![]() |
![]() |
وَلَا تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّه (8) تزاحم الملاكات في السباب على ضوء الروايات الشريفة |
السيد مرتضى الشيرازي |
موقع الإمام الشيرازي بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
تزاحم الملاكات في السباب على ضوء الآيات والروايات قال الله العظيم (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً)(1). وقال جل اسمه (وَلا تَسُبُّوا الَّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ)(12). ولكن ورد في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): "أَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ" (3). وفي المقابل "إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ" (4). وقد سبق،أن الأصل العام حرمة سباب الغير ويستثنى منه بعض الصور كسباب أهل الريب والبدع، ولكن ذلك خاضع لمقاييس باب التزاحم ولترجيح ذي الملاك الأهم على ذي الملاك المهم. وقد سبق: "إدراج الروايتين في باب التزاحم" ثم إن هذا كله على المسلك المعروف من أن أمثال ذلك مندرج في باب التعارض (البدوي أو المستقر)، ولكن قد يقال: بأن النسبة بين "وَأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ" و"إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ" ليست التعارض (لا بدوياً ولا مستقراً)، بل هي التزاحم، وتوضيح ذلك يتوقف على بيان أمور: الأول: إن التزاحم على قسمين: التزاحم الملاكي والتزاحم الامتثالي الأول: التزاحم الملاكي. والثاني: التزاحم الامتثالي. و(التزاحم الملاكي) يعني أن يكون في متعلَّق التكليف ملاكُ مصلحةٍ وملاكُ مفسدةٍ معاً، وحسم الأمر وبَتّه في هذا التزاحم يعود للمولى المشرّع حين يلاحظ مدى قوة المصلحة والمفسدة، فإن وجدهما متساويتين حكم بالإباحة (الاقتضائية)، وإن رجحت أحداهما على الأخرى قليلاً حكم بالكراهة أو الاستحباب، أو كثيراً بدرجة بالغة حكم بالحرمة أو الوجوب، ومن مصاديقه قوله (صلى الله عليه وآله وسلم):"لَوْ لَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلَاةٍ" (5). فإن مصلحة التيسير كانت غالبة على مصلحة الفعل نفسه، لذا كان مستحباً فقط. وسيأتي بإذن الله تعالى تفصيل الكلام عن تطبيق ذلك على المقام، وعن التزاحم الامتثالي، وعن حلقة الربط بينهما بما ينفع في حل الإعضال في الكثير من الروايات التي تبدو متدافعة والتي اعتبرها القوم من باب التعارض بينما نرى أنها من باب التزاحم فأنتظر" (6). التزاحم من أصعب الأمور وأخطرها وتوضيح ذلك: إن التزاحم في كلا بعدي العقل النظري والعقل العملي لَهو من أهم الأمور وأخطرها وأصعبها، كما أنه من أكثر الأمور التي يجهلها عامة الناس، بل حتى الكثير من الخاصة، وهو إلى ذلك من أكثر الأمور التي يقتحم فيها كثير من الناس – حتى بعض الأفاضل – بدون دراسة وافية عادة. فشل الناس في امتحان التزاحم ثم بعد ذلك، فإن الكثير الكثير جداً من الناس يفشلون في امتحان التزاحم العملي، وإن عرفوا وجه الأهمية، وما هو الأهم على مستوى العقل النظري، ولنمثل لذلك بمثالين: الأول: إن الكثير من الناس يفشلون في امتحان التزاحم بين واجبات العمل وبين متطلبات إدارة الأسرة، فتراه إما مُفرِطاً دائماً أو مفرّطاً دائماً أو متأرجحاً بينهما: فأما هو مجحف بحق الأسرة مهمل لحاجاتها وتطلعاتها ورغباتها، وأما هو مهمل لشؤون العمل والوظيفة أو الدراسة ومقتضياتها. الثاني: إن الكثير جداً من الناس يفشلون في امتحان التزاحم العملي بين متطلبات الروح من جهة وبين مقتضيات الجسد من جهة أخرى، أو بين تطلعات العقل وبواعث الفكر من جانب وبين نوازع النفس ورغبات الجسم من جانب آخر، فقد ترى بعضهم فاشلاً في الأخلاقيات، وفي المعنويات ناجحاً في العلم والفكر والثقافة، أو متعالياً في مراتب القرب والعروج الروحاني،وصفر اليدين خالي الوفاض من مدارج العلم والكمال. نماذج فقهية مهمة من تزاحم الواجبات فذلك كله على الصعيد العملي، وأما على الصعيد النظري، فإن مبحث التزاحم بين الملاكات والمصالح أو المفاسد الفردية، والعائلية، والاجتماعية، الخاصة والعامة، يعدّ من أدقّ المباحث وأصعبها وأكثرها إثارة للخلاف والاختلاف أو هي من أكثر ما يجهله الناس، ولنمثل لذلك ببعض الأمثلة: أ- التزاحم بين نفقة الزوجة ونفقة الأم، كما لو لم يكن له إلا ما يكسو به إحداهما أو ما يشبع به جَوعتها، فأيهما المقدم؟ ب- التزاحم بين إنقاذ الأم وإنقاذ الزوجة، فيما لو دار الأمر بينهما وعجز عن الجمع، كما لو غرقا معاً، ولم يمكنه إلا إنقاذ إحداهما، فأيهما المقدم؟ ج- التزاحم بين التوقي عن إيذاء الأم أو إيذاء الزوجة، كما لو كان سفره موجباً لإيذاء الأم، ولكنه كان مرضياً للزوجة أو العكس، بأن كان سفره موجباً لإيذاء الزوجة ومرضياً للأم فأيهما المقدم؟ ومن لا يعرف آراء الفقهاء في تلك المسائل قد يخبط خبط عشواء، فقد يتوهم ترجيح الأم، وتقديم حقها في كل تلك الصور، أو قد يرتأي ترجيح الزوجة فيها جميعاً، أو قد يقول بما يحلو له، مع أن الحكم في الصور الثلاثة مختلف، ففي الأولى: نفقة الزوجة مقدمة، وفي الثالثة: التوقي عن إيذاء الأم هو المقدم، وفي الصورة الثانية: التخيير على ما صرح به جمع. د- التزاحم بين الوضوء للصلاة وبين سقي الهرة العطشى مثلاً؟ فأيهما المقدم؟ هـ- التزاحم بين التيمم وبين التصرف في ملك الغير دون رضاه، كما لو انحصر التراب في المغصوب، ولم يكن له ماء، فهل يتمم بالمغصوب أو لا يتمم؟ فهل عليه حينئذٍ صلاة أو لا لكونه فاقد الطهورين؟ و- التزاحم بين إنقاذ عالم واحد (كأستاذ حوزة أو جامعة) وبين إنقاذ جاهلين أو أكثر؟ ز- التزاحم بين أداء الزكاة أو الخمس وبين أداء الدين؟. ح- التزاحم بين الحج المستقر وأداء الدين، لو لم يمكنه بهذا المال إلا أحدهما. ط- التزاحم بين النهي عن المنكر وبين قطع الرحم، كما لو كان نهيه لرحمه عن المنكر، كنظره للأجنبية، موجباً لحدوث صراع في الأسرة وقطع الرحم؟ فايهما المقدم؟ وقد فصلنا في مباحث التزاحم البحث عن ذلك وأشباهه، وكان مما أشرنا أنه قد تكون لكل من الملاكين مراتب ودرجات، وأن الحكم قد يختلف بحسب اختلاف الدرجات في كل منها. وذلك كله مما يلقي الضوء على خطورة مباحث التزاحم؛ سواء على المستوى النظري أم على المستوى العملي. تزاحم ملاكات السباب بين المصلحة والمفسدة ومباحث السباب مندرجة في هذا الباب؛ ذلك أن للسبّ في الصورة المذكورة في الرواية ملاكاً، كما أن لتركه ملاكاً، وله مصلحة وله مفسدة أو مفاسد فأيهما الأرجح؟ إن المتسرِّع وحده هو الذي قد ينظر إلى وجود بعض الأرباح والمكاسب التي تحققها الشتائم فيحكم، بارتجالية، بلزوم السباب ورجحانه غفلة عن جهات مرجوحيته وفساده. ولكن حيث إن ملاكات الأحكام مما لم تشرع أبوابها إلينا فإنها شأن المولى (جل وعلا)، لذلك كان اللازم الاعتماد على الملاكات التي يذكرها الشارع الأقدس بنفسه، وجعلها المدار للحكم بالتعادل أو التراجيح والتقديم والتخيير. طوائف الآيات والروايات وعند الرجوع إلى الآيات والروايات التي تصرح بملاكات المصلحة أو المفسدة في السباب نجد كلتا الطائفتين الآتيتين: 1- المصلحة في سبابِ بعضٍ: "كَيْلَا يَطْمَعُوا فِي الْفَسَادِ" الطائفة الأولى: الروايات التي تصرح بملاك المصلحة في سباب مثل أهل الريب والبدع، وهذه الطائفة رواياتها قليلة، ولكن أهمها على الإطلاق هي الرواية المعروفة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):"إِذَا رَأَيْتُمْ أَهْلَ الرَّيْبِ وَالْبِدَعِ مِنْ بَعْدِي فَأَظْهِرُوا الْبَرَاءَةَ مِنْهُمْ وَأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ وَالْقَوْلَ فِيهِمْ وَالْوَقِيعَةَ وَبَاهِتُوهُمْ كَيْلَا يَطْمَعُوا فِي الْفَسَادِ فِي الْإِسْلَامِ وَيَحْذَرَهُمُ النَّاسُ وَلَا يَتَعَلَّمُوا