![]() |
![]() |
اليقين محور الفضائل وحقائق نحو (الشك) وضوابط الشك المنهجي ومساحات الشك المذمومة |
السيد مرتضى الشيرازي |
موقع الإمام الشيرازي
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضيين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم
اليقين محور الفضائل
وحقائق عن (الشك) وضوابط الشك المنهجي ومساحات الشك المذمومة يقول تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ)[1] محور الحديث يدور حول صفتي (اليقين) و(الشك) وموقعهما في الحياة، ومدى قيمة الشك في المعادلة، وقد مضى بعض الحديث عن ذلك في المحاضرة السابقة. والظاهر من الآية الشريفة، أن اليقين قيمة مطلقة، بل يظهر من العديد من الآيات والروايات، أن (اليقين) هو أم الفضائل!! ووجه دلالة هذه الآية الكريمة هو: أن درجة (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا). هي أعلى درجة يمكن أن ينالها مخلوق، بشراً كان أم غيره، وهذه الدرجة العليا تفرعت على (وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ)[2]. بل ظاهر الآية التعليل إذ (لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ). وإن كانت العلة هي في واقعها حكمة – كما سبق-.
اليقين معاذ السلامة وكهفها وللإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) كلمة مفتاحية حيث يقول: "الْيَقِينُ مَعَاذٌ لِلسَّلَامَةِ"[3] وهي كلمة مختزلة أشد الاختزال، إلا أنها تحتوي بحراً من المعنى. و(المعاذ) يعني: ما يعوذ به الإنسان وما يلوذ ويلتجئ ويتكأ عليه، ومنه أخذت العوذة والتميمة، فكأنه قال اليقين ملجأ السلامة أي إليه تلتجئ السلامة. و(السلامة) مطلقة إطلاقا أزمانياً فتشمل الدنيا والاخرة، كما هي عامة أفرادياً فتكون اجتماعية واقتصادية وسياسية وغير ذلك. والحاصل: الظاهر أن (معاذ) مصدر ميمي، فهو بفتح الميم، ولا يصح أخذه مفعولَ بابِ الأفعال، من أعاذ يعيذ فهو معيذ، وذاك معاذ، بضم الميم إذ لا معنى لكون السلامة معيذة لليقين، والمقصود: أن الإنسان الموقن تلازمه السلامة في كل حالاته وتقلباته وأطواره في الدنيا والآخرة. ولنذكر بعض المصاديق الجلية للفضائل التي تتفرع على اليقين الذي أسميناه (أم الفضائل)، والذي علل به الله تعالى في الآية اختياره للأنبياء (عليهم السلام) أئمة للناس، كما أنها تبرهن في الوقت نفسه على أن اليقين معاذ السلامة: 1- فقد ورد في الحديث: "مَنْ أَيْقَنَ بِالْخَلَفِ جَادَ بِالْعَطِيَّة"[4] لأن الجود بالعطية مرجعه الى اليقين، فمن أيقن بالخلف من الله تعالى في الآخرة بل حتى في الدنيا، جاد بما عنده على الفقراء والمساكين والمؤسسات الدينية والبرامج الإنسانية والإسلامية. ومن يجود بالعطية يضمن الخلف، وهو أعظم من العطية بما لا قياس، فيكون يقينه بالخلف هو سبب عطائه، وعطاؤه هو سبب الأعواض الإلهية الكبرى وسلامته في الآخرة، بل في الدنيا أيضاً، فاليقين هو سبب سلامته فكان اليقين عوذته. 2- وعلى غرار ذلك ما ورد في زيادة ونمو الجاه، ففي رواية عن الإمام الكاظم (عليه السلام) جاء فيها: "الشَّفَاعَةُ زَكَاةُ الْجَاه" [5] فإن أحد معاني الزكاة هو: النمو ومعناها الآخر الطهارة، فمن تشفع وتوسط في قضاء حوائج اخوانه المؤمنين، زكى أي نمى جاهه وزاد، كما تزكو نفسه وتطهر خلافا لما يعتقده بعض، من أن التوسط ينقص القدر وفيه شيء من الذلة أو التذلل. وما ذلك إلا لأن الله تعالى هو الرزاق ذو القوة المتين، فمن بذل ماء وجهه في طريق رضاه زاده جاها الى جاهه ومكانة على مكانته، كما طهّره من الذنوب بنفس القدر وطهّر جاهه مما علق به، واليقين بأن الشفاعة زكاة الجاه عند الله تعالى وحتى عند الناس أيضاً هو أكبر باعث للمؤمن لكي يجعل الشفاعة لقضاء حوائج الناس، منهجه في الحياة. 