دور الأعمال الصالحة في بناء الأمة الواحدة (الشورى والإحسان والشعائر والزواج، مثالاً)

السيد مرتضى الشيرازي

موقع الإمام الشيرازي

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين،

ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضيين،

واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين،

ولا حول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم

 

(وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً)

 

(2)  

دور الأعمال الصالحة في بناء الأمة الواحدة

(الشورى والإحسان والشعائر والزواج ... مثالاً)

يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)([1])

ويقول تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)([2])

 

العلاقة بين (الأمة) و(الأمة في الأمة) والفرق بينهما

الحديث يدور في هذه السلسلة من المباحث عن (الأمة الواحدة) وعن (الأمة في الأمة)، فإنه وبحسب المصطلح القرآني توجد هناك أمتان:

(الأمة الواحدة) العامة الشاملة الجامعة التي تضم مختلف الشرائح والتيارات والتجمعات والقبائل والشعوب، وهي الأمة التي تتحدث عنها الآية الشريفة الأولى (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ).

و(الأمة في الأمة) وهي أمة أضيق نطاقا واخص من حيث المهام والمسؤوليات وهي التي نعبر عنها بــ(الأمة في الأمة) التي تصرح بها الآية الثانية: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ...) فـ(لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ) أي: من المسلمين الذين يشكلون تلك الأمة الواسعة المترامية الأطراف يجب أن تنفرد أمة بالاضطلاع بالأدوار الثلاثة المذكورة في الآية الشريفة، فهي الأمة المتخصصة والتي عملها ومسؤوليتها الأساسية الدعوة الى الخير، وسبيل الله هو الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ولكن قد يقال: إنه قد ورد في الحديث النبوي: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِه‏"([3]) فهذه المسؤوليات الثلاثة هي مسؤوليات جماعية؟

والجواب: إن ذلك لا ينفي الحاجة الى أناس متفرغين أو شبه متفرغين للدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يتوهم أن هذا مخصص لذلك العام، ولا يتوهم أن ذلك يلغي مسؤولية الآخرين، كلا، بل إن أحدهما يكمل الآخر؛ إذ أن هناك مسؤولية عامة، وهناك مسؤولية خاصة للمتخصصين والمتفرغين، وهم الأمة في الأمة والتي تعد الحوزات العلمية المباركة التجسيد الواضح والأظهر لها.

 

عوامل وحدة الأمة الإسلامية أو فرقتها

وسيكون الحديث حول محورين (الأمة الواحدة) و(الأمة في الأمة) ضمن عدة بصائر:

البصيرة الأولى: من أهم أسباب الخلاف والعداء: أكل لقمة الحرام

يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ)

قد يتساءل: ما هو الترابط بين هذه المفردات الأربع (كلوا من الطيبات، أعملوا صالحاً، إن هذه أمتكم أمة واحدة، إنا ربكم فاتقون)؟

وقد مضى شطر من الكلام، حول وجه الترابط بين الأكل من الطيبات والأمة الواحدة، وسبق أن الأكل من الحرام يترك أثره الوضعي، فإن من أهم أسباب النزاعات والتناحر والتشاجر والفرقة وتمكّن الشيطان من الإنسان في مدّ بساط التهمة والغيبة والنميمة وكثير من المفاسد والموبقات حتى الفتن العامة والحروب العدوانية، هو أكل الحرام!!

وهذا هو ما يستحق أن تفرد له دراسات عديدة ومقالات كثيرة، وتؤلف حوله الكتب المتنوعة، وتقام حوله المؤتمرات والندوات، وتلقى حوله المحاضرات، وبحسب الاستقراء الناقص، لم نجد من كتب في ذلك إلا ضمناً واقتضاباً، رغم وجود الروايات الكثيرة في هذا الحقل، ورغم أن لعلمائنا في الأخلاق إشارات هامة بهذا الصدد([4]).

فينبغي أن تكتب ألوف الدراسات والتحقيقات حول آثار أكل الطيبات ومخاطر أكل الحرام؛ لأنه أمر بالغ التأثير في مسيرة الأمة الواحدة، إضافة إلى ما له من التأثير المباشر على الشخص نفسه وأسرته وعائلته.

 

البصيرة الثانية: من أهم عوامل تماسك الأمة الواحدة: العمل الصالح

إن (العمل الصالح) يصب مباشرة في توثيق عرى ودعائم الأمة الواحدة، وله المدخلية الكبرى أكثر من مدخلية الأكل من الطيبات.

وبكلمة جامعة: فإن العمل الصالح يعد من أهم مقومات الأمة الواحدة، ولنذكر لذلك عدداً من أهم المفردات والطرق:

1) الشعائر الدينية

الطريق الأول: الشعائر الدينية كزيارة الاربعين: بل كافة الشعائر الحسينية، بل كافة الشعائر الدينية بشكل عام.

