![]() |
![]() |
(قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ) ... مدارية الأقربية للواقع في الحجج وسياسة الصدمة مغامرة ومنهج السِّباب مرفوض |
السيد مرتضى الشيرازي |
موقع الإمام الشيرازي بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(11) قال الله العظيم في كتابه الكريم: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً).(1)
المبحث الأول: ثمرات أصولية لقوله تعالى: (أَهْدَى سَبِيلاً) سبق: (مدارية أقربية الإصابة في الحجج ومنها: أن الآية الشريفة قد تصلح مؤيداً، بل دليلاً على البحث الأصولي المعروف وهو أن الملاك في حجية الحجج هل هو (أقربية الإصابة للواقع)؟ أو هو (أقوائية الظن الحاصل من الدليل من قسيمه أو من مناقضه أو ضده نوعاً)؟ والنسبة بين الأمرين(2) عموم من وجه، أو هو (المصلحة السلوكية)؟ أو (التعبد)؟ أو (المجموع المركب من الأول والأخير أو الثاني والأخير أو كليهما مع الثالث أو الاول أو الثاني مع الثالث)؟. فقد يقال: بأن من مرجحات كون الأقربية للواقع هي الملاك مثل قوله تعالى (أَهْدَى سَبِيلاً) إذ الآية تثبت إجمالاً أن هناك من هو أهدى سبيلاً، والعقل يحكم بأن الأهدى سبيلاً أحق أن يُتَّبع، ثم الوجدان يشهد بان هذا، كالأعلم أو الأوثق، أهدى سبيلاً. وبعبارة أخرى: الآية الشريفة تشير إلى نكتة ارتكازية عقلية – وجدانية وعقلائية وهي أن الأهدى سبيلاً أحق أن يتبع)(3). وبعبارة أخرى: ان قوله تعالى: (أَهْدَى سَبِيلاً) يمكن أن يشكل جزء المقدم في قضية شرطية استثنائية بأن يقال: أ- (كلما كان أحدهما أو أحدهم أهدى سبيلاً (الأعلم وغيره، الأكثر خبرة وغيره، المطابق لرأي الشورى وغيره) وجب أو رجُح، على الرأيين، إتباعه) لِحُكم العقل بأن الأهدى سبيلاً للواقع يجب أو يرجُح إتباعه؛ إذ الفرض أنه طريق للمصلحة في المتعلق أو لتجنب المفسدة فيه أو لإحراز رضا المولى جل وعلا، وأن هذا الطريق أكثر إحرازاً لها وتحصيلاً من غيره. وإنما يقال بالرجحان لا الوجوب لمزاحمة مصلحة الأقربية للواقع بمصلحة التسهيل وشبهها، ولذا بنى العقلاء على رجحان تقليد الأعلم وإتباع الأكثر خبرة، لا على تعيّنه ووجوبه التعييني، كما أنه يمكن أن يلاحظ الشارع مصالح أخرى سلوكية في بسط الحجية على الجميع: الأقرب للإصابة والأهدى سبيلاً مع القريب للإصابة والمهتدي للسبيل ومنها: إن الأصلح للأمة هو تعدد الفقهاء، كما أن الأصلح لها تعدد الأطباء والرجوع إليهم جميعاً؛ دون حصر الأمة في زاوية الرجوع للأعلم خاصة والتضييق عليها بحرمة إتباع غيره، لجهات عديدة فصّلناها في شورى الفقهاء، فراجع. فهذا هو المقدم في الشرطية، ثم يقال: ب- (لكن هذا (الأعلم) أهدى سبيلاً ج- فيجب أو يرجح إتباعه). كما سبق: (الجواب عن شبهة تنقيح المناط الظني في الحجج وقد يورد على ذلك بوجوه، منها: إنه تنقيح مناط، وقد يجاب بأنه قطعي، أو يجاب بأن الأصل في حجية الحجج مرجعية العقلاء فيها والأصل إمضاء الشارع لها فإنها إمضائيات لا تأسيسيات، وإن بناءهم على ملاكية الأقرب للإصابة، وقد يناقش في ذلك، بما فصلناه في كتاب (شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية) و(تقليد الأعلم وحجية فتوى المفضول) فراجع، كما قد يجاب بأن بعض الحجج قد نصّ في الروايات على أقربيته للإصابة، كالمورد الآتي(4)، فتدبر)(5).