3- كما ورد في الحديث إن اصحاب عيسى عليه السلام كانوا يمشون الماء ولو ازدادوا يقيناً لمشوا على الهواء. 4- كما ورد أن اسم الله الأعظم متضمَّن في (بسم الله الرحمن الرحيم)، فمن قال (بسم الله الرحمن الرحيم)، جامعاً للشرائط مؤمناً مذعناً موقناً بتأثيرها وليس بنحو الاحتمال أو الظن والتجربة، لمشى على الماء بل على الهواء بمشيئة الله جل جلاله. والحاصل: أن اليقين هو المحور، ونحن نواجه في أغلب الأحيان مشكلة في اليقين في مختلف مراحل الحياة وفي مواجهة شتى التحديات، ولا بد من حل هذه المشكلة والسعي للوصول إلى مرتبة اليقين لتستقيم لنا حياة الإيمان التي لا أروع منها، ولا أجمل في العالم كله. 5- وفي الرواية: إذا دعوت فظن حاجتك في الباب فمن كان مريضاً وأراد الشفاء والعافي، فعليه أن يدعو الله تعالى متيقناً وليس مطمئناً فحسب، وعليه أن يتمثل ويتجسد أن شفاءه يدخل عليه من الباب ويوقن بذلك بمجرد أن ينتهي من دعاءه. فاليقين هو أم الفضائل وعلينا أن نتحراه ونبحث عن أسبابه ونتائجه وثماره وموانعه، وأن نجدَّ الخُطى للوصول إليه أو إلى أدنى مراتبه على الأقل. والحديث حول اليقين طويل إلا أن هذا البحث معقود للتحدث عن قسيمه وهو الشك.
الشك: قيمته، شروطه، وساحاته في الاتجاه الآخر يقع (الشك) وهو منقصة بلا ريب، إلا أن الكثير من علماء الغرب يعتقد بأن الشك هو طريق المعرفة، وأنه طريق التكامل: فإنك إذا أردت أن تصل الى حقيقة ما، فعليك أن تشك بها أولاً، فمثلاً: من أراد الوصول الى الله، عليه أن يشك فيه أولاً، كذلك الشك في قيمة مكارم الأخلاق والفضائل والشك في مختلف القضايا العلمية، وفي كافة المحمولات والمواضيع، ولكن ومع ذلك قد يصل المرء إلى الحقيقة والواقع وقد لا يصل. هكذا يعتقد قسم منهم وهذه هي نظريتهم، ولعله يمكننا تسمية هذه النظرية بــ(المنهج التشكيكي) والذي يقع في مقابل منهج (اليقين)، والذي تدعو إليه الآيات القرآنية والروايات الشريفة عن أهل البيت (عليهم السلام). قال تعالى: (أالم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)[6] وقال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ).[7] فلاحظ قوله تعالى (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ). وقوله (وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ). وقوله (وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ). فالفضيلة، بحسب الآية، هي في الإيمان بالغيب وليس في التشكيك به، وفي اليقين بالآخرة وهي التي لا تقع في أي مجال من مجالات التجربة الحسية، كما أن اليقين بآيات الله هو الذي جعله الله تعالى السبب لنيل الأنبياء مرتبة الإمامة العظمى. والسؤال هو: هل هناك وجه للتوفيق بين المنهجين؟ بل هل نظرية الغرب، على إطلاقها، صحيحة أم لا؟ نقول: الكلام يقع في عدة أبعاد: 1- حقائق عن الشك. 2- الموقف من الشك. 3- شروط الشك المثمر. 4- مساحات الشك ومتعلقاته. وأبعاد اخرى ستاتي ان شاء الله تعالى.