 

من فلسفة الشعائر الدينية والحسينية

إن فلسفة الشعائر الدينية، ومنها الحسينية، أنها روافد تصب في تماسك عرى الأمة التي تكاد أن تتمزق، ويتجلى ذلك أكثر في زيارات الأربعين المليونية سنوياً. فإن الزائرين فيها والسائرين تجدهم أطيافاً متنوعة من مختلف الأعراق والأجناس والمستويات والخلفيات والتوجهات والعشائر والدول والمحافظات والحوزات والجامعات، كما تجد الجميع يستشعر روحاً أخوية لا نظير لها في كل شعوب العالم، إذ تجدهم جميعاً طوال أيام، قد تبلغ عشرة بل خمسة عشر بل عشرين يوماً، يتعاملون مع بعضهم بعضاً بكل محبة واحترام واعتزاز وإجلال وإكبار، سواء في الطريق أم في الخيم، وسواء تحت حرارة الشمس أم تحت دفق المطر، بل إن المراقب يشهد تجسيداً لقوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)([5]) بأبهى الصور وأجلاها. ولقد شاهد الجميع ذلك، ومن لم يشاهد فقد سمع بذلك بنحو التواتر أو غيره.

 

ضرورة التعبئة العامة للزيارة الشعبانية وغيرها

ومن هذا المنطلق، علينا أن نشجع أيضاً على أن تكون الزيارة الشعبانية لأبي عبد الله الحسين (عليه السلام) بقوة الزيارة الأربعينية. وكذلك زيارة يوم العاشر (عاشوراء) من المحرم، بل إن بعض العلماء احتمل أن تكون أفضل زيارات الإمام الحسين (عليه السلام) لكونها أقوى من حيث الخصائص المذكورة في الروايات من زيارة عرفة، بحسب ما استظهره الدربندي (رحمه الله).

بل وحتى سائر الزيارات، كزيارة ليلة الجمعة في كل أسبوع مثلاً، فإن الموالين لأهل البيت (عليهم السلام) هم بمئات الملايين، بل إن كل مسلم فهو موال لهم بالضرورة، فيبلغ عددهم مليار وستمائة مليون إلى المليارين، بحسب اختلاف الإحصاءات، ولعل الكثير أو الأكثر لا تتيسر له الزيارة الأربعينية، فلو وزعت على مدار العام، أمكن للأكثر الزيارة، وأمكن لكربلاء استيعاب مئات الملايين من الناس أيضاً طوال العام.

فلم لا نجنّد كل الطاقات لإحياء هذه الزيارات العظيمة ذات الخصائص المتميزة، بل والنادرة والتي تتجسد فيها كل معاني الإيمان والاخلاص والإيثار والأخوة والتعاون بتجلياتها المختلفة، ومنها إطعام الطعام لكافة الفقراء والمساكين، بل لكل غني وفقير وشريف؟ بل الغريب – وليس بغريب – إنك ترى أنّ المُعطي والمنفق يعطي وهو يرى نفسه مقصراَ، وأنه يشعر أن الآخذ منه له الفضل عليه، فالخدّام وعموم من يقدم أية خدمة لأي زائر، في مختلف الزيارات ومختلف الأوقات، يخدمون الزائرين وهم يرون أن المنّة هي للزائرين المارين عليهم، بل يشعرون بذلك من أعماق أنفسهم، حتى لكأنهم يتصورون أن الزائر هو في الحقيقة ملك كريم – وهو كذلك بل أعظم - مر بهم وتفضل عليهم بمروره أو تناول شيئاً مما أعدوه من نِعَمِ الله تعالى، من موائد وفرش ومساكن طيبة وخدمة ممتازة، بلا كلل ولا ملل!!

إن الشعائر هي الرباط الذي يحافظ على وحدة الأمة وتماسكها؛ ولذا صرّحت الآية الشريفة بـ(وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ)([6]) فإن الشعائر تُشْعِر بالله تعالى بشكل ظاهر، فهي مظهر دلالي عام، سواء أكانت مما يبصر أم مما يسمع أم مما يلمس، فهي الأكثر قدرة على أن تدفع باتجاه الأمة الواحدة، تحت راية القرآن الكريم والعترة الطاهرة.

 

ترشيد الأداء في الشعائر

إن هذه الشعائر تحتاج إلى ترشيد في الأداء أكثر فأكثر، مثلاً الحسينيات وهي من الشعائر المهمة لله وكذا المساجد والمدارس الدينية أو التربوية، فإن من الممكن تطوير أداء القائمين عليها، بحيث تصبح بشكل أفضل وأقوى عاملاً في وحدة الأمة، وتقوية وتكريس وشائج المحبة وأواصر المودة بين مختلف شرائحها، تحت رآية (وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ)([7]) و(إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)([8]) وحديث الثقلين: "إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي‏"([9])

 

من طرق ترشيد الأداء: الخمس الثاني!

ومن طرق ترشيد أداء القائمين على الشعائر الدينية، بل والمؤمنين بشكل عام، هو ما رأيته أنا شخصياً في العديد من الدول، أن بعضاً من الوجهاء وبعضاً من التجار الخيرين، بعد إخراج خمسه أو زكاته، يدفع إلى ما يقارب النصف - وأحيانا يزيد - من أرباحه السنوية إلى المواكب الحسينية والمساجد والبرامج الدينية! كما وجدنا بعضهم يلتزم بإعطاء الخمس الثاني استحباباً لمختلف البرامج الحسينية (صلوات الله وسلامه عليه).

