.

ومن ذلك مثلاً (الحلو) أو (المالح)، فإن أحدهما قد ينفي الحلاوة عن الشاي أو العصير بينما يثبتها الآخر، وقد يقول أحدهما الطعام مالح وينفي الآخر، ولا تهافت إذ يريد كل منهما مرتبة، وكذلك (النور)، فإن له مراتب، وقد ينفى إطلاقه على المراتب النازلة جداً، وكذلك (البياض) أيضاً.

وكذلك (العدالة)، فإن لها مراتب بناءً على انها الملكة، إذ أين عدالة الإمام المعصوم من عدالة مرجع التقليد؟ بل أين عدالة مرجع التقليد من عدالة الشاهدين، أو من عدالة إمام الجماعة؟ فإن لكل منهم مرتبة مشترطة -على رأي-(24)، وقد توهم مَنْ رأى أن روايات العدالة متعارضة غفلة، عن مراتبها، وإن بعض الروايات تعرِّف مرتبة، وبعضها تعرِّف مرتبة أخرى، وقد ذكر السيد العم (دام ظله) أربعين رواية – وكثير منها طوائف – حول العدالة، وبيّن أنها لا تخالف بينها، وجمع بينها وحصر التخالف في عدد محدود منها جداً، فراجع بيان الفقه/الاجتهاد والتقليد. هذا.

الإطلاقات المتعددة في (السباب)

والمستظهر، أن للسباب إطلاقات متعددة، وقد تعود للوجه الأخير أو للوجه الثالث والثاني، بل والأول إذا قيل بالوضع التعيّني لبعض إطلاقات، ولا يهمنا الآن تحقيق حال إن تعدد الإطلاقات السباب هو من أي باب، بل المهم إثبات أصل تعدد إطلاقات السباب وذلك على ضوء اللغة، وكلمات الفقهاء والعرف أيضاً:

معاني السباب في كلمات اللغويين

ففي مفردات الراغب: "السَّبُّ: الشّتم الوجيع" (25). وهو كما ترى تفسير بالمعنى الأخص وفي معجم مقاييس اللغة: (إن أصل هذا الباب القطع)، أقول: وسميّ السبّ سباً إما لأنه يقطع علاقتك بالآخر المسبوب، وأما لأنه يجرح عرضه ويخرقه ويقطعه، ولذا قال في (جمهرة اللغة): "وأصل السب الْقطع ثمَّ صَار السب شتما لِأَن السب خرق الْأَعْرَاض" (26). وعلى هذا فالسب له معنى واسع أعم.

وفي معجم مقاييس اللغة أيضاً "أَنَّ أَصْلَ هَذَا الْبَابِ الْقَطْعُ، ثُمَّ اشْتُقَّ مِنْهُ الشَّتْمُ. وَأَكْثَرُ الْبَابِ مَوْضُوعٌ عَلَيْهِ. مِنْ ذَلِكَ السِّبُّ: الْخِمَارُ، لِأَنَّهُ مَقْطُوعٌ مِنْ مِنْسَجِهِ... وَمِنْ هَذَا الْبَابِ السِّبْسَبُ، وَهِيَ الْمَفَازَةُ الْوَاسِعَةُ" (27). أقول: لأن الإنسان ينقطع فيها عن آثار العمران أو عن الخلق أو ينقطع فيها الأمل بالنجاة لو ضاع.

وفي لسان العرب: "سبب: السَّبُّ: القَطْعُ(28). سَبَّه سَبّاً: قَطَعه؛ قَالَ ذُو الخِرَقِ الطُّهَوِيُّ:

فَمَا كَانَ ذَنْبُ بَني مالِكٍ، ... بأَنْ سُبَّ مِنْهُمْ غُلامٌ، فَسَبْ

وسَبْسَبَ إِذا قَطَع رَحِمه. والتَّسابُّ: التَّقاطُعُ. والسَّبُّ: الشَّتْم(29). وَهُوَ مَصْدَرُ سَبَّه يَسُبُّه سَبّاً: شَتَمَه؛ وأَصله مِنْ ذَلِكَ. وسَبَّبه: أَكثر سَبَّه.