حقائق عن الشك الشك نقص لا كمال الحقيقة الأولى: الشك نقص وليس بكمال وذلك لأن الشك يعني الجهل والشاك جاهل.. والجهل والجاهل ناقص بل الشك ذاتيُّهُ النقص.. ولا يمكن للجاهل بما هو جاهل ان يهتدي الى معرفة او الى معلومة ما فان الجهل والشك ليس بذاته طريقاً ولا كاشفاً ومرآة عن الواقع. نعم قد تكون للشك فائدة إلا أن الفائدة غير الكاشفية والمرآتية، كما أن هذه الفائدة تأتي لاحقاً وكاستثناء، وذلك كما لو كان الإنسان جاهلاً بزمن موته، فإن ذلك من نعم الله عليه، وبه يحصل للإنسان العادي الاستقرار والطمأنينة؛ لأن الإنسان العادي إذا علم بقرب أجله، فإن نظام حياته سيختل، حتى لو علم بأنه سيموت بعد سنة مثلاً، نعم من وصل الى درجة اليقين، وكان واثقاً من إيمانه وعمله الصالح، فإنه لا يخيفه الموت ولا يخشاه، وذلك كالأنبياء والأئمة أو حتى الأولياء الواصلين كـ سلمان وابي ذر وغيرهما. ولكي يتضح لنا جيداً أن (الشك) ليس طريقاً للمعرفة، وإنْ وقع – عَرَضَاً – كمقدمة للوصول إليها ينبغي أن نتأمل في المثال التالي: لو سُئلت عن مسألة معقدة أو بسيطة، وكانت للإجابة خيارات متعددة، وكنت واثقاً أن (أ) يشكل الإجابة الخاطئة، لكنك أخطأت فأشرت دون انتباه إلى (أ)، ثم تبين لك أن (أ) كانت هي الصحيحة.. فهل هذا يعني أن علينا أن نتخذ (الخطأ) طريقاً للمعرفة أو هل يعني أن (الخطأ) منهج علمي للوصول إليها؟ وهل من الصحيح أن نقول للناس: اتركوا الصحيح وتشبثوا بالخطأ؛ لأن الخطأ يصيب (أحياناً)؟! إن الخطأ، وإنْ أصاب أحياناً فإنه لا يشكل قاعدة واصلاً يرجع إليه، خاصة وإن إصابته أحياناً إنما هي لمناسبات وعوامل خارجية قد تجعله منتجاً نتيجة اقترانه بها. والحاصل: إن نظرية (الشك قد يكون طريقاً لاكتشاف الواقع وللمعرفة)، باطلة، بل الطريق غيره، وإن قارنه واقترن به. إن مثلَ الشك هو مثل المرض إذ أن المرض نقص والصحة هي الكمال.. ومع ذلك فإنه قد يكون المرض سبباً لهداية الانسان المغرور أو الضال أو سيء الخلق، وذلك لا يغير من حقيقة المرض وماهيته شيئاً، ولا يجعله كمالاً أو طريقاً عاماً للهداية، بل يبقى المرض نقصاً إلا أن الله تعالى بلطفه ورحمته ـ وهو السبب الواقعي ـ قد يجعل بعض الأمور أسباباً ظاهرية لهداية عباده وإرشادهم، وما المرض إلا من جملة الأسباب الظاهرية لهداية البعض.
الشك سلاح ذو حدين ثانياً: لو تنزلنا وقلنا أن للشك قيمة فنقول: إلا أنه سلاح ذو حدين، فلا ينبغي أن نعطيه دوراً وموقعاً أكبر من حجمه واستحقاقاته. والمثال الآتي يوضح هذه الإجابة أكثر: فمثلاً لو كنا في الصحراء، وكانت لدينا بوصلة ولم نعتن بقراءتها وشككنا فيها، ولم نمش على ضوئها، مع أنها كانت صحيحة دقيقة، فإننا يقيناً سنضل في الصحراء القاحلة، وبالعكس: لو كانت البوصلة خاطئة واقعاً، وكانت تشير للاتجاه المضاد، وشككنا فيها فلم نمش على ضوئها، بل سرنا في الاتجاه المعاكس فإننا سنصل إلى بر الأمان. ومعنى ذلك: إن الشك في الصحيح غلط، وقد يجر على المرء الدواهي، والشك في الغلط صحيح[8]، فقد يربحه الكثير الكثير، فالشك إذن سلاح ذو حدين.