أين يكون تنقيح المناط حجةً؟ وبعبارة أخرى: إن القياس ليس بحجة في معرفة ملاكات أحكام الشارع، لكنه لا مانع منه في أربع موارد: في ملاكات أحكام الموالي العرفية، وملاكات أحكام العقلاء بما هم عقلاء، وفيمن فوّض إليه الشارع الولاية، إضافة إلى مورد رابع وهو الحجج العقلائية، وهو محل الكلام ههنا. أما في الثلاثة الأولى؛ فلوضوح إحاطة الموالي العرفية بملاكات أحكامهم الصادرة منهم، وكذلك العقلاء بما هم عقلاء، وإلا لما حكموا؛ ولوضوح ضرورة إحاطة الفقيه بملاكات أحكامه الولائية وإلا لما صح له أن يحكم ولائياً، وكذلك ضرورة إحاطة الأب أو القيّم على الصغار والوقف بملاكات أحكامه وإلا لما جاز له إصدار الحكم الولوي، فمثلاً فوّض العقلاء والشارع للأب أن يشتري لأولاده أيّ مأكل أو ملبس أو جهاز أراده مما كان فيه غبطتهم ومصلحتهم(6)، فقد أوكل إليه الشارع (أو العقلاء) تشخيص المصلحة، فلا بد أن يكون محيطاً بها وبمزاحماتها وموانعها بالقدر العرفي، فإذا أحاط بالمصلحة في شراء هذا الجهاز للطفل، ثم رأى أن نفس المصلحة في شراء جهاز آخر جاز له دون شك، فإنه ليس بقياس ظني، بل هو تنقيح مناط قطعي، والأوضح أن يمثل بنائبه أو وكيله؛ خاصة إذا عجز عن تحصيل الملاك بنفسه، فإن له أن يعتمد على ملاكات موكله. وكذلك الفقيه، فإنه على القول بولايته، وفي وحدود ولايته، فإنه لا بد من أن يحيط بملاك حكمه الولوي بإجراء هذه المعاهدة مع هذه الدولة أو الحرب مع تلك الدولة أو تحديد قيمة العملة بكذا، بعد الاستشارة مع الخبراء أو شبه ذلك (بناء على ان له ذلك شرعاً)، فإذا أحاط بملاك أمر ولوي فحكم كان لا بد أن يكون ذلك تمام الملاك، فكان له تنقيح المناط بالبداهة، إذ هو قطعي وليس قياساً ظنياً، وذلك على العكس من ملاكات أحكام الشارع، فإن الشارع لم يحطنا خبراً بملاكات أحكامه، بل فوّض علمها للرسول المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم إلى باب مدينة علمه علي المرتضى (عليه السلام) والزهراء البتول (عليها السلام) وسائر الأئمة النجباء (عليهم السلام)، نعم هم (عليهم السلام) الذين يملكون تعدية الحكم لغير مورد النص الإلهي (القرآني أو القدسي) لعلمهم بكافة جهات ما له مدخل في الحكم، دوننا إذ لم يفوّض إلينا علم كافة جهات ملاكات أحكامه تعالى بمزاحماتها وموانعها ودوافعها وغير ذلك. لذلك، كان القياس في أحكام الشارع ظنياً محرماً، وكان تنقيح المناط قطعياً بالنسبة إلى الفقيه في الموضوعات المخوّلة له، لأنه المحيط بملاكات الأصل والفرع مادام قد فوّض إليه. وكذا حال سائر الأولياء كالأب والوصي والقيّم.
حجية تنقيح المناط في (الحجج) وأما (الحُجَج)، فإنْ كان الكلام عن حجة خاصة أسس الشارع حجيتها، من غير أن يدرك العقلاء ملاكاتها، فلا كلام في عدم جواز القياس، وإنما الكلام في الحجج العقلائية التي أمضاها الشارع ولو بعدم الردع، كخبر الثقة وحجية الظواهر في الأحكام وكالبينة في الموضوعات، بل إن الشارع أمضى معظمها بالإمضاء المباشر الصريح، فحيث أن الفرض أنها حجج عقلائية، فلا بد أن يكون العقلاء قد أحاطوا بجهات ملاكاتها حتى حكموا بحجيتها دون حجية غيرها (كالأحلام والرمل والاسطرلاب مثلاً)، وحيث أحاطوا بجهات ملاكاتها، فإنه يصح لهم تعدية الحكم إلى أي أمر آخر يرونه مساوياً في القرب للإصابة أو أقرب، مما عدوه حجة. بعبارة أخرى: إذا أمضى الشارع حجية الحجج العقلائية كشف عن أنه أمضى ملاكيتها التامة، وإلا لما امضى حجيتها، فحيث أمضى ملاكيتها التامة، والفرض أن العقلاء بها عارفون وإلا لما كانوا هم الذين اعتبروها حجة، فيكون تنقيح المناط حينئذٍ قطعياً، بل سيكون المناط حاضراً لديهم من غير حاجة إلى تنقيح؛ إلا أن يراد بالتنقيح الاستحضار التفصيلي بعد الوجود الإجمالي في مرتكزاتهم. فتدبر جيداً في المقام فإنه به وبالتأمل حقيق. ويؤيد ما ذكرناه: إن الفقهاء صرحوا بأن (الحجج) حجة من باب الظن النوعي لا الشخصي الذي يقول به الانسدادي، فالظن النوعي أي الحاصل للنوع يكونون هم الملاك، وهم المرجع فيه، فكلما رأوه مشتملاً عليه عدّوه حجة. فتأمل. نعم، كلما رأى الشارع غفلة العقلاء عن جهةٍ مزاحمةٍ مثلاً، كان له أن يتدخل بإضافة قيد أو رفع قيد، وذلك في خصوص الحجج على أحكامه، لا في الحجج على أحكامهم لأن الأولى من شأنه دون الأخيرة، فإذا فعل لم يصح التخطي عنه لكشف عدم إمضائه إلا بهذا الشرط عن عدم كفاية الملاك الذي اعتبره العقلاء طريقاً للوصول إلى أحكامه، ولذا أضاف إليه شرطاً، فكلما أمضى دون قيد أو شرط، كما في حجية الظواهر وخبر الثقة، كشف عن تمامية ما رآه العقلاء تمام الملاك للحجية فتدبر وتأمل.