والسَّبَّابةُ: الإِصْبَعُ الَّتِي بَيْنَ الإِبهام والوُسْطى، صفةٌ غَالِبَةٌ، وَهِيَ المُسَبِّحَةُ عِنْدَ المُصَلِّين. والسُّبَّة: العارُ؛ وَيُقَالُ: صَارَ هَذَا الأَمر سُبَّةً عَلَيْهِمْ، بِالضَّمِّ، أَي عَارًا يُسبُّ بِهِ. وَيُقَالُ: بَيْنَهُمْ أُسْبوبة يَتَسابُّونَ بِهَا أَي شَيْءٌ يَتشاتَمُونَ بِهِ. والتَّسابُّ: التَّشاتُم. وتَسابُّوا: تَشاتَمُوا. وسابَّه مُسابَّةً وسِباباً: شاتَمه. والسَّبِيبُ والسَّبُّ: الَّذِي يُسابُّكَ.

وَرَجُلٌ سِبٌّ: كثيرُ السِّبابِ. ورجلٌ مِسَبٌّ، بِكَسْرِ الْمِيمِ: كثيرُ السِّبابِ. وَرَجُلٌ سُبَّة أَي يَسُبُّه الناسُ؛ وسُبَبَة أَي يَسُبُّ الناسَ.

والسِّبُّ: السِّتْرُ. والسِّبُّ: الخمارُ. والسِّبُّ: العِمامة. والسِّبُّ: شُقَّة كَتَّانٍ رقِيقة.

والسَّبَبُ: كلُّ شيءٍ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلى غَيْرِهِ؛ وَفِي نُسخةٍ: كلُّ شيءٍ يُتَوَسَّل بِهِ إِلى شيءٍ غيرِه، وَقَدْ تَسَبَّبَ إِليه، والجمعُ أَسْبابٌ؛ وكلُّ شيءٍ يُتَوصّلُ بِهِ إِلى الشيءِ، فَهُوَ سَبَبٌ. وجَعَلْتُ فُلاناً لِي سَبَباً إِلى فُلانٍ فِي حاجَتي وَوَدَجاً أَي وُصْلة وذَريعَة(30).

والسِّبُّ: الحَبْلُ، فِي لُغَةِ هُذَيْلٍ؛ وَقِيلَ: السِّبُّ الوَتِد.

والسَّبَبُ: الحَبْلُ كالسِّبِّ، وَالْجَمْعُ كَالْجَمْعِ، والسُّبوبُ: الحِبال.

سبسب: السَّباسِبُ والسَّبْسَبُ: شجرٌ يُتَّخَذُ مِنْهُ السهامُ(31).

والسَّبْسَبُ: المَفازَة. وَفِي حَدِيثِ

قُسٍّ: فبَيْنا أَنا أَجُولُ سَبْسَبَها؛

السَّبْسَبُ: القَفْرُ والمَفازة. قَالَ ابنُ الأَثير: ويُرْوَى بَسْبَسَها، قَالَ: وهُما بِمَعْنًى. والسَّبْسَبُ: الأَرضُ الـمُسْتَوِية الْبَعِيدَةُ. ابْنُ شُمَيْلٍ: السَّبْسَب الأَرض القَفْرُ الْبَعِيدَةُ، مُسْتَوِيَةً وغيرَ مستويةٍ، وغَليظة وغيرَ غليظةٍ، لَا ماءَ بِهَا وَلَا أَنِيسَ.

مُسَبَّبَة، قُبّ البُطُونِ، كأَنها ... رِماحٌ، نَحاها وجْهَة الريحِ راكزُ" (32). وكما ان السبسب أرض قفر بعيدة غير مستوية ولا ماء بها ولا انيس، فكذلك السباب يوحش ما بين الأصحاب، ويحول العلاقات بين الأنام وبين البلاد والعباد إلى قفر ويباب وخراب.