الموقف من الشك وإذا كان كذلك فإنه، وبنحو القضية الخارجية، إذا رأى العالم بالحقيقة أن شخصاً مطمئناً بالحق، ولو عن غير اجتهاد، فإنه لا يصح أن يشككه في اعتقاده، إذا احتمل أن تشكيكه هذا سيقوده إلى رفض الحقيقة. فمثلاً لو كان الشخص مطمئناً بأن (حب الوطن من الإيمان) لو من غير دليل، فإنه لا يصح أن نشككه في ذلك لأن معتقده موافق للحق الواقعي المسلم، اللهم إلا لو أحرزنا أن تشكيكنا له لا يؤثر فيه أو أنه سيبعثه نحو التحقيق الأكثر، فالاطمئنان الأكثر بهذه القاعدة الإنسانية الحقيقية، أما لو علمنا بل لو احتملنا أنه سينسلخ بهذا التشكيك من وطنيته، ثم لا يعود إليها فإنه تشكيكه يُعدُّ جريمة وجناية بحقه وبحق الوطن وبحق الحقيقة. وبالعكس من ذلك تماماً لو كان مطمئناً بالعكس، وكان يعتقد بأنه لا حرمة للمجتمع، وإن القتل وسفك الدماء هو ما ينبغي أن يعم الجميع، كما يعتقد ذلك الإرهابيون بالفعل، إذ تجدهم يقتلون الأبرياء في الأسواق والطرقات والطائرات، وفي كل مكان وزمان وفي كل الحالات، فينبغي أن يشككوا في ذلك، على أقل التقادير، إن لم يمكن صرفهم عن اعتقادهم هذا بأية وسيلة ممكنة. والحاصل: أنه بنحو القضية الحقيقة فإن (اليقين) أي المطابق للواقع[9] هو الكمال وله القيمة كل القيمة، في حين أن الرذيلة كل الرذيلة للجهل والشك بالحقيقة والواقع، أما بنحو القضية الخارجية ولغة الخطاب ففي الأمر تفصيل على حسب الحالات والظروف والشخصيات. وعليه: فإن لغة الخطاب، في القضية الخارجية، لا بد أن تختلف، ولا يصح أن نصدر حكماً عاماً بجودة الشك وفائدته، ونسوق الجميع بعصا واحدة، وسيأتي مزيد إيضاح لذلك إن شاء الله تعالى.