المبحث الثاني: كيف نكبح الشواكل وكيف نصنعها؟ وتنبع أهمية هذا المبحث من أن الشاكلة النفسية تبدأ منذ الطفولة المبكرة (بل منذ كونه جنيناً في الرحم) ثم لا تزال تنمو وتنمو بمرور السنين، بنحو المقتضي، إلا أن يتدخل عامل خارجي لتغيير الشاكلة: أما لعكس مسارها أو لتجميدها وإيقافها في الحدود التي كانت عليها. اللص في الطفولة واللص في الوزارة! فمثلاً: (اللص) في طفولته، مرشحٌ لأن يزداد جشعه وولعه وطمعه في السرقة كلما كبر أكثر فأكثر، وكلما توفرت أمامه الفرص لسرقات أكبر فأكبر وأعظم فأعظم.. فإن من يسرق في طفولته بيضة أو دجاجة ثم يسرق في شبابه سيارة أو ساعة، فإنه سيسرق إذا صار رئيس شركة الملايين، وسيسرق إذا صار وزيراً أو رئيساًللوزراء مئات الملايين! ومن الطريف ما نقل،أنه مع بداية تأسيس الإذاعة في العراق، ابتكر أحد الموظفين خطة شيطانية لسرقة بعض الأموال، حيث كان من برامج الإذاعة تلاوة القرآن الكريم، وكان يسبقها بثّ لصوت بلبل يصفّر، وكان المسؤول جاهلاً بتفاصيل إعدادات البرنامج، فادعى الموظف أنهم اشتروا بلبلاً ليصفّر قبل أوقات بث القرآن، وأنّ تكاليف رعايته وطعامه المميز هي كذا شهرياً، وظل الموظف يأخذ أموالاً لفترات طويلة من المسؤول الجاهل، على رعاية البلبل وإطعامه، حتى اكتشف بعد حين أنه ما كان إلا تسجيلاً لصوت البلبل يعاد بثه قبل التلاوة، ولم يكن بلبل ولا غيره! إن هذه الحادثة على صغرها تكشف عن الشاكلة النفسية الخبيثة، ومن البديهي أن من يسرق باسم البلبل المزعوم دراهم، فإنه سيسرق أكثر فأكثر فأكثر كلما ترقى في المنصب أكثر فأكثر فأكثر.
مربع إصلاح الشواكل والبحث يقع في الطريق المثلى لإصلاح الشواكل السيئة أو للسيطرة عليها بالحدود الممكنة، وقد سبق أن الطرق كثيرة أشرنا إلى عشرة منها، ويمكن أن نعبر عن بعضها بأنه تجمعها أربع كلمات مستقاة من أربع آيات: التعايش، والتحاور، والتعارف، والتدافع. فأما التحاور فقوله تعالى: (ادْعُ إِلى سَبيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ)(7). وأما التعارف فقوله تعالى: (وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا...)(8). وأما التعايش فقوله تعالى: (لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطين)(9). وأما التدافع فقوله تعالى: (وَلَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ)(10). وهناك آيات عديدة دالة على كل من تلك المحاور، وتفصيل وجه الحاجة إليها وكيفية معالجتها لمشكلة (الشاكلة السلبية) في بحوث قادمة بإذن الله تعالى. ومحل الكلام الآن حول إحدى الحلول المزعومة لمشكلة الشاكلة وهي ما سبق من:
سياسة الرعب والصدمة لقد اتخذ بعض الإسلاميين من شيعة وسنة سياسة الصدمة والرعب منهجاً في طريقة التعامل مع الآخرين من أشخاص أو جهات أو حكومات أو غيرها؛ كما أن ذلك كان هو السبب وراء ما كانت تفعله داعش؛ إذ أنهم كانوا يحرقون أعدائهم، بل حتى أصدقائهم إذا لم يطيعوهم ولو في أمر عادي، أحياءً بطريقة صادمة مفجعة، وكانوا يحبسون السجين في قفص حديدي ضيق ثم يغرقونه في الماء والسجين يصرخ ويستغيث، وكانوا هم الذين يصوّرون ذلك ثم يبثونه في وسائل الاتصال الاجتماعي على أوسع نطاق كي يبثوا الرعب الشديد في نفوس الناس وفي الجيش المقابل كي يستسلموا لهم دون أدنى مقاومة!!