تعريفات ومعاني السباب لدى الفقهاء

وأما الفقهاء فقد تراوحت تعريفاتهم بين معاني مختلفة أوسع وأضيق ومن وجه، ولكن جوهرها كالآتي: العاملي (قدس سره): ما تضمن إزراء ونقصاً، المجلسي (قدس سره): ما تضمن استخفافاً وإهانةً، الشيخ الأنصاري (قدس سره): ما قصد فيه الإهانة والتحقير، الخوئي (قدس سره): ما تضمن الإهانة والتعيير.

فأنت ترى اختلاف التعاريف بين ما اشترط فيه (قصد الإهانة) كالشيخ وما لم يشترط كغيره، والفرق كبير إذ التعاريف الأخرى تنيط السب بواقع كونه إهانة واما الشيخ فينيطه بقصده الإهانة فلو لم يقصدها لم يكن سباً وإن كان ثبوتاً إهانةً.

كما أن الفرق – سعة وضيقاً أو عموماً من وجه – كبير بين الإزراء والإهانة والتعيير والاستخفاف؛ إذ قد يهينه من غير تعيير، بل قد يكون إهانة من غير استخفاف عرفاً. فتأمل

الشيخ الأنصاري قدس سره

وإليك نص ما قاله الشيخ (قدس سره):"ثم إنّ المرجع في السبّ إلى العرف.

وفسّره في جامع المقاصد بإسناد ما يقتضي نقصه إليه، مثل الوضيع والناقص.

وفي كلام بعض آخر: أنّ السبّ والشتم بمعنى واحد.

وفي كلام ثالث: أنّ السبّ أن تصف الشخص بما هو إزراءٌ ونقص، فيدخل في النقص كلُّ ما يوجب الأذى، كالقذف والحقير والوضيع والكلب والكافر والمرتد، والتعبير بشيء من بلاء اللّه تعالى كالأجذم والأبرص.

ثم الظاهر أنّه لا يعتبر في صدق السبّ مواجهة المسبوب. نعم، يعتبر فيه قصد الإهانة والنقص، فالنسبة بينه وبين الغيبة عموم من وجه.

والظاهر تعدد العقاب في مادة الاجتماع؛ لأنّ مجرد ذكر الشخص بما يكرهه لو سمعه ولو لا لقصد الإهانة غيبة محرمة، والإهانة محرّم آخر" (33).

أقول: وأنت ترى أن مثل قولك (فلان كافر) أو (يا كافر) لشخص ما هو سب بالمعنى الأعم، وليس سباً بالمعنى الأخص؛ أو فقل هو سب بالمعنى الثاني؛ أي الوصفي، أي إنك قد وصفت واقع حاله لأنه بالفعل كافر بالله – فيمن هو كذلك – ولكنه قد لا يكون سباً بالمعنى الأول؛ أي السب العَلَمِي، إذ قد لا يراه الطرف الآخر نقصاً وإزراء عليه، بل قد يراه فخراً وكمالاً، وكذلك عامة من تنسب إليه أمراً، فإن قولك للمستبد إنه مستبد قد يؤلمه، وقد يفرحه، إذ يرى الشورى أو الديمقراطية ضعفاً ووهناً لا كمالاً(34). فهو سب بالمعنى الثاني الوصفي، وليس بسبِّ بالمعنى العَلَمِي.

العلامة المجلسي قدس سره

وقال العلامة المجلسي (قدس سره) في مرآة العقول: "وفي اصطلاح الفقهاء هو السب الذي لم يكن قذفا بالزنا ونحوه كقولك: يا شارب الخمر أو يا آكل الربا، أو يا ملعون، أو يا خائن، أو يا حمار، أو يا كلب، أو يا خنزير، أو يا فاسق، أو يا فاجر، وأمثال ذلك مما يتضمن استخفافا أو إهانة، وفي المصباح: سبه سبا فهو سباب، ومنه يقال للإصبع التي تلي الإبهام سبابة لأنه يشاربها عند السب، والسبة العار وسابه مسابة وسبابا أي بالكسر، واسم الفاعل منه سب" (35).