شروط الشك لا شك في أن الشك مما يحصل للبشر - كثيراً ما - في الكثير من القضايا والحقائق والأمور، إلا أن الغرب[10] يشجع عليه، أكثر مما يحتمله ومما ينبغي، ويحاول تعميمه وادخاله في كل شيء، وفي كل الدوائر، حتى في المستقلات العقلائية – ومنها وجود الله تعالى ووحدانيته – وحتى في القيم الأخلاقية العليا، والكلام هو أنه اذا كان الشك أمراً حاصلاً بالفعل بشكل قهري أو طوعي، وبشكل تلقائي أو مخطط له، فما هي ضوابطه وشروطه لكي يكون منتجاً؟ الجواب: هناك مجموعة من الضوابط نذكر منها: الشك في المحل القابل والموضوع الصالح 1- أن يكون الشك والتشكيك في المحل القابل وفي الموضوع القابل، أما التشكيك لا في المحل القابل ولا في الموضوع القابل، فهو ظلم وضلال وإضلال وإفساد. مثال ذلك: شخص يعرف والده وسلسلة نَسَبِهِ، إلا أنه يريد التأكد أكثر فلا بأس أن يشك في ذلك أولاً ويبدأ البحث والتحقيق من نقطة الصفر، ولكن وفي المقابل، فإن تشكيك طفل صغير، في الثالثة أو الخامسة من العمر مثلاً، بنسبه وأن عليه ادراك بأن هذا والده وهذه أمه، يُعدّ – عقلائياً – من أنواع الفساد والإضلال وليس أمراً عقلائياً. وكذلك تشكيك المعلم للأطفال في الابتدائية بالقواعد الرياضية أو بمسلمات الجغرافيا مثلاً. فالمفترض ان يكون الشك في المحل القابل (أي الشخص القابل). والكلام نفس الكلام في الموضوع القابل أي المسائل التي يصح أن يُشكك فيها، كما سيأتي:
أن يكون لك مرشد ودليل 2- أن يكون لك حين الشك مرشد خبير، والمرشد أما داخلي وهو الفطرة، أو خارجي وهو الوحي والأنبياء والأئمة عليهم السلام والقرآن الكريم أو العلماء بالله تعالى أو حتى العلماء والخبراء في الفيزياء والكيمياء والفلك والرياضيات وغيرها. أما التشكيك بلا مرشد فإنه كثيراً ما يكون طريقاً الى الاضلال والإفساد. وهنا نجد أن الإمام المجتبى (عليه السلام) يرشدنا إلى عمق الحقيقة في كلمته القيمة: "وَاعْلَمُوا عِلْماً يَقِيناً أَنَّكُمْ لَنْ تَعْرِفُوا التُّقَى حَتَّى تَعْرِفُوا صِفَةَ الْهُدَى"[11] ومعنى ذلك: أن طريق المعرفة هو معرفة الهدى وصفته وعلاماته، وليس الشك كما يزعمون. والتقى: أي ما تتقيه فإنه لا يمكن للإنسان أن يتقي المزالق والمهاوي والمخاطر حتى يعرف الهدى والحق والطريق الموصلة إلى بر الأمان. ثم أن الإمام (عليه السلام) يشير بعد ذلك إلى التولي والتبري، وإلى أنكم لن تعرفوا الرسول وأهل البيت (عليهم السلام) حتى تعرفوا أعداءهم ومبغضيهم، وان أكثر الناس لا يعرفون ما يتقونه حتى يعرفوا ما يهتدون به، وهو العقل الباطن والأنبياء والرسل والأئمة (عليهم السلام)، يقول (عليه السلام): "وَلَنْ تَمَسَّكُوا بِمِيثَاقِ الْكِتَابِ حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي نَبَذَهُ" أي الذي تركه وراء ظهره "وَلَنْ تَتْلُوا الْكِتَابَ حَقَّ تِلَاوَتِهِ حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي حَرَّفَهُ فَإِذَا عَرَفْتُمْ ذَلِكَ عَرَفْتُمُ الْبِدَع". فلا يقولن أحد ليس من المهم أبداً معرفة الأشخاص ما دمت أعرف المبادئ والقيم، كلا فإن الأشخاص والقادة هم الذين يخدعون الناس من حيث يعلمون ومن حيث لا يعلمون. ذلك أن السير وراء الأشخاص من القادة والزعماء والكبراء وأتباعهم بشكل أعمى أو بدون تثبت، هو أمر شائع ومستحكم عند أغلب الناس في مختلف الديانات، بل حتى لدى المثقفين والعلماء فضلاً عن العوام وسواد الناس، ولذا