وقد شهدتُ بعض هؤلاء الثلة الطيبة (وهم متوزعون بين دول عديدة من إيران والعراق والكويت والحجاز وغيرها)، يبذل الأموال لمختلف الحسينيات والمساجد من مختلف الخطوط والاتجاهات والألوان، سواءً ذلك الذي يختلف معهم أم الذي يتفق معهم! المهم لديه – كما هو المطلوب - هو الدعوة الى الله تعالى وإحياء معالم وشعائر الإمام الحسين (عليه السلام) رائد الإصلاح ومحي السنة والشريعة.

حتى أنني أعرف أن بعضهم يختلف مع الجهة الفلانية 100% إلا أنه لا يبالي بمدّ يد العون لها، مادامت تدعو الى أهل البيت الطاهرين وتقيم المجالس الحسينية.

إن الحسينيات ينبغي أن تكون أكثر فأكثر مظهراً تجسيدياً للترابط ما بين المسلمين، حتى المخالفين ما داموا محبين لأهل البيت (عليهم السلام) غير ناصبين العداء لهم ولشيعتهم، وهم الأكثرية المطلقة من أهل العامة.

 

دور المشاعر والشعائر في تماسك الأمة

وهذا هو الدور (أي من الأدوار) الذي تقوم به سائر الشعائر والمشاعر، فإن الصفا والمروة والطواف والوقوف بعرفة توحد الجميع وتصهرهم في بوتقة الإسلام، ويجب ترشيد استثمار ذلك حتى تذوب كل الفوارق الشكلية والصورية، كي يسير الجميع باتجاه واحد وهدف واحد، وهو(أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)([10]) و(إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ)([11]) و(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)([12]) و(إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ).

وصفوة القول: إن العمل الصالح بمفرداته المختلفة يصب في صالح ترسيخ أواصر الأمة الواحدة، وهذا هو الطريق الأول من طرق وعوامل تحقيق الأمة الواحدة.

 

2) الزواج العابر للحدود

الطريق الثاني غير المرشّد في مجتمعاتنا - مع الأسف - هو الزواج العابر للحدود القومية واللونية والتيارية وغيرها، ولذا ندعو الى ترشيده، وهو من الأعمال الصالحة التي لو رُشّدت لصبت في صالح تقوية الوشائج بين الأمة الواحدة، في مختلف الأبعاد، ومنها البعد النفسي، بحيث أن الباكستاني والإيراني والعراقي واللبناني والخليجي والهندي جميعهم يحسون في أعماقهم حقاً بأنهم أخوة لا فوارق بينهم ولا فواصل! على العكس مما عليه الحال الآن، إذْ يشعر الكثير منا بأجنبية المنتمي إلى قومية أخرى، نظراً لأن الأخلاق والطباع والآداب مختلفة في كثير من جوانبها، فضلاً عن اللغة والشكل، بل قد تجد بعضاً قد يسخر من الآخرين لمجرد اختلاف القومية أو اللغة أو الطباع، ولا يشعر أبداً بأنهم حقاً إخوة له في الإسلام والقرآن الكريم.

إن إحدى الطرق الهامة جداً والمؤثرة جداً والتي سنّها الله ورسوله (صلى الله عليه وآله)، والتي يستظهر أن من أهم فوائدها هو الدفع باتجاه تجذير الإخوة الإسلامية والأمة الواحدة هي سنة الزواج من القوميات الأخرى ومن القبائل والشعوب الأخرى.. ولذا نجد الرسول الأعظم والأئمة الأطهار (عليهم السلام) تزوجوا من بلاد شتى ومن قوميات مختلفة.

من الواضح أنه كثيراً ما يكون بين الحزبين أو القبيلتين أو الشعبين تنافس سلبي أو صراع، لكن الزواج يعدّ طريقاً رائعاً لتذويب الشحناء والبغضاء بين المتخاصمين، خاصة إذا أصبح ظاهرة عامة من التزاوج بين الشعوب والقبائل والتيارات المختلفة.

 

تعامل الغرب المزدوج والمغرض من الزواج العابر للحدود

وفي الاتجاه المقابل، نجد هناك ثقافة غربية وجاهلية – مخطط لها حيناً وعفوية حيناً آخر - تقف بقوة تحول دون الزواج بين القوميات أو القبائل المختلفة، حتى أصبح من الصعب أو الغريب في كثير من الأحيان أن يتزوج العربي من غير العرب أو الفارسي من العرب، بل إن الغرابة والصعوبة تتحقق – في كثير من الأحيان - فيما إذا أرادت العراقية أو السورية مثلاً الزواج من مصري أو خليجي أو العكس، ولو كانا من مذهب واحد من مذاهب المسلمين؟

والذي زاد الطين بلةً، هو سنّ الحكومات الجائرة والبرلمانات المسيسة للقوانين الوضعية الجائرة في البلدان الإسلامية التي تعقّد الإجراءات أمام أية زيجة من هذا النوع.

لكن المفاجئ والغريب، في الاتجاه الآخر، أن الغرب في داخل دوائره يسهل إجراءات الزواج عنده من القوميات الأخرى، فلو تزوجت المرأة الغربية من رجل عراقي أو مصري أو إيراني أو يماني أو أفغاني أو غير ذلك، أعطي الرجل جنسية بلد زوجته، وأما الابن المتولد منهما فإنه يمنحُها بلا قيد أو شرط.