السيد الوالد قدس سره

وقال السيد الوالد (قدس سره): "لا يقال: فلماذا نرى كلمات اللعن والسب أو ما أشبه في القرآن الحكيم، مثل قوله سبحانه: (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ)(36). وكذلك سب الأشخاص مثل : (عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنيمٍ)(37). قال تعالى: (أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ)(38). وقال سبحانه: (أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)(39). وقال عز وجل: (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى‏ يَوْمِ الدِّين)(40). وقال جل ثناؤه: (وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)(41).

لأنه يقال: إذا كان النقص واقعياً، ورجع الأمر إلى إرشاد الطرف، أو إرشاد أهله وعشيرته أو الآخرين لزم، وهذا ليس من السباب في شيء، بل داخل في إرشاد الجاهل، وتنبيه الغافل، وإراءة الطريق للضال، فالمنع والجواز لهما موردان، وهذان عقليان قبل أن يكونا شرعيين.

هذا بالإضافة إلى أن كلمات اللعن وشبهه الموجودة في القرآن الكريـم كثيراً منها لا توجه إلى أسماء معينة مذكورة، بل الى من يحمل تلك الصفات الرذيلة أو الأمم السابقة، فالتركيز يكون على الصفات والأفكار والعقائد وأنواع السلوك والعمل، لا الأفراد بأنفسهم، أما ما توجه الى أسماء معينة كقوله تعالى: (تَبَّتْ يَدا أَبي‏ لَهَبٍ وَتَبَّ)(42). فإنه يدخل في باب التزاحم والأهم وما أشبه كما لا يخفى."

وقوله قدس سره "ليس من السباب في شيء" أي بالمعنى العَلَمِي.

السيد الخوئي قدس سره

وقال السيد الخوئي في مصباح الفقاهة: "الظاهر من العرف واللغة اعتبار الاهانة والتعيير في مفهوم السب، وكونه تنقيصاً وإزرء على المسبوب، وإنه متحد مع الشتم، وعلى هذا فيدخل فيه كلما يوجب إهانة المسبوب وهتكه، كالقذف والتوصيف بالوضيع واللا شئ، والحمار والكلب والخنزير، والكافر والمرتد، والأبرص والأجذم والأعور، وغير ذلك من الألفاظ الموجبة للنقص والإهانة، وعليه فلا يتحقق مفهومه إلا بقصد الهتك، وأما مواجهة المسبوب فلا تعتبر فيه" (43).

والمستظهر كما سبق: تعدد إطلاقات السب، وإن له مراتب مختلفة شديدة وضعيفة، وعلى ذلك قد ينفي أحدهما السب، ويثبته الآخر من غير تنافٍ؛ إذ كل منهما يثبت أمراً لا ينفيه الآخر، وإذا أردنا اختصار إطلاقات السبّ في إطلاقين، فنقول: إن أساس الإطلاقين هما: السب بالمعنى العَلَمِي الضيق والذي نسميه السب بالمعنى الأول، والسب بالمعنى الوصفي الواسع، والذي نسميه السب بالمعنى الثاني.

حوار افتراضي يجسد معنيين للسباب

ويرشدك إلى ذلك الحوار التالي المفترض بين شخصين خاطب أحدهما الآخر بقوله:

أ- يا شارب الخمر أو يا كسول – إذا كان ينام كثيراً – أو يا كافر.

ب- فيقول له الآخر: لقد سببتني! أو لماذا تسبني؟

ج- فيجيبه الأول: كلا، لم أسبك! وإنما وصفت واقع حالك وما أنت عليه وليس ذلك بالسباب!

د- يجيبه: كلا؛ إذا لم أقصد إهانتك والإزراء بك أو تعييرك بل قصدت شرح واقع حالك!.

هـ- فيردّ عليه: لا علينا بقصدك، لقد سببتني والله!