سياسة استعمارية تبناها إسلاميون! ولقد تبنى ذلك المنهج بعض الإسلاميين فاتخذوا من التهجم على جميع من لا يوافقهم الرأي، من مرجعيات أو أحزاب أو شخصيات، منهجاً لهم وأسلوباً للدعوة إلى الحق!! واتخذوا من السباب والازدراء بالآخرين أسلوباً للنهي عن المنكر!! وكأنهم اعتبروا أنفسهم (ميزان الحق والباطل) وانهم (الحق المطلق) وان اجتهاد غيرهم باطل مطلق! ومع أن الفقهاء العدول كلهم وكلاء الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، وأن لكل اجتهاده في الأحكام وفي تشخيص الموضوعات الشخصية أو العامة، وأن من بديهيات التشيع فتح باب الاجتهاد، كما أن الأصل في فعل المسلم حمله على الصحة، إلا أن بعض هؤلاء أجلسوا أنفسهم مجلس الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) ومجلس الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام) نفسه، وجعلوا تشخيصهم للموضوعات وللشخصيات الملاك المطلق للصحيح والخطأ والحق والباطل، وكأنهم هم (مدينة علم الرسول)، وكأنهم هم (ميزان الأعمال) مع أن ميزان الأعمال هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ولم ينصبهم (عليه السلام) ميزاناً للأعمال من بعده!)(11) ونضيف:
أصالة الرحمة على المؤمنين بل حتى الكافرين اولاً: إن الأصل هو السلم والرحمة والحكمة والسلم واليسر، كما سبق، ونضيف قوله تعالى: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ)(12). فان الأصل هو الرحمة للمسلمين بل للخلق كافة، إلا ما دل الدليل على الخروج عنه، لقوله تعالى (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ)(13). و(وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمين)(14). وتفصيل الاستدلال بالآيات الشريفة والأخذ والرد في بحث قادم بإذن الله تعالى.
الأصل عدم سب الكفار ثانياً: إن الأصل أيضاً عدم سب حتى الكفار قال تعالى: (وَلا تَسُبُّوا الَّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ)(15). كما نهى الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أصحابه عن سب أصحاب معاوية إذ قال: (إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ وَلَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وَذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ)(16) وتفصيل الاستدلال بالآية وما قد يورد عليها والأجوبة، في بحث قادم بإذن الله تعالى.
رد الاستدلال بوجود السباب في القرآن والسنة ثالثاً: إن المنهج العام القرآني هو عدم السباب، وقد سبق: (لا يقال: وردت آيات في القرآن الكريم عنيفة اللهجة تتبع سياسة (الصدمة)! إذ يقال: أولاً: لله تعالى الحق في أن يفعل ما يشاء، وليس أنتم! (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ)(17)، فكيف تقيس نفسك بالله تعالى فإنه خالق الكون وولي الجميع.. ومن أنت؟ ثم الحق، من بعد الله تعالى، للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والآل (عليهم السلام)، ثم لوكلائهم الفقهاء العدول بالقدر المخوّل إليهم، وليس لكل أحد ذلك أبداً.. ثانياً: إن ذلك هو الاستثناء في القرآن وليس الأصل (وهؤلاء اتخذوا ذلك الأصل)، ألا ترى أن آيات القرآن هي، على قول، آية اما الآيات التي قيل أن فيها سباً وشتماً فهي نادرة جداً ولعلها لا تبلغ حتى الواحد بالألف! أما هؤلاء فتراهم يسبون الناس ليل نهار.. وما أعجب ذلك؟ وإن عشت أراك الله عجباً!)(18). ونضيف: أن المنهج العام للروايات هو كذلك أيضاً، فراجع وسائل الشيعة مثلاً، وهو يحتوي على ما لعله ستة عشر ألف رواية، والنادر النادر فيها السباب (إن صدق عليه السباب)، وهؤلاء اتخذوا السباب منهجاً في الحياة!.
المرجع في الجمع بين طائفتي الآيات والروايات المتعارضة، المجتهد رابعاً: سلّمنا، ولكن نقول غاية الأمر أن هناك طائفتين من الآيات والروايات متعارضة إذ أن بعضها تدعو لـ(ادْعُ إِلى سَبيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ) و(وَلا تَسُبُّوا الَّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) و(إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ...) وبعضها تدل على صدور السباب من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) فنقول: إن المرجع في حلّ التعارض (المتوهم) بين الروايات، هو مرجع التقليد الجامع للشرائط، وليس كل شخص متحمس ومتفاعل أو منفعل، فهو المرجع لاكتشاف ما هو الأصل، ثم ما هي الحدود والقيود والشروط وغيرهما؛ كما هو المرجع في باب التزاحم ههنا، كما سيأتي. وذلك ككافة المسائل الشرعية، بل إن هذه من أهمها على الإطلاق، فكيف تأخذ أحكامك من مراجع التقليد لكنك في هذه المسألة الخطيرة تُعرض عنهم لتجتهد فيها وأنت غير مجتهد! إن هذا لشيء عجاب! ومرجعية الفقهاء الجامعين للشرائط في أمثال ذلك بديهية، إذ تدل عليها إضافة للعقل وبناء العقلاء، الآيات والروايات الكثيرة، ونشير إلى اثنين فقط منها ههنا قال تعالى: (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)(19). وقال الإمام (عليه السلام): (وَأَمَّا الْحَوَادِثُ الْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا فَإِنَّهُمْ حُجَّتِي عَلَيْكُمْ وَأَنَا حُجَّةُ اللَّهِ)(20). ولا شك في أن سبّ المعارضين والمخالفين والكفار والمشركين على رؤوس الأشهاد من أهم الحوادث الواقعة في هذا الزمن، بل في كل الأزمان، فاللازم الرجوع في هذه القضية إلى الفقهاء الجامعين للشرائط.