نجد أن أغلب الناس يعرفون رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو عيسى المسيح أو الإمام الصادق (عليه السلام) ومكانته مثلا ثم يهتدوا بهداه.. وفي الطرف الآخر نجد الكثير من العلماء والعوام الذين يتبعون الطغاة وأئمة السوء وأرباب الديانات الباطلة نتيجة إيمانهم بالشخص القائد نفسه، ومن هنا كان هناك أئمة حق وأئمة ضلال، على مر التاريخ، وسيبقى الأمر الى أن تقوم الساعة. "فَإِذَا عَرَفْتُمْ ذَلِكَ عَرَفْتُمُ الْبِدَعَ وَالتَّكَلُّفَ". أي عرفتم البدع عبر معرفتكم المبتدعين، كما عرفتم التكلف في تفسير كتاب الله تعالى عبر معرفة المتكلفين تفسيره بغير علم ولا كتاب مبين "وَرَأَيْتُمُ الْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ وَالتَّحْرِيفَ وَرَأَيْتُمْ كَيْفَ يَهْوِي مَنْ يَهْوِي وَلَا يُجْهِلَنَّكُمُ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ". وهنا محور الكلام "وَلَا يُجْهِلَنَّكُمُ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُون". أي الذين لا يعلمون وهم الجهلة حقيقة لا يأخذوا بأيديكم الى حيث جهلهم، وترددهم في غيهم وضلالهم فمن يقول لك: عليك أن تشك في هذه الحقيقة العقلية، وفي تلك الحقيقة الإلهية، كما هو دأب المنهج التشكيكي، إنما يقول ذلك لأنه جاهل لا يعلم، ولو كان يعلم الحق لما شكك فيه غيره. ثم أن الإمام (عليه السلام) يعطينا المقياس والمرشد فيقول: "وَالْتَمِسُوا ذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِهِ فَإِنَّهُمْ خَاصَّةً نُورٌ يُسْتَضَاءُ بِهِمْ وَأَئِمَّةٌ يُقْتَدَى بِهِمْ، بِهِمْ عَيْشُ الْعِلْمِ". أي أن العلم يعيش ويحيى بهم "وَمَوْتُ الْجَهْلِ"، فكأن الجهل مخلوق يموت وينعدم عند وجود الأدلاء إلى الله تعالى وإلى كافة الحقائق، وهم أهل البيت (عليهم السلام) "وَهُمُ الَّذِينَ أَخْبَرَكُمْ حِلْمُهُمْ عَنْ جَهْلِهِمْ وَحُكْمُ مَنْطِقِهِمْ عَنْ صَمْتِهِمْ وَظَاهِرُهُمْ عَنْ بَاطِنِهِمْ لَا يُخَالِفُونَ الْحَقَّ وَلا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ..." والخلاصة: أنه لا بد من وجود المرشد والهادي عند الابتلاء بكل حالة شك أو بكل موجة تشكيكية. ولنمثل لذلك بمثال من علم الفقه: ففي الفقه والأصول عندنا مرشدان: العرف في الموضوعات والشرع في الأحكام، فإن العلماء كثيراً ما يختلفون في الموضوعات إلا أن مرشدهم في ذلك ومرجعهم الأخير هو العرف. فمثلاً في بحث التعارض، جرى بحث مفصل عن مصب (التعارض)، وهل هو الحجية، أم الظهور المستقر، أو هو الظهور البدوي؟ وهل المتعارضان هما المتعارضان في مرحلة الحجية؟ أم في مرحلة الظهور؟ ثم: المراد الظهور البدوي كما في موارد الجمع العرفي أم المستقر كما في المتباينين؟ وبعبارة أخرى: ما الذي يفهمه العرف من التعارض؟ وهل دائرته تشمل العام والخاص؟ والمطلق والمقيد؟ والحاكم والمحكوم ام لا؟ ففي كل هذه البحوث وغيرها وهي بحوث دقيقة ومعمقة نرجع في النهاية الى المرشد العام وهو العرف، وكذلك الأمر في بحث الربا في المكيل والموزون أو المعدود وفي مفهوم الغناء ومفهوم البيع.. الخ. فالمجتهد يشك قبل البحث واستفراغ الوسع ثم يبحث ويحلل، ثم يرجع بعد ذلك كله الى مرجع جعله له الشارع المقدس في الموضوعات وهو العرف. أما الأحكام فأيضاً كثيراً ما يختلف المجتهدون إلا أن مرجعهم في ذلك الى الكتاب والسنة والعقل فإنها الحجة النهائية لو ثبتت.