وعند الرجوع إلى العرف نجد صحة الحمل وصحة السلب معاً في إطلاق السباب على ما قاله من (يا كافر أو يا جبان أو يا كسول أو يا شارب الخمر)، فإنه يصح حمله عليه بالإطلاق الثاني (وصف النقص الثبوتي الذي هو فيه)، ولا يصح حمله عليه بالإطلاق الأول (السب العَلَمِي). والحاصل: إن الأول صادق في قوله سببتني، والآخر صادق أيضاً في قوله لم أسبك، فإن (ب) اعتمد في حمله السباب وإسناده لزيد في ارتكازه على المعنى الثاني الوصفي، و(ج) اعتمد في نفيه السب على المعنى الأول العلمي و(د) اعتمد على رتبة من السباب يشترط فيها القصد (وإلا لم يكن سباباً) ولذلك نفاه، فليس يا كافر مادام لم يقصد الإهانة بل مجرد وصف واقع حاله سباً، و(هـ) اعتمد على رتبة منه لا يشترط فيها القصد ولذلك قال انه سبّه.

نموذج من خطبة الشقشقية

ولنمثل لذلك بمثال من نهج البلاغة حيث قال (عليه السلام) في الخطبة الشقشقية "أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا فُلَانٌ وَإِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ وَلَا يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْرُ فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً وَطَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً وَطَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ وَيَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ وَيَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى فَصَبَرْتُ وَفِي الْعَيْنِ قَذًى وَفِي الْحَلْقِ شَجًا أَرَى تُرَاثِي نَهْباً حَتَّى مَضَى الْأَوَّلُ لِسَبِيلِهِ فَأَدْلَى بِهَا إِلَى فُلَانٍ بَعْدَهُ ثُمَّ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ الْأَعْشَى:

شَتَّانَ مَا يَوْمِي عَلَى كُورِهَا       وَيَوْمُ حَيَّانَ أَخِي جَابِرِ

 

فَيَا عَجَباً بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُهَا فِي حَيَاتِهِ إِذْ عَقَدَهَا لِآخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا فَصَيَّرَهَا فِي حَوْزَةٍ خَشْنَاءَ يَغْلُظُ كَلْمُهَا وَيَخْشُنُ مَسُّهَا وَيَكْثُرُ الْعِثَارُ فِيهَا وَالِاعْتِذَارُ مِنْهَا فَصَاحِبُهَا كَرَاكِبِ الصَّعْبَةِ إِنْ أَشْنَقَ لَهَا خَرَمَ وَإِنْ أَسْلَسَ‏ لَهَا تَقَحَّمَ فَمُنِيَ النَّاسُ لَعَمْرُ اللَّهِ بِخَبْطٍ وَشِمَاسٍ وَتَلَوُّنٍ وَاعْتِرَاضٍ فَصَبَرْتُ عَلَى طُولِ الْمُدَّةِ وَشِدَّةِ الْمِحْنَةِ حَتَّى إِذَا مَضَى لِسَبِيلِهِ جَعَلَهَا فِي جَمَاعَةٍ زَعَمَ أَنِّي أَحَدُهُمْ فَيَا لَلَّهِ وَلِلشُّورَى مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الْأَوَّلِ مِنْهُمْ حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إِلَى هَذِهِ النَّظَائِرِ لَكِنِّي أَسْفَفْتُ إِذْ أَسَفُّوا وَطِرْتُ إِذْ طَارُوا فَصَغَا رَجُلٌ مِنْهُمْ لِضِغْنِهِ وَمَالَ الْآخَرُ لِصِهْرِهِ مَعَ هَنٍ وَهَن..." (44).

وقوله: "لَقَدْ تَقَمَّصَهَا..." و"فَأَدْلَى بِهَا إِلَى فُلَانٍ بَعْدَهُ" و"أَرَى تُرَاثِي نَهْباً" و"لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا" و"فَصَيَّرَهَا فِي حَوْزَةٍ خَشْنَاءَ..." يراه الوهابي شتماً وسباً، لكنه لا يعدو كونه وصفاً لواقع الحقائق التاريخية إضافة إلى دراسة نفسية سيكولوجية، وكذا قوله عليه السلام " مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الْأَوَّلِ مِنْهُمْ حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إِلَى هَذِهِ النَّظَائِرِ لَكِنِّي أَسْفَفْتُ إِذْ أَسَفُّوا وَطِرْتُ إِذْ طَارُوا..."