متى يحكم الفقهاء بجواز السباب؟ والواجب على الفقهاء أمران(21): أولاً: استفراغ الوسع في استنباط الحكم الشرعي ووجوه الجمع بين طوائف الروايات (فإنها بحسب التحقيق أكثر من طائفتين). ثانياً: ثم الواجب عليهم تنقيح الموضوع، وإنه هل هذا الزمان وهذا المكان وفي هذه البيئة ومن هذا الشخص وبالنسبة إلى هذه الجهة أو الفئة أو الدولة أو الشخص، ذلك مطلوب أو عكسه المطلوب؟ إذ عليهم دراسة كافة مقتضيات باب التزاحم في الموضوع وكافة تأثيرات سباب الآخرين من أشخاص وحكومات على أتباع أهل البيت في شتى البلاد حقوقياً، وأمنياً، سياسياً، اقتصادياً واجتماعياً، ولا يمكن ذلك للفقيه عادة إلا باستشارة مجموعة معتنى بها من أهل الخبرة بأوضاع البلاد وأوضاع الشيعة في كل مكان، وذلك يعني وجوب استشارة خبراء بعلم الاجتماع وبعلم النفس الاجتماعي وبعلم السياسة وشبه ذلك كي يكون تنقيحه للموضوع وللحادثة الواقعة مبرءً للذمة، إن شاء الله، وقد فصّلنا الكلام عن ذلك في شورى الفقهاء فراجع. ويؤكد ذلك، بل يبرهنه أن السباب إذا كان شخصياً (كما لو اجتمعا في غرفة مغلقة فسبّه متوهماً أنه يستخدم سياسة الصدمة بذلك أو معتقداً جواز أو وجوب سبّه مطلقاً)، فقد يقال أن تشخيص الموضوع راجع حينئذٍ للمكلف نفسه، وذلك طبعاً بعد أخذ الحكم الكلي من الفقيه الجامع للشرائط، ولكن الأمر يختلف في السباب النوعي أعني السبّ الذي ينتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي والفضائيات، فإنه يترك تأثيره على عامة الشيعة دون شك، فهو من الحوادث الواقعة، فلا بد فيه من الرجوع إلى المرجع الجامع للشرائط. ومما يؤكد ذلك ويبرهنه أيضاً: إن الروايات التي ورد فيها بعض ما يقال انه سباب، تحتاج إلى تنقيح فقهي وانها هل كانت بنحو القضية الخارجية؟ أو كانت بنحو القضية الحقيقية؟ ان ذلك مما لا يمكن للعامي البت فيه ولو فعل لفعل محرماً، بل المرجعية هي للمرجع الجامع للشرائط.
نحن في زمان هدنة فالسباب ممنوع كأصل عام! خامساً: إن المستظهر من الروايات إننا معهم في زمان هدنة إلى يوم ظهور القائم المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، والروايات تتنوع بين العامةٍ وبين ما تتطرق للأهم من السباب ملاكاً، قطعاً، وبين ما يعلم بضم بعضها إلى بعض القاعدة العامة.. وهذه بعض الروايات الشريفة: (عن بريد العجلي قَالَ: قِيلَ لِأَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام): إِنَّ أَصْحَابَنَا بِالْكُوفَةِ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ، فَلَوْ أَمَرْتَهُمْ لَأَطَاعُوكَ وَاتَّبَعُوكَ، فَقَالَ: يَجِيءُ أَحَدُهُمْ إِلَى كِيسِ أَخِيهِ فَيَأْخُذُ مِنْهُ حَاجَتَهُ؟ فَقَالَ: لَا، قَالَ: فَهُمْ بِدِمَائِهِمْ أَبْخَلُ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ النَّاسَ فِي هُدْنَةٍ تُنَاكِحُهُمْ وَتُوَارِثُهُمْ وَيُقِيمُ عَلَيْهِمُ الْحُدُودَ وَتُؤَدِّى أَمَانَاتِهِمْ حَتَّى إِذْ قَامَ الْقَائِمُ جَاءَتِ الْمُزَايلَةُ وَيَأْتِي الرَّجُلُ إِلَى كِيسِ أَخِيهِ فَيَأْخُذُ حَاجَتَهُ لَا يَمْنَعُهُ)(22) فالمزايلة والفرز حينذاك وليس قبل ذلك(23) وقوله (عليه السلام)"إِنَّ النَّاسَ فِي هُدْنَةٍ" عام، وما ذكر بعده الظاهر انه ذكر للمصاديق لا للحصر فان اللقب لا مفهوم له. و(عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْجَبَلِ يَسْأَلُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام عَنْ رَجُلٍ أَخَذَ أَرْضاً مَوَاتاً تَرَكَهَا أَهْلُهَا فَعَمَرَهَا وَكَرَى أَنْهَارَهَا وَبَنَى فِيهَا بُيُوتاً وَغَرَسَ فِيهَا نَخْلًا وَشَجَراً، قَالَ: فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام: كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام يَقُولُ: مَنْ أَحْيَا أَرْضاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَهِيَ لَهُ وَعَلَيْهِ طَسْقُهَا يُؤَدِّيهِ إِلَى الْإِمَامِ فِي حَالِ الْهُدْنَةِ، فَإِذَا ظَهَرَ الْقَائِمُ فَلْيُوَطِّنْ نَفْسَهُ عَلَى أَنْ تُؤْخَذَ مِنْهُ)(24) فلاحظ قوله عليه السلام: (فِي حَالِ الْهُدْنَةِ) الذي وقع موقع التعليل لصغرى أداء الطسق. وبإسناده عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن عثمان الحلبي عن أبيه، عن محمد بن علي الحلبي قال: "اسْتَوْدَعَنِي رَجُلٌ مِنْ مَوَالِي آلِ مَرْوَانَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَغَابَ فَلَمْ أَدْرِ مَا أَصْنَعُ بِالدَّنَانِيرِ فَأَتَيْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، وَقُلْتُ لَهُ: أَنْتَ أَحَقُّ بِهَا، فَقَالَ: لَا إِنَّ أَبِي كَانَ يَقُولُ: إِنَّمَا نَحْنُ فِيهِمْ بِمَنْزِلَةِ هُدْنَةٍ نُؤَدِّي أَمَانَتَهُمْ وَنَرُدُّ ضَالَّتَهُمْ وَنُقِيمُ الشَّهَادَةَ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ فَإِذَا تَفَرَّقَتِ الْأَهْوَاءُ لَمْ يَسَعْ أَحَداً الْمُقَام)(25) فلاحظ قوله (عليه السلام):"إِنَّمَا نَحْنُ فِيهِمْ بِمَنْزِلَةِ هُدْنَةٍ" والحصر ظاهره انه حقيقي، وقوله بمنزلة هدنة لأنها لم تكن هدنة قانونية مكتوبة وصريحة وموقعة بين الطرفين، بل هي (هدنة تنزيلية). وعن محمد بن علي بن الحسين بإسناده عن العلاء بن رزين أنّه سأل أبا جعفر (عليه السلام)"عَنْ جُمْهُورِ النَّاسِ؟ فَقَالَ هُمُ الْيَوْمَ أَهْلُ هُدْنَةٍ تُرَدُّ ضَالَّتُهُمْ وَتُؤَدَّى أَمَانَتُهُمْ وَتُحْقَنُ دِمَاؤُهُمْ وَتَجُوزُ مُنَاكَحَتُهُمْ وَمُوَارَثَتُهُمْ فِي هَذَا الْحَالِ"(26) إلى غير ذلك من الروايات.
سياسة الصدمة مغامرة تنتج غالباً النقيض ثم إن سياسة (الصدمة) مغامرة غير مضمونة العواقب، بل الغالب فيها نقيض المقصود، ومن الغريب أن يستدل دعاة هذا المنهج بالثمرة التي حصلوا عليها أحياناً من إتباع هذه السياسة، مع أنها لا تقارن بالنتائج المعاكسة والأضرار الفادحة التي جلبتها هذه السياسة العنيفة؛ ألا ترى أن الأطفال الذين يربون بالضرب والقسوة والعنف والسباب يتكوّنون غلاظاً خشنين ويختزنون، عادة، بداخلهم حقداً على الناس وعلى المجتمع؟ وألا ترى أنهم عندما يكبرون ينفّسون عن سنوات الكبت والضغط، بالقسوة والعنف والانتقام من هذا وذاك حتى، لربما، لأتفه الأمور؟ وألا ترى أن من يربى بالرفق واللين والمحبة والمودة والصفح والتعايش السلمي، يتحول إلى ينبوع للحنان والرأفة والرحمة والطيبة والوداعة ويكون كما جاء في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُحِبُّ الْعَبْدَ يَكُونُ سَهْلَ الْبَيْعِ سَهْلَ الشِّرَاءِ سَهْلَ الْقَضَاءِ سَهْلَ الِاقْتِضَاءِ" (27) و"الْمُؤْمِنُ إِلْفٌ مَأْلُوفٌ" (28). إن من الطبيعي أن ينضح كل إناء بما فيه، فإذا ملأتَ أسماع الصغار (أو الكبار) وقلوبهم وجوانحهم بالسباب والبذاءة، فإن صادراتهم ستكون من سنخ وارداتهم تماماً، وسوف لا يفرقون حينئذٍ بين صديق وعدو وأخ وأب وجار وشريك لأن طبيعة الإنسان واحدة، ومن اعتاد على سباب أعدائه فإنه سيبادر إلى سباب أصدقائه والمؤمنين لمجرد أدنى خلاف بسيط قد يحدث بينهم.. والمشاهدة الميدانية أكبر شاهد على ذلك فتتبعوا أحوال أولئك السّبابين فستجدونهم كذلك: لدى أدنى خلاف إداري أو مالي أو غيرهما مع أصدقائهم، يملأون الأسماع والأجواء بأنواع الشتائم والسباب! نعم، من الممكن ان تنتج هذه السياسة في بعض الأفراد، لكن ذلك الاستثناء، وهؤلاء يتخذونها قاعدة عامة، ولعمري أنها لأن أنتجت فرضاً هداية العشرات، فإنها أبعدت الألوف المؤلفة، ولئن أجدَتْ مع أشخاص فإنها نفرّت جماعات وفئات ومجاميع ومجتمعات، ولا أدل على ذلك من قوله تعالى: (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَليظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ" (29) فإذا كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على عظمته وإعجازه وارتباطه بالسماء ومظاهر كماله وآلاء جلاله وجماله، بتلك المثابة فما بالك ببعض الشباب الساذج المتحمس!