ان الزواج المختلط في الغرب أمر شائع، تعينهم فيه قوانينهم ونظمهم، بينما في بلداننا تجد أن التعصب المقيت والعادات والتقاليد تمنع حتى من الزواج من العشيرة المتجاورة، وهم على دين واحد وعلى مذهب واحد، ويشربون من ماء واحد!!

بل إن الكثير يستصعب حصول حالات الزواج بين أتباع مرجعيتين مختلفتين أو تيارين متباينين أو حزبين متنافسين، حتى وصلنا الى حالة من التشرذم والشتات والتخبط بما لعله لا مزيد عليه من الفرقة والانقسام.

ومن هنا تبزغ أهمية الدعوة الى التشجيع على هذا الأمر والدفع باتجاهه: الزواج كظاهرة عامة بين البلدان المختلفة والتيارات المتكثرة والمرجعيات المتعددة والأحزاب المتنافسة وغير ذلك.

 

3) الشورى

الطريق الثالث هو العمل بـ (الشورى) من جملة الآيات الحيوية في القرآن الكريم التي تصب في شد أواصر الإخوة بين أبناء الأمة الواحدة، بل والشعب الواحد والعشيرة الواحدة والتجمع الواحد أيضاً.

منها: آية الشورى قال تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)([13]).

إن الكثير منا قد يغفل عن القيمة الموضوعية للشورى، كما قد يغفل عن القيمة الطريقية لها، كما قد يغفل عن الأضرار الذاتية والغيرية التي يستبطنها الاستبداد.

فقد جاء في الحديث: "مَنِ اسْتَبَدَّ بِرَأْيِهِ هَلَك‏"([14]). وورد "أعقل النّاس من أطاع العقلاء"([15]) و"قال النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله): "الْحَزْمُ أَنْ تَسْتَشِيرَ ذَا الرَّأْيِ وَتُطِيعَ أَمْرَه‏"([16]).

إن الشورى هي الطريق الأنجع في الموضوعات، أما الأحكام فتؤخذ من مداركها المقررة في الشريعة الإسلامية، وهي الأدلة الأربعة.

 

كيف تحافظ الشورى على تماسك الأمة؟

إن الشورى تحافظ على (وحدة الأمة) بشكل عام، وعلى (وحدة الأمة في الامة)، فإنها تحافظ على وحدة العائلة، وعلى وحدة العشيرة، وعلى وحدة الحزب أو النقابة والاتحاد، وأيضاً الشعوب والأمم؛ وذلك لأن مجاري الأمور إذا انحصرت في يد فرد واحد، فسوف يختلف الآخرون معه، إذ تتناقض مصالحهم مع قراراته أو تتفاوت أذواقهم وإيّاه؛ فإن أسباب الخلاف ثلاثة: الاجتهادات إذا اختلفت، والمصالح إذا تضاربت، والأذواق إذا تفاوتت([17]). فإذا استبد شخص بالأمر – مهما كانت ذرائعه – فإن الآخرين سيشعرون بالغبن والحرمان والمظلومية، فيبتعدون تدريجياً ويتجذر التشرذم والعداء يوماً بعد يوم حتى يصل إلى ما وصلت إليه بلادنا الإسلامية من حالة مزرية محزنة بل ومخيفة.

ولكن مع مبدأ الشورى والعمل به، تتضاءل نسب الاختلاف الى أقصى درجة أو تضمحل، إذ يرى الجميع أن لهم سهماً في عملية اتخاذ القرار، ونصيباً في الأرباح، وجزءً من المكاسب، فيتحمل الجميع – بطيب نفس أيضاً – توزيع الخسائر والأضرار عليهم جميعاً، فالشورى هي أشبه بـ(المضاربة) التي تتوزع فيها الأرباح والخسائر على الأطراف، بلا إضرار ولا إجحاف بأي طرف، وهو ما يؤدي الى تماسك الأمة الواحدة، أكثر فأكثر، وذلك هو من أسرار قوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ).

 

رؤساء دولنا: إما طاغ مستبد أو سجين مستذَلّ!

وقد أشار بعض الحكماء إلى مفارقة غريبة وهامة ومعبّرة، وهي من الغريب في بلادنا أن رئيس الجمهورية يدور أمره بين أن يكون حاكماً جباراً وبين أن يكون ملقى في أعماق السجن أو مقتولاً([18])، أما في الغرب فإن الرئيس بعد أن تنتهي ولايته يمارس حياته الطبيعية في أدوار أخرى ذات درجات متفاوتة من الأهمية، بل يُشاد بإنجازاته ويكرمونه ويحترمونه كرئيس سابق وكعنصر منتج فعال حالي.

والسبب وراء ذلك أنهم عملوا بجانب من بعض المبادئ الصحيحة كالشورى، عبر صيغة الانتخابات وغيرها، وكالتكافل الاجتماعي وغير ذلك.

إن الشورى تستبطن التحاور والنقاش في المرحلة الأولى، وكثيراً ما تُحل المشاكل وتزول الخلافات في هذه المرحلة، فإن استحكم الخلاف كان معنى الشورى العمل برأي الأغلبية، فتنحصر المعارضة في مدى ضيق، بل قد تتقبل الأقلية رأي الأكثرية وتنتهي المشكلة، وحتى إذا لم تتقبله فإنها تخضع له، لعلمها بأنها في موقف قادم أو سنين قادمة ستحوز الأكثرية فتخضع لها الأقلية حينئذٍ، فهو تبادل سلمي حكيم للسلطة.