مِنْ بِدَعِهِمْ يَكْتُبِ اللَّهُ لَكُمْ بِذَلِكَ الْحَسَنَاتِ وَيَرْفَعْ لَكُمْ بِهِ الدَّرَجَاتِ فِي الْآخِرَةِ" (7). فالملاك المصرح به هو "كَيْلَا يَطْمَعُوا فِي الْفَسَادِ" و "وَيَحْذَرَهُمُ النَّاسُ وَلَا يَتَعَلَّمُوا مِنْ بِدَعِهِمْ." وأما الآيات فقوله تعالى: (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ)(8). فان اعتداءه علينا ملاك مصحح لاعتدائنا عليه بالمثل، لكن هل تشمل الآية الكريمة إضافة إلى الشؤون الفردية "كما لو ضربك أو سبك فإن لك أن تضربه أو تسبه بمثل ما ضربك أو سبك به" الشؤونَ المذهبيةَ "كما لو سب مذهبك فتسب مذهبه"؟ ففيه بحث! 2- المفسدة في السباب عموماً أو خصوصاً الطائفة الثانية: الآيات والروايات التي تصرح بالمفسدة في سباب الآخرين، وعلى عكس الطائفة الأولى فإن ههنا آيات كريمة وروايات كثيرة، وقد ذكرت فيها مفاسد منوعة لسباب الآخرين، وهي تتراوح بين ما يعدّ انتهاكاً لحق الله تعالى، وما يكون هتكاً لحريم الرسول والأئمة (عليهم السلام)، وما يكون علّة لتضعيف الحق وأهله، وما يكون سبباً لتضييع حقوق المؤمنين وظلمهم. ردود أفعال الآخرين: سب الله عدواً بغير علم فمنها: قوله تعالى (وَلا تَسُبُّوا الَّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ)، وقد مضى البحث عنها مفصلاً، وموطن الكلام هو إنه لو دار الأمر بينهما فايهما الأهم؟ أي إنه لو كان سبّ أهل الريب والبدع مما يردع أولئك المبطلين، ويقضي على (أو يقلل) طمعهم في الإفساد في الإسلام، ويحذرهم الناس ولا يتعلمون من بدعهم، لكنه كان مما يستلزم سبهم لله تعالى، فأيهما الأهم؟ فهل علينا أن لا نسبهم كي لا يسبوا الله تعالى، وأن استلزم عدم سبهم طمعهم في الإفساد في الدين؟ أو العكس علينا أن نسبهم، وإن استلزم ذلك سبهم لله تعالى، لما يترتب على سبهم من فائدة ألا يطمعوا في الفساد في الدين؟ فأيهما الأهم؟ إن تشخيص ذلك ليس للعامي، بل لا بد للفقيه أن يراجع مختلف النصوص ويغربلها لكي يصل إلى نتيجة مبرئة للذمة حقاً. ولكي لا يتسرع شخص، فيقول أن الأهم هو الأول((9). نقول: بأن من مرجحات الثاني(10). مثلاً أن الملاحظ أن الله تعالى اعتبر حريمه أهم من أي شيء آخر؛ في مثل قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ)(11). فمع أن الشرك بالله تعالى لا يضره شيئاً أبداً، ومع أن المشرك قد يكون ممن قدم أكبر خدمة للبشرية، كأنشتاين أو أديسون مثلاً، لكنه إذا كان فرضاً مشركاً عن تقصير أو عن علم وعمد فإنه تعالى لا يغفر له شركه أبداً، ولكنه يغفر ما دون ذلك لمن يشاء، فهذا وجه من هذا الطرف، ولكنّ استقراء كل الوجوه عبر التدبر في مختلف سائر النصوص بما يخرج الأمر – في كلا الطرفين – عن الاستحسان أو القياس بحاجة إلى دراسة مستوعبة، ولذلك قلنا أن المرجع هو الفقيه، وأنه لا يصح أن يرى العامي أو الفاضل رواية كرواية (كَيْلَا يَطْمَعُوا فِي الْفَسَادِ فِي الْإِسْلَامِ وَيَحْذَرَهُمُ النَّاسُ وَلَا يَتَعَلَّمُوا مِنْ بِدَعِهِمْ) فيسارع إلى الأخذ بها ويتغافل عن سائر الآيات والروايات وعن مقتضيات التزاحم بينها وتراجيحها. "وَلَا تَكُونُوا عَلَيْنَا شَيْناً... وَاحْفَظُوا أَلْسِنَتَكُمْ" ومنها: قوله (عليه السلام):"مَعَاشِرَ الشِّيعَةِ كُونُوا لَنَا زَيْناً وَلَا تَكُونُوا عَلَيْنَا شَيْناً، قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَاحْفَظُوا أَلْسِنَتَكُمْ وَكُفُّوهَا عَنِ الْفُضُولِ وَقَبِيحِ الْقَوْلِ" (12). فهذا ملاك آخر مصرح به، وهو ملاك من دائرة حقوق الأئمة (عليهم السلام)، وهو ملاك مزاحم لملاك "كَيْلَا يَطْمَعُوا فِي الْفَسَادِ فِي الْإِسْلَامِ" فإذا تزاحما: بأن كان سبّ أهل البدع والريب يستلزم بعض الشين على الرسول (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام)، ويستلزم أيضاً قطع طمعهم في الفساد في الإسلام فأيهما المقدم؟ إن ذلك مما لا يمكن الجواب عنه بسهولة إلا للجربزي (المقتحم في الفتوى دون تثبت) أو القائل بالاستحسان أو القياس! "إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ" ومنها: قوله تعالى: (وَقُلْ لِعِبادي يَقُولُوا الَّتي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ)(13). وقد سبق أن معنى ينزغ هو يُفسِد، وهو قريب من معنى ينخَس، ومن البديهي أن سبّ الآخرين يثير فيهم القوة الغضبية فيزدادون إفساداً على إفساد، وشقاقاً على شقاق، فأيهما الأهم؟ وهذا الملاك كما لا يخفى هو ملاك من دائرة حقوق الناس. الجدال بالأحسن يسبّب "قَطْعَ عُذْرِ الْكَافِرِينَ وَإِزَالَةَ شُبَهِهِمْ" ومنها: الرواية التي سبقت "قَالَ الصَّادِقُ: فَهَذَا الْجِدَالُ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ لِأَنَّ فِيهَا قَطْعَ عُذْرِ الْكَافِرِينَ وَإِزَالَةَ شُبَهِهِمْ وَأَمَّا الْجِدَالُ بِغَيْرِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ بِأَنْ تَجْحَدَ حَقّاً لَا يُمْكِنُكَ أَنْ تُفَرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَاطِلِ مَنْ تُجَادِلُهُ وَإِنَّمَا تَدْفَعُهُ عَنْ بَاطِلِهِ بِأَنْ تَجْحَدَ الْحَقَّ فَهَذَا هُوَ الْمُحَرَّمُ لِأَنَّكَ مِثْلُهُ جَحَدَ هُوَ حَقّاً وَجَحَدْتَ أَنْتَ حَقّاً آخَرَ" (14). ومن الواضح، كما هو صريح الرواية أيضاً، أن بالحجج والبراهين والأدلة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن تنقطع أعذار وعرى الكافرين وتزول شبههم لا بالمغالطة التي ذكرتها الرواية ولا بالسباب والشتائم (لا لتنقيح المناط، على انه قطعي، بل لبداهة ذلك(15) ووجدانيته)، فلو فرض أن السباب كان السبب في قطع طمع المبطل؛ كما أفادته الرواية الأولى "كَيْلَا يَطْمَعُوا فِي الْفَسَادِ فِي الْإِسْلَامِ" فإن هذا يشكل ملاكاً مزاحماً لملاك إزالة الشبهة، وقطع عذر الكافرين وعراهم؛ عبر الجدال بالتي هي أحسن، فإنه يتحقق بالجدال بالأحسن لا بالسباب، لبداهة أنه لا تزول شبهة الطرف الآخر، ولا المستمع المحايد، ولا ضعيف الإيمان بالسباب، ولا يكون قاطعاً لعذر الكافر، بل كل ذلك إنما يتحقق بالحجة والمنطق والجدال بالتي هي أحسن، ومع ذلك فايهما الراجح؟ ومن الواضح،أن هذا الملاك "انْقِطَاعَ عذر أو عُرَى الْكَافِرِينَ، وَإِزَالَةَ شُبَهِهِمْ" ملاك من دائرة حقوق الدين والشريعة علينا كما أن مقابله كذلك. "وَلَا تَحْمِلُوهُمْ عَلَى رِقَابِكُمْ" ومنها: قوله (عليه السلام):"وَجَامِلُوا النَّاسَ وَلَا تَحْمِلُوهُمْ عَلَى رِقَابِكُمْ تَجْمَعُوا مَعَ ذَلِكَ طَاعَةَ رَبِّكُمْ وَإِيَّاكُمْ وَسَبَّ أَعْدَاءِ اللَّهِ حَيْثُ يَسْمَعُونَكُمْ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ" (16). ومن الواضح أن حمل الناس على رقاب الشيعة بإغرائهم بهم ليقتلوهم أو يسجنوهم أو يشردوهم أو يطاردوهم أو يحاصروهم أو يقاطعوهم، ملاك مهم جداً (بل إن الرواية صريحة في أن طاعة الرب هي بذلك)، فهذا الملاك يزاحم ذلك الملاك الآخر "كَيْلَا يَطْمَعُوا فِي الْفَسَادِ فِي الْإِسْلَامِ"، ولكن أيهما الأهم؟ أو على حسب درجات كل منهما؟ "مَنْ كَفَّ يَدَهُ عَنِ النَّاسِ... يَكُفُّونَ عَنْهُ أَيْدِيَ كَثِيرَةً" ومنها: قوله (عليه السلام):"إِنَّ قَوْماً مِنَ النَّاسِ قَلَّتْ مُدَارَاتُهُمْ لِلنَّاسِ فَأُنِفُوا(17) مِنْ قُرَيْشٍ، وَأيْمُ اللَّهِ مَا كَانَ بِأَحْسَابِهِمْ بَأْسٌ، وَإِنَّ قَوْماً مِنْ غَيْرِ قُرَيْشٍ حَسُنَتْ مُدَارَاتُهُمْ فَأُلْحِقُوا بِالْبَيْتِ الرَّفِيعِ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: مَنْ كَفَّ يَدَهُ عَنِ النَّاسِ فَإِنَّمَا يَكُفُّ عَنْهُمْ يَداً وَاحِدَةً، وَيَكُفُّونَ عَنْهُ أَيْدِيَ كَثِيرَةً" (18). وكفّ أيدي الناس، والمراد به في مصطلح الروايات عادةً: العامة -ملاك