جرح الشهود والرواة ونصح المستشير

ومن ذلك أيضاً (جرح الشهود)؛ فإن جرح الشهود ليس سبّاً، وإن كان سبّاً! والمراد من (ليس سبّاً)، أي ليس سباً بالإطلاق الأول العَلَمِي، وهو سب بالإطلاق الثاني الوصفي.

ومن ذلك أيضاً (جرح رواة الحديث) في كتب علم الرجال فإنه كسابقه.

ومن ذلك: ما يقوله الناصح في مقام (نصح المستشير) من عيوب الرجل المقبل على خطبة فتاة ولنسمّه زيداً مثلاً، فإنه ليس بسبّ، وهو سبّ أيضاً بحسب الإطلاقين! فإن ذلك الرجل المسمى بزيد لو أطلع على أنه قال عنه عمرو كذا، اعترض بـ لماذا سببتني عند أهل العروس؟ فيجيب عمرو: لم أسبّك، وإنما عملت بواجب النصيحة، ووصفتك بما هو فيك لا أكثر!

وجه الجمع بين "وَأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ" وبين "إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ"

وعلى ضوء ذلك، يقع الجمع بين الروايتين، وقد فصلناه في الدرس السابع، ونقتطف منه بتصرف بسيط ما ذكرناه هناك مرة أخرى:

"فالمنفي السبُّ الأخص والمثبَت السبُّ بمعنى وصف حالهم

والمستظهر في الجمع بين الروايتين "إن لم نقل بانها من باب التزاحم، وليس من باب التعارض البدوي ولا المستقر" ان السبّ في رواية الرسول صلى الله عليه واله وسلم "وَأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ" يراد به سبّهم بالمعنى الثاني أي: وصف أعمالهم المنحرفة وذكر حالهم من الضلالة وأنواع المفاسد، وليس المراد السب بالمعنى الأخص.

بينما المراد من السبّ المنفي في رواية الأمير (عليه السلام) السبّ بالمعنى الأول الأخص، فهذا هو الذي كرهه الأمير (عليه السلام) لا المعنى الثاني، فإنه صريح في مطالبته به.

و"كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ"، شاهد جمع

وبذلك، يظهر أن تتمة الرواية تصلح شاهد جمع، فإنه صريح في قوله: "وَلَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وَذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ" فان أعمالهم كانت سفك دماء الأبرياء وقد اشتهر معاوية بقتل المعارضين بجنود من عسل، وإرشاء الناس كي يقولوا الباطل كما في قضية سمرة ووضعه نسبة آية (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ...)(45) إلى أمير المؤمنين (عليه السلام):

فقد ورد "قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الْإِسْكَافِيُّ: وَرُوِيَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بَذَلَ لِسَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ حَتَّى يَرْوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى‏ ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ * وَإِذا تَوَلَّى سَعى‏ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ)، وَأَنَّ الْآيَةَ الثَّانِيَةَ نَزَلَتْ فِي ابْنِ مُلْجَمٍ وَهِيَ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ) فَلَمْ يَقْبَلْ فَبَذَلَ لَهُ مِائَتَيْ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَمْ يَقْبَلْ فَبَذَلَ لَهُ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفٍ فَلَمْ يَقْبَلْ فَبَذَلَ أَرْبَعَمِائَةٍ فَقَبِلَ)(46).