وبكلمة جامعة: إن الله تعالى جعل ببالغ حكمته حلولاً للاختلافات المتكاثرة بين بني البشر، ومنها:

 

الشورى

ومنها: القرعة، قال تعالى: (فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ)([19]). و(إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ)([20]). وهي لكل أمر مشكل([21]) ،وكلها آليات للمحافظة على الإخوة والأمة الواحدة، وتجنّب الصراعات والنزاعات، والوصول إلى أفضل ما يمكن الوصول إليه.

والحاصل: إذا كانت مدارسنا وجامعاتنا وحسينياتنا ومساجدنا، وصولاً الى حكوماتنا والى جميع شرائح الأمة الإسلامية، إذا كانت كلها تعمل بمبدأ الشورى، فسوف تبقى الأمة متماسكة لا يدب إليها الضعف والوهن و(ذهاب الريح)، كما عبرت الآية الشريفة.

 

كيف أعنّا الغرب على خراب بيوتنا؟

والعكس إيضاً صحيح، إذ أن طبيعة الـ (لا شورى) تدفع باتجاه التجزؤ والانقسام، حتى أن واحداً من أهم أسباب (الخريف العربي) الذي مزق الأمة العربية، هو الدكتاتوريات المقيتة وعدم الأخذ بمبدأ الشورى على مستوى الحكومات، ثم على مستوى أحزاب المعارضة، وعلى مستوى مختلف مكونات الأمة والدولة.

والغريب المؤسف: إننا قد أعنّا الغرب والاستكبار العالمي على خراب بيوتنا وتفتيت وحدتنا، بابتعادنا عن تعاليم القرآن الحكيم، ومنها قوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)، فهو المخططون من جهة، ونحن المنفذون من جهة أخرى، والكل يصب في خراب الديار والأوطان.

إن الأمة إذا لم تُجِد التعامل – وبحسب الضوابط القرآنية والعقلائية - مع الخلافات والاختلافات، وإذا لم تسلك إلا مسلك الإلغاء والتهميش والتحطيم للآخر، فإنها ستنهار وتذوب كما الشمعة في حرارة النار المحرقة، وتذهب ريحها إذ (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً)([22]) و(وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)([23])

والعجيب حقاً أن الكثير منا لا يعتبر الشورى – في سيرة حياته - من العمل الصالح! بل تجده يتحجج بألف عذر وعذر للتهرب من العمل الشوروي، وكأنه لم يسمع قوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) وقوله: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)([24]) وقوله: (وَتَشَاوُرٍ)([25]).

 

4) الإحسان

الطريق الرابع: هو الإحسان وهو من جملة الآيات الحيوية في القرآن الكريم؛ فإن (الإحسان) هو الآخر يمتلك قيمة ذاتية إضافة إلى قيمته الطريقية، فإنه من الآليات المهمة للحفاظ على وحدة العائلة والعشيرة والجماعات والشعوب، وصولاً إلى الأمة الإسلامية؛ فإن العائلة المتماسكة هي العائلة التي يكون فيها رب البيت شيمته الإحسان، وإلا فإنه إنْ أراد التعامل مع أهله وزوجته بالعدل فسينفرط عقد الأسرة!

فالمرأة - مثلاً - إذا أرادت أن تتعامل مع زوجها بـ(العدل) فقط، مجرداً عن (الإحسان) و(الفضل)، مستندة إلى أن الطبخ غير واجب عليها، وأن إرضاع الطفل غير واجب عليها أيضاً إلى غير ذلك من الأمور – وكلها حق – ولكن ألا يتحول العش الزوجي حينئذٍ إلى مجرد جماد بارد، لا حب فيه ولا حرارة ولا دفء؟ بل ألاّ يتحول البيت إلى ساحة للتشنج والصراع والنزاع والفوضى أيضاً.

كما أن الزوج أيضاً إذا تعامل بهذا المنطق، واحتج بأنه لا يجب عليه أن يأتي أهله إلا كل أربعة أشهر، كما هو المشهور، ولم يقم بالإنفاق عليها إلا بمقدار النفقة الواجبة من مأكل وملبس ومسكن، مع قدرته على الأكثر، وعلى التوسعة على العيال، أفلا تتحطم الأسرة حينئذٍ؟

والمعادلة هي هي في الدولة وسائر التجمعات الصغيرة أو الكبيرة؛ فإن العدل بدون الإحسان والفضل لا ينتج في كثير من الأحيان الهدوء والمحبة، بل قد ينتج كثيراً مما لا تحمد عقباه! ولذا قال تعالى: (خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ)([26]). و(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)([27]). و(وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ)([28]).

 

حِلم السيد ابو الحسن الاصفهاني، الغريب النادر!

ينقل أحد العلماء: كنتُ جالساً بقرب التل الزينبي في مدينة كربلاء المقدسة، وكان يجلس الى جانبي شخص، بعد برهة خرج السيد أبو الحسن الأصفهاني من الحرم الحسيني الشريف ومعه لفيف من الأفاضل، وهو يومئذ مرجع الأمة، فلما قرب منّا قال صاحبي: سأذهب الى السيد الأصفهاني وأشتمه شتيمة لم يسمع بمثلها قط.