هام محبوب للإمام وعكسه مبغوض له- وقد سبق الكلام عن الرواية والروايات السابقة واللاحقة بتفصيل أكثر فراجع، فهذا ملاك مزاحم لملاك "كَيْلَا يَطْمَعُوا فِي الْفَسَادِ فِي الْإِسْلَامِ"، وهذا الملاك يرتبط بكلتا الدائرتين: حقوق الله والدين وحقوق الناس إذ إن كفّ الناس أيديهم تارة يكون عنّا كأشخاص؛ أي عن دمائنا وأعراضنا وممتلكاتنا، وقد يكون عن مذهبنا وشعائرنا وحسينياتنا ومساجدنا وأئمتنا (عليهم السلام). "وَلَا تَمِيلُوا عَلَيْهِمْ فَيَظْلِمُوكُمْ" ومنها: قوله (عليه السلام):"خَالِطُوا الْأَبْرَارَ سِرّاً، وَخَالِطُوا الْفُجَّارَ جِهَاراً، وَلَا تَمِيلُوا عَلَيْهِمْ فَيَظْلِمُوكُمْ" (19). وهذه الرواية كسوابقها صريحة في النهي عما يسبب ظلم أهل العامة للشيعة، وقد اعتبر الإمام عليه السلام ظلمهم للشيعة العلة للردع والنهي عن ميلنا عليهم، والميل عليهم أنواع وأقسام ومن أبرزها سبّهم بحيث يسمعوننا، فهذا ملاك، وهو ملاك من دائرة حقوق الناس. "لَا تَسُبُّوا النَّاسَ فَتَكْتَسِبُوا الْعَدَاوَةَ بَيْنَهُمْ" ومنها: قول الإمام الباقر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله):"لَا تَسُبُّوا النَّاسَ فَتَكْتَسِبُوا الْعَدَاوَةَ بَيْنَهُمْ" (20). وهو ملاك من دائرة حقوق الناس كما هو واضح. نحن في زمن هدنة، والسباب ناقضٌ لها ومنها: إن سباب الغير مناقض لمصلحة (الهدنة) التي صرحت بها الروايات، وقد سبق بعضها، ومما لم ننقله الرواية المفصلة الرائعة الآتية الكاشفة عن امتداد زمن الهدنة إلى زمن ظهور الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف) وجَعَلَنا من أنصاره وأعوانه والمجاهدين والمستشهدين بين يديه فقد روى "الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَشْعَرِيُّ عَنْ مُعَلَّى بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مِرْدَاسٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيَى والْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ عَنْ عَمَّارٍ السَّابَاطِيِّ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: أَيُّمَا أَفْضَلُ الْعِبَادَةُ فِي السِّرِّ مَعَ الْإِمَامِ مِنْكُمُ الْمُسْتَتِرِ فِي دَوْلَةِ الْبَاطِلِ أَوِ الْعِبَادَةُ فِي ظُهُورِ الْحَقِّ وَدَوْلَتِهِ مَعَ الْإِمَامِ مِنْكُمُ الظَّاهِرِ، فَقَالَ: يَا عَمَّارُ الصَّدَقَةُ فِي السِّرِّ وَاللَّهِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ فِي الْعَلَانِيَةِ وَكَذَلِكَ وَاللَّهِ عِبَادَتُكُمْ فِي السِّرِّ مَعَ إِمَامِكُمُ الْمُسْتَتِرِ فِي دَوْلَةِ الْبَاطِلِ وَتَخَوُّفُكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ فِي دَوْلَةِ الْبَاطِلِ وَحَالِ الْهُدْنَةِ أَفْضَلُ مِمَّنْ يَعْبُدُ اللَّهَ ذِكْرُهُ فِي ظُهُورِ الْحَقِّ مَعَ إِمَامِ الْحَقِّ الظَّاهِرِ فِي دَوْلَةِ الْحَقِّ وَلَيْسَتِ الْعِبَادَةُ مَعَ الْخَوْفِ فِي دَوْلَةِ الْبَاطِلِ مِثْلَ الْعِبَادَةِ وَالْأَمْنِ فِي دَوْلَةِ الْحَقِّ وَاعْلَمُوا أَنَّ مَنْ صَلَّى مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَلَاةً فَرِيضَةً فِي جَمَاعَةٍ مُسْتَتِرٍ بِهَا مِنْ عَدُوِّهِ فِي وَقْتِهَا فَأَتَمَّهَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ خَمْسِينَ صَلَاةً فَرِيضَةً فِي جَمَاعَةٍ وَمَنْ صَلَّى مِنْكُمْ صَلَاةً فَرِيضَةً وَحْدَهُ مُسْتَتِراً بِهَا مِنْ عَدُوِّهِ فِي وَقْتِهَا فَأَتَمَّهَا كَتَبَ اللَّهُ بِهَا لَهُ خَمْساً وَعِشْرِينَ صَلَاةً فَرِيضَةً وَحْدَانِيَّةً وَمَنْ صَلَّى مِنْكُمْ صَلَاةً نَافِلَةً لِوَقْتِهَا فَأَتَمَّهَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِهَا عَشْرَ صَلَوَاتٍ نَوَافِلَ وَمَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ حَسَنَةً كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِهَا عِشْرِينَ حَسَنَةً وَيُضَاعِفُ اللَّهُ حَسَنَاتِ الْمُؤْمِنِ مِنْكُمْ إِذَا أَحْسَنَ أَعْمَالَهُ وَدَانَ بِالتَّقِيَّةِ عَلَى دِينِهِ وَإِمَامِهِ وَنَفْسِهِ وَأَمْسَكَ مِنْ لِسَانِهِ أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً إِنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ قُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ قَدْ وَاللَّهِ رَغَّبْتَنِي فِي الْعَمَلِ وَحَثَثْتَنِي عَلَيْهِ وَلَكِنْ أُحِبُّ أَنْ أَعْلَمَ كَيْفَ صِرْنَا نَحْنُ الْيَوْمَ أَفْضَلَ أَعْمَالًا مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ الظَّاهِرِ مِنْكُمْ فِي دَوْلَةِ الْحَقِّ وَنَحْنُ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ؟ فَقَالَ: إِنَّكُمْ سَبَقْتُمُوهُمْ إِلَى الدُّخُولِ فِي دِينِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِلَى الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَإِلَى كُلِّ خَيْرٍ وَفِقْهٍ وَإِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ عَزَّ ذِكْرُهُ سِرّاً مِنْ عَدُوِّكُمْ مَعَ إِمَامِكُمُ الْمُسْتَتِرِ مُطِيعِينَ لَهُ صَابِرِينَ مَعَهُ مُنْتَظِرِينَ لِدَوْلَةِ الْحَقِّ خَائِفِينَ عَلَى إِمَامِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ مِنَ الْمُلُوكِ الظَّلَمَةِ تَنْتَظِرُونَ إِلَى حَقِّ إِمَامِكُمْ وَحُقُوقِكُمْ فِي أَيْدِي الظَّلَمَةِ قَدْ مَنَعُوكُمْ ذَلِكَ وَاضْطَرُّوكُمْ إِلَى حَرْثِ الدُّنْيَا وَطَلَبِ الْمَعَاشِ مَعَ الصَّبْرِ عَلَى دِينِكُمْ وَعِبَادَتِكُمْ وَطَاعَةِ إِمَامِكُمْ وَالْخَوْفِ مَعَ عَدُوِّكُمْ فَبِذَلِكَ ضَاعَفَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَكُمُ الْأَعْمَالَ فَهَنِيئاً لَكُمْ قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ فَمَا تَرَى إِذاً أَنْ نَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ الْقَائِمِ وَيَظْهَرَ الْحَقُّ وَنَحْنُ الْيَوْمَ فِي إِمَامَتِكَ وَطَاعَتِكَ أَفْضَلُ أَعْمَالًا مِنْ أَصْحَابِ دَوْلَةِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ؟ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ أَ مَا تُحِبُّونَ أَنْ يُظْهِرَ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْعَدْلَ فِي الْبِلَادِ وَيَجْمَعَ اللَّهُ الْكَلِمَةَ وَيُؤَلِّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبٍ مُخْتَلِفَةٍ وَلَا يَعْصُونَ اللَّهَ فِي أَرْضِهِ وَتُقَامَ حُدُودُهُ فِي خَلْقِهِ وَيَرُدَّ اللَّهُ الْحَقَّ إِلَى أَهْلِهِ فَيَظْهَرَ حَتَّى لَا يُسْتَخْفَى بِشَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ مَخَافَةَ أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ أَمَا وَاللَّهِ يَا عَمَّارُ لَا يَمُوتُ مِنْكُمْ مَيِّتٌ عَلَى الْحَالِ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا إِلَّا كَانَ أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ شُهَدَاءِ بَدْرٍ وَأُحُدٍ فَأَبْشِرُوا" (21). وعن "مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الصَّفَّارُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْخَطَّابِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بَشِيرٍ وَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِلَالٍ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ رَزِينٍ الْقَلَّاءِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عَنِ الْقَائِمِ إِذَا قَامَ بِأَيِّ سِيرَةٍ يَسِيرُ فِي النَّاسِ؟ فَقَالَ بِسِيرَةِ مَا سَارَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ حَتَّى يُظْهِرَ الْإِسْلَامَ. قُلْتُ: وَمَا كَانَتْ سِيرَةُ رَسُولِ اللَّهِ؟ قَالَ: أَبْطَلَ مَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَاسْتَقْبَلَ النَّاسَ بِالْعَدْلِ وَكَذَلِكَ الْقَائِمُ إِذَا قَامَ يُبْطِلُ مَا كَانَ فِي الْهُدْنَةِ مِمَّا كَانَ فِي أَيْدِي النَّاسِ وَيَسْتَقْبِلُ بِهِمُ الْعَدْلَ" (22). ومن الواضح،أن للهدنة ملاكاً، بل ملاكات مزاحمة لملاك السباب. فهذا كله على التزاحم، أما على التعارض فهل دليل الهدنة حاكم؟ أو دليل السباب مخصص؟ أو هو خاص بالزمان بعد النبي صلى الله عليه واله وسلم مباشرة قبل هدنة الأئمة (عليهم السلام) معهم؟ أو غير ذلك هذا ما لعلنا سوف نحققه لاحقاً. "إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ" ومنها: قوله (عليه السلام):"إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ وَلَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وَذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ" (23). فإنه صريح في أن كونهم سبّابين مبغوض له (عليه السلام)، فأيهما أرجح لو تزاحما: ارتكاب ما يبغضه الإمام (عليه السلام) لأجل ألا يطمعوا في الفساد في الإسلام، أو العكس: تجنّب ما يبغضه (عليه السلام) وإن طمعوا في الفساد في الإسلام؟ ومنها: الملاك المصرح به في ذيل الرواية "كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ" فإنه يزاحم ملاك السباب الذي لا هو أصوب في القول ولا هو أبلغ في العذر. "وَأَنَّ إمارتنا بِالرِّفْقِ وَالتَّأَلُّفِ وَالْوَقَارِ وَالتَّقِيَّةِ وَحُسْنِ الْخُلْطَةِ" ومنها: "عن الصادق (عليه السلام): فَلَا تَخْرَقُوا بِهِمْ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ إِمَارَةَ بَنِي أُمَيَّةَ كَانَتْ بِالسَّيْفِ وَالْعَسْفِ وَالْجَوْرِ، وَأَنَّ إمارتنا بِالرِّفْقِ وَالتَّأَلُّفِ وَالْوَقَارِ وَالتَّقِيَّةِ وَحُسْنِ الْخُلْطَةِ وَالْوَرَعِ وَالِاجْتِهَادِ، فَرَغِّبُوا النَّاسَ فِي دِينِكُمْ وَفِيمَا أَنْتُمْ فِيهِ" (24). وهذه صريحة في السياسة التي تبتني عليها أمارتهم (عليهم السلام):"الرِّفْقِ وَالتَّأَلُّفِ وَالْوَقَارِ وَالتَّقِيَّةِ وَحُسْنِ الْخُلْطَةِ وَالْوَرَعِ" فهو مزاحم لتلك المصلحة في سباب أهل الريب والبدع "كَيْلَا يَطْمَعُوا فِي الْفَسَادِ فِي الْإِسْلَامِ." "وَأَظْهِرْ فِي عَلَانِيَتِكَ الْمُدَارَاةَ عَنِّي لِعَدُوِّي وَعَدُوِّكَ" ومنها: "ما رواه الكليني في الكافي عَنْ حَبِيبٍ السِّجِسْتَانِيِّ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: فِي التَّوْرَاةِ مَكْتُوبٌ فِيمَا نَاجَى اللَّهُ بِهِ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ: يَا مُوسَى اكْتُمْ مَكْتُومَ سِرِّي فِي سَرِيرَتِكَ وَأَظْهِرْ فِي عَلَانِيَتِكَ الْمُدَارَاةَ عَنِّي لِعَدُوِّي وَعَدُوِّكَ مِنْ خَلْقِي وَلَا تَسْتَسِبَّ لِي عِنْدَهُمْ بِإِظْهَارِ مَكْتُومِ سِرِّي فَتُشْرِكَ عَدُوَّكَ وَعَدُوِّي فِي سَبِّي" (25). والمداراة للعدو ملاك مصرح به في هذه الرواية، أو فقل هو مأمور به فيها والسباب يناقضه تماماً. "هذا أبصر بالحجج وأرفق منه" ومنها: "إنه روي عنه (عليه السلام) أنه نهى رجلاً عن الكلام، وأمر آخر به، فقال له بعض أصحابه: جعلت فداك، نهيت فلاناً عن الكلام و أمرت هذا به؟ فقال: هذا أبصر بالحجج وأرفق منه" (26). فهذا ملاك صريح "أرفق منه" فقد أمر الإمام أحدهما بالكلام لأنه أرفق، ونهى الآخر عنه لأنه غير رافق أو رفيق فبما بالك بالسباب؟ خلاصة القول في ملاكات السباب والحاصل: إن هذه ملاكات عديدة كثيرة صرحت بها الروايات، وهي تتنوع بين ما هو حق الله تعالى "الذي ينتهكه السباب"، وما هو حق الرسول والإمام "والذي يهتكه السباب"، وما هو حق الشيعة والناس – وهو على أنواع – (وكلها يضيِّعه السباب) – فكيف يتجرأ شخص ما بأن يقول بوجوب أو جواز سباب أهل البدع لمجرد ملاحظة تلك الرواية، وَأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ وَالْقَوْلَ فِيهِمْ وَالْوَقِيعَةَ وَبَاهِتُوهُمْ كَيْلَا يَطْمَعُوا فِي الْفَسَادِ فِي الْإِسْلَامِ وَيَحْذَرَهُمُ النَّاسُ" بدون أن يرجع لفقهاء يستفرغون وسعهم في دراسة مختلف الروايات على ضوء معطيات قواعد باب التزاحم؟ وما هي المرجعية؟ فهذا كبرى، وعلى صعيد العقل النظري، وأما صغرى وعلى صعيد التشخيص الموضوعي، فقد سبق أن تشخيص الموضوع (وإنه مَن يقوم بذلك؟ وكيف؟ ومتى؟ وما هي الحدود.. الخ) يعود إلى الفقهاء العظام بالتعاون مع أهل الخبرة، وفي إطار الشورى التي صرح بها تعالى في قوله (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ)(27). فبعد ذلك كله تكون الذمة شرعاً بريئة من اتخاذ الموقف النظري العام، ثم تطبيقه في الزمان المناسب والمكان المناسب، وعبر الفرد الكفوء الحكيم المناسب، وبالطريقة المناسبة التي تمخضت عن دراسة مختلف مقتضيات ملاكات باب التزاحم المتخالفة. وتلك الملاكات حقائق تشكيكية ومن الجدير، التأكيد على أن كافة الملاكات السابقة هي حقائق تشكيكية ذات مراتب، فعلى الفقيه أن يلاحظها بمراتبها، ثم قد يفصّل على ضوئها في شأنها، وذلك مما قد ينتج صوراً عديدة كثيرة منوعة. كما أن من الضروري التأكيد على أن ذلك كله بناء على كون الأمر من باب التزاحم، كما هو مفاد ذكر الملاكات في تلك الروايات، وأما بناءً على كونه من باب التعارض، فقد سبق بعض الكلام، وستأتي تتمته بإذن الله تعالى عند تفصيل الكلام عن أ- تعدد إطلاقات السباب، ب- وجه الجمع بين الروايات، ج- مقتضى أدلة التعادل والتراجيح، وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين ---------------------------- من سلسلة (محاضرات في التفسير والتدبر) لسماحة آية الله، السيد مرتضى الحسيني الشيرازي، حفظه الله تعالى وأيّده، بمدينة النجف الأشرف؛ ألقاها في الأربعاء 4 شعبان 1440هـ. ------------------------------------------------------------------- (1) سورة البقرة: آية 83. (2) سورة الأنعام: آية 108. (3) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج2 ص275. (4) نهج البلاغة: الخطبة 206 ، بحار الأنوار : ج 32 ص 561 ح 466 . (5) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج3 ص22. (6) الدرس (302). (7) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج2 ص275. (8) سورة البقرة: آية 194. (9) قطع طمعهم في الفساد في الإسلام. (10) رعاية حريم الله تعالى. (11) سورة النساء: آية 48، 116. (12) الشيخ الصدوق، الأمالي، المكتبة الإسلامية – قم، 1404هـ، ص400. (13) سورة الإسراء: آية 53. (14) أبو منصور، أحمد بن علي الطبرسي، الاحتجاج، نشر المرتضى – مشهد المقدسة، 1403هـ، ج1 ص21. (15) انه لا تنقطع أعذار الكفار ولا تزول شبهاتهم، بالسباب. (16) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج8 ص7. (17) المستظهر انها (فنُفُوا). (18) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج2 ص117. (19) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج2 ص117. (20) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج2 ص360. (21) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج1 ص333-335. (22) الشيخ الطوسي، التهذيب، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج6 ص154. (23) نهج البلاغة : الخطبة 206 ، بحار الأنوار : ج 32 ص 561 ح 466 . (24) الشيخ الصدوق، الخصال، مؤسسة النشر الإسلامي – قم، 1403هـ، ج2 ص354. (25) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج2 ص117. (26) الشيخ المفيد، تصحيح الاعتقاد، المؤتمر للشيخ المفيد – قم، 1413هـ، ص71. (27) سورة الشورى: آية 38. 15/ ذو القعدة/1444هـ |