كما كان من أعمالهم نهب أموال بيت مال المسلمين والإسراف والتبذير الرهيبين وبيع الخمور وشربها وغير ذلك، فوصفهم بهذه كلها لا تعد سباباً بالمعنى الأول العَلَمِي الأخص لكنها من السباب بالمعنى الوصفي الثاني الأعم، وكلام الإمام صريح في نفي الأخص العَلَمِي وإثبات المعنى الثاني الوصفي "الذي يسميه بعض العرف على الأقل سباً) فــــ"إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ" فهذا هو المعنى الأول "وَلَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وَذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ" فهذا هو المعنى الثاني الوصفي، وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم):"وَأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ" يحمل على المعنى الثاني الوصفي أي وصف أعمالهم الفاسدة وحالهم من الفساد والضلال؛ فإن هذا هو الأصوب في القول والأبلغ في العذر، بل السباب بالمعنى الأخص ليس من العذر في شيء أبداً فان الإنسان إذا ذكر بكل موضوعية وبطريقة علمية وجوه انحراف الطرف الآخر وضلاله وفساده كان "أَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ" اما إذا سبه بالمعنى الأخص الوصفي فانه لا يشكل إعذاراً ولا تبليغاً للرسالة، كما ان ذكر حالهم وأعمالهم أصوب في القول عكس السبّ فاما انه ليس بصائب أصلاً أو انه أقل صواباً وأضعف" (47).

و: "ومن ذلك كله يعلم ان المطلوب من "وَأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ" هو نفس المطلوب من رواية الأمير (عليه السلام):"وَلَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وَذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ." وأن هذا هو الذي يحقق الهدفين اللذين ذكرهما الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) تماماً أو بما لا قياس مع السباب بالمعنى الأخص العَلَمِي، والهدفان هما "كَيْلَا يَطْمَعُوا فِي الْفَسَادِ فِي الْإِسْلَامِ وَيَحْذَرَهُمُ النَّاسُ وَلَا يَتَعَلَّمُوا مِنْ بِدَعِهِمْ." فإن الناس إذا عرفوا ضلالهم، وإنهم سراق المال العام، وإنهم مرابون وسفاكون للدماء وما أشبه احترسوا منهم، أما لو سببتهم بالمعنى الأخص، فإن الناس -عادة- يبتعدون عنك، ولا يحذرون منهم أصلاً؛ خاصة مع غلبة الباطل وأهله في عامة الأزمنة، خصوصاً في هذا الزمن، نعم، لو كان الصلاح هو الحاكم في البلاد والعام على العباد، لكان السبّ بالمعنى الأخص لأهل البدع سبباً لحذر بعض الناس منهم، وقطع طمعهم في الفساد في الإسلام، أمَا والفسادُ هو الغالب فإن الطريق الوحيد -عادة- لقطع طمعهم في الفساد في الإسلام هو "وَأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ" بالمعنى الثاني الوصفي؛ أي ذكر أفعالهم السيئة وحالهم المنحرفة بالحجج والبراهين بما يزيل شبهاتهم ويردها عليه ويقطع عراهم" (48). وراجع أيضاً هنالك ما لم نقتبسه الآن.

الموجز: قرينتان في الروايتين على وجه الجمع

وبذلك ظهر ان ههنا قرينتين على وجه الجمع:

الأولى: في رواية "إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ" والقرينة هي: "وَلَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وَذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ."

الثانية: في رواية "إِذَا رَأَيْتُمْ أَهْلَ الرَّيْبِ وَالْبِدَعِ مِنْ بَعْدِي فَأَظْهِرُوا الْبَرَاءَةَ مِنْهُمْ وَأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ وَالْقَوْلَ فِيهِمْ وَالْوَقِيعَةَ وَبَاهِتُوهُمْ كَيْلَا يَطْمَعُوا فِي الْفَسَادِ فِي الْإِسْلَام." فإن طمعهم إنما يقطع عادة عبر الجدال بالتي هي أحسن، وعبر ذكر حقائق وأرقام عنهم؛ بموضوعية وبطريقة علمية منهجية، وعبر كشف واقع استبدادهم مثلاً للناس، فإن هذا يقطع طمعهم في الفساد في الإسلام، أما سبهم بأمثال كلاب وحقراء، فإنه -عادة- ينتج العكس إذ أنهم سيستدلون بذلك على أننا لا حجة لنا، وإننا لا نملك المنطق والدليل والبرهان، ولذلك لجأنا إلى منهج السباب والشتائم، فهو نقض للغرض، وهو مما يزيد طمعهم في الفساد في الإسلام، ويوجب إلتفات الكثيرين حولهم أكثر، أو يوجب أن يتعصب لهم حينئذٍ أتباعهم بشدة أكبر.. وللبحث صلة بإذن الله تعالى.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

 

----------------------------

من سلسلة (محاضرات في التفسير والتدبر) لسماحة آية الله، السيد مرتضى الحسيني الشيرازي، حفظه الله تعالى وأيّده، بمدينة النجف الأشرف؛ ألقاها في الأربعاء 11 شعبان 1440هـ.