قمت بنصيحته وألححت في ذلك، ولكن لم ينفع، فانطلق نحو السيد، ولما وصل إليه بدأ يسبه ويلعنه ويشتمه ويرميه بسهام جارحة جداً، واستمر يمشي معه وهو يسبه، إلا أن السيد بقي ساكتاً ولم ينهره، بل ومنع الآخرين الذين معه أن يردوا عليه.. واستمرت شتائم الرجل للسيد الى أن وصل الى باب بيته، وهناك التفت هذا المرجع العظيم إليه وقال له: إصبر قليلاً ريثما أدخل البيت وأعود إليك لأعطيك ما يفرج كربتك!

ثم دخل السيد البيت وعاد إليه، وأعطاه مظروفاً منتفخاً بالأموال، وقال له: أنا أعلم أنك محتاج، وقد أثارت الحاجة أعصابك، وهذه هدية بسيطة، وكلما طرأت عليك حاجة اقصدنا، وستجد ما يسرّك إن شاء الله، ولا حاجة لأن تراجع غيري؛ إذ لعله يريق ماء وجهك من دون أن يعطيك ما تحتاج!

لكن لي إليك حاجة واحدة! وهي إنْ شئتَ أنْ تسبني فافعل ما بدا لك، ولكن لا تشتم عرضي رجاءً، فهذه حاجتي إليك!

يقول الراوي للقصة: رجع الرجل باكياً نادماً على ما صنع مع هذا السيد الجليل (رحمه الله) وعلى ما وجده من سعة صدره وجميل احسانه!!

 

الإحسان درجة فوق العدل

ذلك هو مظهر من مظاهر الإحسان، وهو منهج الأنبياء والصالحين، وإذا كان الإحسان هو سيد أعمالنا بالفعل، فإن الأمة الإسلامية ستتحول حينئذٍ الى أمة مثالية شامخة مقتدرة عزيزة لا تضاهيها أمة أخرى.

إن العدل أساس الملك، بالمعنى الذي يقابل الظلم لا بالمعنى المقابل للإحسان، وللإحسان عليه درجة، وعلى الحاكم أن يعفو في كثير من الأحيان لرأب الصدع، وتهدأة النفوس وحفظاً لكيان الأمة من التمزق، ومن هنا قال تعالى: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ)([29]). وقال تعالى: (خُذْ الْعَفْوَ) على إحدى تفسيراته، و(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)، و(أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ).

وعوداً إلى الآية الأولى: لم يقل تعالى إن الله يأمر بالعدل وحسب!! بل اللطيف أن الله يأمر ـ ومادة الأمر ظاهرة في الوجوب إنْ لم تكن نصاً فيه ـ بالإحسان بعد العدل، فالإحسان واجب في الجملة، على ما ذهب إليه السيد الوالد (قدس سره) في الفقه الواجبات والمحرمات.

 

البصيرة الثالثة: خصائص (الأمة في الأمة)

ومن أبرز مصاديق (الأمة في الأمة) هي الحوزة العلمية، قال تعالى: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)([30]). فإن هذا هو عمل الحوزة العلمية الأساسي وهو: التفقه في الدين والإنذار للناس، فلا بد من دراسة خصائص (الأمة في الأمة) على ضوء الآيات والروايات والعقل، فنقول:

 

التناسب العددي بين (الأمة في الأمة) و(الأمة الواحدة)

إن من أهم مواصفات (الأمة في الأمة) التي تشكل الحوزة العلمية مصداقها الأبرز، هو التناسب العددي بين (الأمة في الأمة) وبين (الأمة الواحدة)، وذلك لأنه يجب أن يكون عدد (الأمة في الأمة) مناسباً لتعداد الأمة الواحدة الكبيرة، ولكننا نرى الآن هذا التوازن مختلاً تماماً!

وحيث إن الأشياء تُعرف بأشباهها، كما تُعرف بأضدادها، فمن الضروري أن نعقد بعض المقارنات التي سنكتشف منها أن هناك بوناً شاسعاً بين ما ينبغي أن يكون وبين ما هو كائن، أي الواقع الخارجي، فإن تعداد طلاب وأساتذة الحوزة العلمية في النجف الأشرف قد يصل الى (10) آلاف رجل دين وعالم([31])، مع أنهم ينبغي أن تكون بهم الكفاية في الدعوة الى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنهم أطباء الأرواح، وأمراض الأرواح أخطر من أمراض الأجساد، وحيث كانت الأشياء تعرف بأشباهها – كما سبق - فلنلاحظ عدد الأطباء في بعض البلاد:

 

من احصاءات الأطباء وأعدادهم

ففي مصر، وبحسب إحصاء بعض النقابات: يوجد 220 ألف طبيب داخل البلاد (أي داخل مصر)، ومثل هذا العدد في موجود في الخارج.

وأما في أمريكا: فبحسب إحصاء 2013م، فإن عدد الأطباء فيها بلغ (767) ألف طبيب، وهو احصاء معتبر صادر عن اتحاد كليات الطب الأمريكية.

وفي كلا البلدين، فإن التناسب في الجملة متحقق، لأن عدد الأطباء يتناسب مع حاجة البلدين([32]). إليهم بما يقارب 1/ 400، أي طبيباً واحداً لكل أربعمائة شخص أو أقل أو أكثر.