إذا أجدَتْ مع البعض فانها اخربَت الأكثر! نعم، إن بعضهم قد يستدل بأن هذه السياسة قد أفلحت مع فلان وفلان، وقد يستشهد بعدد من الموارد، ولكنه غفلة عن أن الجزئي لا يكون كاسباً ولا مكتسباً، وإن المقياس هو بالمجموع الكلي، وإن طريقتهم في عرض النتائج لهي غير علمية ولا منهجية؛ إذ الطريقة العلمية تعتمد على قواعد وأسس في (الاستبيان) و(الاستطلاع)، اما هؤلاء فيتخذون من الاستقراء لعدد من الموارد ومن التجربة الناقصة بل الناقصة جداً، دليلاً على التعميم كقاعدة عامة! وما أشبه ذلك بمن يستدل على حجية (الأحلام أو الرمل أو الاسطرلاب) بأنها قد أصابت أحياناً! فهل يتقبل العقلاء ذلك؟ وهل يجوّز الشارع ذلك؟ فإنه لا ريب في أن الأحلام قد تصيب، وكذلك استكشاف الطالع عبر النجوم، وهو حرام على رأي أو على بعض صوره، ولكن، ومع ذلك فإن الاعتماد عليها في استخراج الأحكام أو الحكم على الأشخاص محرم شرعاً ومرفوض عقلاً؛ ألا ترى أنه لو رأى في منامه أن سارق مجوهراته هو فلان، ثم أثبتت التحريات فرضاً صدق ذلك، فهل يجوز له إذا رأى مناماً آخر أن سارق كتبه أو ساعته هو فلان الآخر، أن يتهمه بالسرقة ويحكم عليه بها؟ كلا وألف كلا. إن مثل هؤلاء هو ذلك تماماً، إذ يستشهد بعشرة أو حتى خمسين أو مائة من الموارد قد اهتدى فيها أشخاص عبر سياسة الصدمة، لكنه يغفل أو يتغافل عن أنه صدّ بذلك الملايين عن الهداية حيث أوجد فيهم حاجزاً نفسياً سميكاً ضد الإسلام أو التشيع، بل إن سباب رموزهم على الفضائيات وغيرها، يولّد المزيد من الحقد والبغضاء، بل يجعل مراجل أحقادهم تغلي على الإسلام والمسلمين أو على الشيعة والمؤمنين، وذلك من بديهيات من يعيش داخل المجتمع، وقد يغفل عنه المنعزل في برج عاجي أو المتعصب الغافل عن حقائق الأمور، ألا ترى أن كافراً أو مخالفاً لو سبّ الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) أو أحد الأئمة المعصومين (عليهم السلام) أو السيدة الزهراء (عليها السلام) – لا سمح الله – إن الملايين من الناس، إن لم يكن عشرات أو مئات الملايين، سينفجرون غضباً وغيظاً ضد ذلك الساب الأثيم؟ وأنه لا يعقل أن يستدل ذلك السفيه المتعجرف بأنه بسبابه لأحد الأنبياء أو الأئمة أمكنه، وبسياسة الصدمة الرهيبة هذه، أن يخرج من الإسلام أو التشيع، مجاميع من الناس؟.