--------------------------------------------

(1) نهج البلاغة : الخطبة 206 ، بحار الأنوار : ج 32 ص 561 ح 466 .

(2) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج2 ص275.

(3) فتأمل، لأنها ليست على مساق واحد.

(4) سورة النمل: آية 40.

(5) سورة سبأ: آية 13.

(6) بل أكثر كما ظهر.

(7) والروايات وردت بوجوه مختلفة، فراجع تفسير النعماني والبحار ومجمع البحرين.

(8) سورة الجاثية: 24.

(9) سورة النمل: 13ـ14.

(10) كإنكار استحالة الدور والتسلسل، أو إنكار الجاذبية، أو إنكار مختلف البديهيات ومطلق ما ثبت لديه بالحس أو غيره.

(11) سورة إبراهيم: 7.

(12) سورة النمل: 40.

(13) سورة البقرة: 152.

(14) سورة البقرة: 84 ـ 85.

(15) لقوله تعالى: (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ).

(16) سورة الممتحنة: 5.

(17) سورة العنكبوت: 25.

(18) هذا، وقد يضاف لها معنى سادس وهو الستر، وسيأتي في المتن أنه الجامع، وكلام الإمام (عليه السلام) لا مفهوم له، والعدد كذلك لا مفهوم له، فلا ينفي المعاني الأخرى.

(19) الكافي: ج1 ص413.

(20) سورة الحديد: 20.

(21) من كتاب (أحكام اللهو واللعب واللغو وحدودها) ص154-157.

(22) الشيخ المفيد، الاختصاص، المؤتمر للشيخ المفيد – قم، 1413هـ، ص6.

(23) فصلنا في بعض الكتب ان مناشئ الانصراف سبعة.

(24) فيه تأمل.

(25) الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القران، ج1 ص391.

(26) ابن دُرَيْد، جمهرة اللغة، ج1 ص69.

(27) ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، ج3 ص63-64.

(28) وهذا معنى أعم كما ترى.

(29) وهذا معنى أخص.

(30) ويسمى السبّ سبّاً لأنه يتوصل به إلى جرح الآخر وإهانته.

(31) والسباب سهام وأية سهام!

(32) ابن منظور، لسان العرب، ج1 ص455 – 460.

(33) الشيخ مرتضى الانصاري، كتاب المكاسب، ط تراث الشيخ الأعظم، ج1 ص254.

(34) كما فصّلناه في كتاب (السلطات العشر والبرلمانات المزودجة) وكما صرح به عدد من فلاسفة الغرب سابقاً وكما تجده لدى (الأمير) لمكيافللي.

(35) المجلسي، مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، دار الكتب الإسلاميّة، ط/2، 1404هـ، ج11 ص5.

(36) سورة الأنبياء: آية 98.

(37) سورة القلم: آية 13.

(38) سورة البقرة: آية 159.

(39) سورة الرعد: آية 25.

(40) سورة الحجر: آية 35.

(41) سورة غافر: آية 52.

(42) سورة المسد: آية 1.

(43) السيد أبو القاسم الخوئي، مصباح الفقاهة، الناشر: مكتبة الداوري – قم، ج1 ص441.

(44) نهج البلاغة: الخطبة الشقشقية.

(45) سورة البقرة: آية 204-205.

(46) إبراهيم الثقفي الكوفي، الغارات - ط الحديثة، الناشر: انجمن آثار ملى‌ - طهران، 1395هـ ‌ج2 ص840-841، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مكتبة آية الله المرعشي – قم، 1404هـ، ج4 ص73.

(47) الدرس (302/7) بتصرف.

(48) المصدر نفسه.

1/ ذو الحجة/1444هـ