 

مقارنة بين الحاجة إلى أطباء الأجساد وأطباء الأرواح

لكنّ الحاجة الى أطباء الأرواح أكبر، لأن طبيب البدن يراجع عند الحاجة الضرورية، إلا أن الفقهاء والعلماء تكون المراجعة إليهم باستمرار وبكثافة أكثر جداً، وذلك لكثرة المسائل العقدية والشرعية المبتلى بها في مختلف الأبعاد، إذ تعرض للطالب الجامعي الكثير من الشبهات والأسئلة والهموم، وكذا التاجر والطبيب والمهندس والبائع وغير ذلك.

ولو تنزلنا وقلنا بالمساواة، أي إن الحاجة هي الى أطباء الأرواح والأبدان هي بحد متساو، فإننا مع ذلك نجد أن لغة الأرقام تُظهر أن هناك فرقاً شاسعاً بين العدد الذي يحتاجه الناس من رجال الدين والعدد الذي يحتاجونه من الأطباء!

 

العراق وحده بحاجة إلى 66 ألف عالم!

بل لقد جاء في دراسة إحصائية، أن الحاجة الى رجال الكنيسة هي بنسبة: 1/200، أي لكل 200 مسيحي يجب أن يكون قس واحد، يهتم بشؤونهم ويقوم بتوجيههم وقيادتهم.

ولو تنزلنا وقلنا أن النسبة الضرورية هي: 1 /500، أي لكل شخص رجل دين واحد، فسوف يحتاج العراق (33 مليون) لوحده الى (66) ألف رجل دين!!

وبنفس النسبة، لو كان عدد المسلمين في العالم ملياران، فإنهم يحتاجون حينئذٍ إلى (4) ملايين رجل دين!!

كما أن عدد المسيحين يقرب من الملياري نسمة، وإذا أردنا إرشادهم للإسلام، فسوف نحتاج الى (4) ملايين مُبلِّغ أيضاً!

فيكون الاحتياج الفعلي هو (8) ملايين رجل دين وعالم للمسلمين والمسيحيين فقط، ناهيك عن الهندوس والسيخ والكفار واللادينيين الجدد وغيرهم الذين لا بد من دعوتهم وهدايتهم وإرشادهم.

من ذلك كله نكتشف أنه لا تناسب عددي بين (الأمة في الأمة) و(الأمة)، ومع ذلك تجد إننا باقون على نفس طريقنا السابقة في التفكير والدعوة.

ويكفي أن نعرف أخيراً: إنه وبحسب الإحصاء أيضاً: في مصر يتخرج (10) آلاف طبيب جديد سنوياً!! كما جاء في إحصاء لوزارة الصحة العراقية أن عدد الأطباء الذين هاجروا من العراق منذ عام 2003م بلغ حوالي العشرة آلاف طبيب! نعم شككت لجنة الصحة والبيئة النيابية في الرقم.

 

من إحصاءات المحامين وأعدادهم

في أروبا هناك (400) ألف محامي، أما في مصر فإن عدد المحامين المسجلين رسمياً هو (500) ألف محامي! بينما قال نقيب الأطباء إن عدد المحامبين في مصر وصل إلى 730 ألفاً! فأين المحامون عن الدين؟

إذن ينبغي أن يكون هناك تناسب بين الأمة في الأمة، وبين الأمة الواحدة، وإذا استنطقنا لغة الأرقام، فسنكتشف إننا مقصرون حقاً.

 

مقارنة نادرة بين الحوزة وبين المتخرجين!

كانت المقارنة السابقة بين طلاب الحوزة وبين الأطباء والمحامين المتخرجين من الجامعات الأكاديمية.

لكن الصحيح أن تعقد المقارنة بين خرجي الحوزة وبين خريجي الأكاديمية؛ لأن الأغلب في الحوزة العلمية طلاب، هم ما زالوا لم يتخرجوا بعد، إذا صح التعبير.

وسنُذهل عند ملاحظة الأعداد الهائلة لطلاب الجامعات الأكاديمية المختلفة، وسنستعرض هنا عيّنة صغيرة من بعض الدول، وإلا فالجامعات في العالم تصل الى آلاف الجامعات، وفيها عشرات الملايين، بل أكثر من ذلك بكثير([33]).

ففي (الجامعة الحديثة للإنسانيات) التي تأسست في موسكو عام 1992م بلغ عدد الطلاب 140 ألف طالب، وهي جامعة حكومية.

جامعة (نورث دو بارنا) في البرازيل بلغ عدد الطلاب 130 ألف طالب، رغم أنها جامعة خاصة!

وفي جامعة (سان كارلوس) غواتيمالا 124 ألف طالب.

وفي المركز الوطني للتعليم عن بعد في فرنسا بلغ عددهم 120 ألف طالب.

وفي جامعة كراتشي التي تأسست عام 1951م بلغ عدد الطلاب 174 ألف طالب.

في جامعة عين شمس في مصر التي تأسست 1950م يبلغ عدد الطلاب 170 ألف طالب.

في المعهد (البوليتكنيك الوطني) في مدينة مكسيكو بالمكسيك يوجد: 166,768 الف طالب.