قصة طريفة وعبرة كبيرة وبذلك نعرف أن أي استدلال على نجاعة سياسة الصدمة كأصل عام، إنما هو استغفال للعقول وجهل بسيط أو مركب، وفي المثال الطريف التالي شاهد لطيف لدعاة الصدمة، ولكنه في الواقع ولدى التدبر عليهم وليس لهم: إذ ينقل ان ملكاً حكيماً عادلاً وُلِد له ولد ذكر فلما بلغ السنة الرابعة – مثلاً – فكّر أن يتخذ له معلماً حكيماً يربيه أحسن تربية كي يكون من بعده نِعم الملك، فلما استشار أشاروا عليه بحكيم معروف، فاتخذه معلماً لولده وأعطاه الملك الصلاحية في تربيته كما نهى ابنه عن أن يشتكي من المعلم وأمره بأن يطيعه كاملاً وحذره من أن يخالف المعلم في صغيرة أو كبيرة، وكان المعلم نِعم المعلم بالفعل، فقد ربى الصغير أفضل تربية وزكاه أحسن تزكية وعلمه أفضل تعليم طوال سنين من الزمن، لكنه في إحدى المرات حيث امتحنه فأجاب بنجاح مبهر قال له المعلم لقد نجحت بالفعل، ولكن جزاءك مني هو ما ترى، ثم صفعه صفعة قوية! بكى الطفل وسأله لماذا ضربتني؟ قال: لا لشيء أبداً.. إنما أحببت أن أضربك ظلماً وعدواناً! انفجر الطفل بالبكاء أكثر وحمل معه حقداً هائلاً على المعلم وصمّم على أنه إذا صار ملكاً أن ينتقم منه شرّ انتقام. ومضت الأيام، ومات الأب وصار الولد ملكاً، وعندما استوى على سرير الملك كان أول ما طلب هو إحضار المعلم وإحضار الجلاد والنطع!!.. فلما حضر المعلم، صرخ فيه الملك: هل تذكر إنك ضربتني ظلماً وعدواناً؟ قال المعلم، غير هيّاب، نعم أذكر جيداً، قال له الملك الآن حانت ساعة الانتقام! قال له المعلم لست خائفاً من القتل فاقتلني إن شئت، ولكن إِعلم أنه كانت لعملي حكمة عظمى! قال الملك: عجيب أمرك! تظلم وترى لعملك حكمة عظمى! قال: نعم، قال لماذا إذاً ضربتني؟ قال لأنني فكرت أنك ستصبح ملكاً، وإن الملوك يظلمون عادة وإنك ستكون أحدهم. ففكرت أنه لا بد أن أذيقك طعم الظلم ومرارته، لكي تتذكر ذلك بعمق عندما تريد أن تسجن أو تقتل ظلماً، فهل أحسست طعمه بعمق يا ترى؟ فكر الملك قليلاً وقال: ذلك مذهل! وكلامك صحيح! ثم عفى عنه وأصبح ذلك الملك العادل! هذه القصة سقناها كشاهد لأولئك الذين اتخذوا الصدمة منطقاً لهم، أو قالوا أن الصدمة نافعة أحياناً! نقول: نعم أحياناً (نادرة أو قليلة) قد تنفع لكنها مغامرة كبرى، والنادر وجود مثل هذا الملك الذي ينتج ظلمه تحوّله إلى عادل! والأغلب يحملون بذلك الحقد على المجتمع كله إذ يتحول ذلك إلى عقدة متجذرة في حياتهم! ونقول: نعم لا ننكر بعض الثمرة أحياناً ولكن ذلك كالخمر والميسر (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فيهِما إِثْمٌ كَبيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما)(30) فهل يصح الاستدلال ببعض المنافع على الجواز؟ فكيف بالرجحان؟ (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُون)(31). وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين
---------------------------- من سلسلة (محاضرات في التفسير والتدبر) لسماحة آية الله، السيد مرتضى الحسيني الشيرازي، حفظه الله تعالى وأيّده، بمدينة النجف الأشرف؛ ألقاها في الأربعاء 23 جمادى الأولى 1440هـ ------------------------------------------ (1) سورة الإسراء: آية 84. (2) أقربية الإصابة وأقوائية الظن الحاصل. (3) الدرس (294) (4) وهو الشورى. (5) الدرس (294) (6) أو لم يكن فيه مفسدة لهم، على الحد الأدنى، على الرأي الآخر. (7) سورة النحل: آية 125. (8) سورة الحجرات: آية 13. (9) سورة الممتحنة: آية 8. (10) سورة البقرة: آية 251. (11) الدرس (294) (12) سورة الفتح: آية 29. (13) سورة هود: آية 118-119. (14) سورة الأنبياء: آية 107. (15) سورة الأنعام: آية 108. (16) السيد الشريف الرضي، نهج البلاغة، دار الهجرة للنشر – قم، ص323. (17) سورة الأنبياء: آية 23. (18) الدرس (294) (19) سورة النساء: آية 83. (20)أبو منصور أحمد بن علي الطبرسي، الاحتجاج، نشر المرتضى – مشهد المقدسة، 1403هـ، ج2 ص469. (21) وسيأتي أمر ثالث في البحث القادم بإذن الله تعالى. (22) الشيخ المفيد، الاختصاص، المؤتمر للشيخ المفيد – قم، 1413هـ، ص24. (23) والاستثناء يحدده الفقيه الجامع الشرائط. (24) محمد بن الحسن الحر العاملي، وسائل الشيعة، مؤسسة آل البيت عليهم السلام – قم، 1409هـ، ج9 ص549. (25)الشيخ الطوسي، التهذيب، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج6 ص350. ووسائل الشيعة ج19 ص74. (26) الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مؤسسة النشر الإسلامي – قم، 1413هـ، ج3 ص472. ووسائل الشيعة ج20 ص561. (27) الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مؤسسة النشر الإسلامي – قم، 1413هـ، ج3 ص196 (28) تاج الدين الشعيري، جامع الأخبار، دار الرضي للنشر – قم، 1405هـ، ص85. (29) سورة آل عمران: آية 159. (30) سورة البقرة: آية 219. (31) سورة الصافات: آية 154، وسورة القلم: آية 36. 1/ شعبان/1444هـ |