 

أرقام أخرى أكبر:

وفي جامعة (غاو تينج) في جنوب أفريقيا بلغ عدد الطلاب: 300,221 ألف طالب!.

في جامعة كوريا الوطنية المفتوحة 210,978 طالب.

وفي جامعة كاليفورنيا في امريكا 209,080 طالب

وفي الجامعة العثمانية في حيدر آباد في الهند التي تأسست عام 1918 بلغ عدد الطلاب 300,000 طالب.

وفي جامعة مدينة نيويورك فإن عدد الطلاب هو 269,114.

وفي الجامعة الوطنية للتعليم عن بعد في إسبانيا، يبلغ عدد الطلاب 260,079 طالب.

وفي جامعة ولاية نيويورك 467,845 طالب

وفي جامعة البنجاب فى لاهور في باكستان التي تأسست 1882م 450,000 طالب

في جامعة دلهي في الهند 400,000 طالب.

 

أرقام أكبر فأكبر!

في جامعة العلامة إقبال المفتوحة في إسلام آباد في الباكستان (أسست سنة 1974م) بلغ عدد الطلاب فيها 1,326,948 طالب!

وفي جامعة الأناضول أسكي شهر في في تركيا 1,374,343 طالب.

في جامعة (بيام نور) في طهران 818,150 طالب.

وفي جامعة آزاد الإسلامية بطهران بلغ عدد الطلاب 1.900.000.

وفوق ذلك كله: في جامعة انديرا غاندي الوطنية المفتوحة في دلهي في الهند (أسست 1985م) بلغ عدد الطلاب فيها 3.500,000 طالب (ثلاثة ملايين وخمسمائة ألف طالب)!!

 

استنتاج واستنهاض

من خلال هذه الأرقام الكبيرة، في استعداد الآخرين وإعدادهم في المجالات المادية والدنيوية والإنسانية، يمكننا التعرف على مدى حاجة حوزاتنا ومدارسنا الدينية إلى التطوير والترشيد في (البعد الكمي) لتتناسب مع حجم التحديات ومع حجم الحاجات الملحة.

ومن هنا نجد أن الغرب ثم الحكومات، هو (وهي) من يقود الحياة، لأن لديه (ولديها) أعداد ضخمة من الناحية الكمية([34]). من صنّاع الحياة المدنية، ومن الذين إذا تخرجوا أمسكوا بمقدرات البلاد طوعاً أو كرهاً، ومن الواضح أن للكمية – فكيف إذا أضيفت لها الكيفية – كلمة فصلاً في عالم الدنيا، اللهم إلا بحدود معينة، ولذا قال تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ)([35]).

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

** من سلسلة محاضرات في تفسير القرآن الكريم لسماحة آية الله السيد مرتضى الحسيني الشيرازي حفظه الله تعالى، ألقيت في النجف الأشرف. ألقيت المحاضرة في يوم الأربعاء 29 جمادى الأولى 1437هـ

www.m-alshirazi.com

تحرير www.alshirazi.com

========================

([1]) المؤمنون: 51 ـ 53.

([2]) ال عمران: 104.

([3]) عوالي اللئالي العزيزية: ج1 ص129.

([4]) راجع جامع السعادات للمولى النراقي, والفضيلة الإسلامية للسيد محمد الشيرازي، وكتاب الأطعمة والأشربة من الفقه، ومن مجاميع الحديث، كـ جامع أحاديث الشيعة والوسائل، وأيضاً بحار الأنوار.

([5]) الحجرات: 10.

([6]) الحج: 32.

([7]) الحشر: 7.

([8]) المائدة: 55.

([9]) الأمالي (للصدوق) ص415.

([10]) الشورى: 13.

([11]) الذاريات: 56.

([12]) الفتح: 29.

([13]) الشورى: 38.

([14]) نهج البلاغة (لـ صبحي صالح) ص500.

([15]) غرر الحكم ودرر الكلم: ص186.

([16]) أعلام الدين في صفات المؤمنين: ص294.

([17]) ويلحق بها العادات والتقاليد المختلفة.

([18]) وخير مثال على ذلك، رئيس مصر الإخواني الهوى أو رئيس ليبيا معمر القذافي أو رئيس العراق البعثي المعدوم.

([19]) الصافات:141.

([20]) آل عمران: 44.

([21]) ولابد من تحديد صغرياتها، في علمي الفقه والأصول، في بحث مفصل، ومنه أنها مشروطة بعمل الفقهاء.

([22]) طه: 124.

([23]) الأنفال: 46.

([24]) آل عمران: 159.

([25]) البقرة: 233.

([26]) الأعراف: 199.

([27]) آل عمران: 159.

([28]) النور: 22.

([29]) النحل: 90

([30]) التوبة: 122

([31]) لا يخفى أن هناك حوزات أخرى في كربلاء وقم المقدستين، وفي لبنان والهند وباكستان وأفغانستان وغير ذلك، إلا أن السيد الأستاذ أراد المقارنة بين الحوزة النجفية وبين بعض الأكاديميات (المقرر) .

([32]) المقصود في مصر أطباء الداخل فقط.

([33]) إن لم نقل مئات الملايين من الأساتذة والطلبة.

([34]) وسيأتي الكلام عن الناحية الكيفية إن شاء الله تعالى.

([35]) الأنفال: 60.

20/ جمادى الآخرة/1437