أن يكون الشك منهجياً 3- أن يكون الشك ممنهجاً بمعنى أن يكون علمياً، فإذا كان الشك يسير وفق منهج صحيح، فإن الفحص والبحث الذي يتلوه[12] قد ينتج ويثمر. مثال ذلك (التناقض) هل هو محال أم لا؟ إن الجواب واضح لدى العلماء والفضلاء، ولكن قد يعتقد بعض من لا خبرة له، أن ذلك ليس محالاً، وقد يستشهد على ذلك بأمثلة واهية وضعيفة، لكن هذا الشك والتشكيك ثم الانكار ليس منهجياً، وذلك لسبب هام، وهو أنه (لم يتصور) الموضوع على حقيقته لأن كثيراً من القضايا يكون تصورها مساوقاً لتصديقها. فهو لم يفهم حقيقة معنى التناقض، ويشترط أن تتوفر فيه ثمان وحدات كي يكون تناقضاً حقاً، وهي: وحدة الموضوع، ووحدة المحمول، والشرط، والإضافة، والجزء والكل، والقوة والفعل، والزمان، والمكان، وأضاف بعض وحدة الرتبة في الحقائق التشكيكية كالنور والعلم، وأجاب بعض بأنها تعود الى وحدة الموضوع وهو الصحيح، بل الدقة تقودنا إلى أنها كلها تعود الى وحدة الموضوع والمحمول. والجاهل بهذا التصور الدقيق لمعنى التناقض يشك ويشكك طبيعياً إلا أن جهله ليس منهجياً بالمرة. مثال آخر من علم الكلام: هناك من ينكر علم الرسول والأئمة بالغيب ويعتبر ذلك شركاً وكفراً.. وما ذلك إلا لأنهم لا يعرفون معنى الشرك أصلاً، وأن الشرك هو الشرك العرضي، أما الطولي فليس شركاً فإن من يقول: إنني قادر على فعل الطاعة وترك المعصية ولست مجبوراً أو أنني قادر على تحريك يدي ورجلي مثلاً، فإنه لا يقال له: أنت مشرك لأن الله هو القادر وحده لا شريك له!! وذلك لأن قدرته على تحريك يده أو رجله أو أي شيء آخر أو على الصلاة والصوم هي بإذن الله تعالى، وكذلك الأمر في العلم بالغيب أو الشهود، فإنه بإذن الله تعالى، فليس بشرك، إضافة إلى وضوح أننا نعلم بكثير من المعلومات ومنها معلومات غيبية[13] كظهور الشمس غداً وبعد غد، فهل أصبحنا شركاء لله في هذا العلم؟ إن هذا كلام لا قيمة له إلا عند أولئك الذين عاثوا في الأرض فساداً، وتخبطوا في ظلام الجهل، فأخذوا يكفرون كل من يخالفهم، وادعوا كفر كل من لا يوافقهم، ثم سفكوا دماء الناس بلا جرم أتوه ولا حق ضيّعوه. وهكذا الكثير ممن ينكر المفاهيم الحقة كالإمامة والعصمة والبداء والرجعة وغير ذلك، فإن الكثير من المنكرين لا يوجد لديه تصور صحيح عن معاني هذه المفاهيم. والحاصل: إن الشك ينبغي أن يكون منهجياً ومن أركانه: أن يكون بعد تصور الموضوع بما هو هو وبشكل دقيق وكامل. مثال آخر: قوانين الإسلام، فان كثيراً من الناس، وحتى بعض الدارسين، عندما تذكر له قانوناً من قوانين الإسلام فإنه لا يصدق به، بل قد يعتبره أمراً غير مقبول، كما حصل ذلك لبعضهم عندما ذكرت له قانون (الأرض لله ولمن عمرها)، وهو قانون وقاعدة متفق عليها بين الفريقين لأنها مستمدة من رواية نبوية مجمع عليها، اعترض وقال لا يمكن ذلك بل الأرض هي للدولة!! وهذا التشكيك ليس منهجياً لسبب آخر، وهو أنه مادام مسلماً مؤمناً بالقرآن والرسول (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام)، فإنه لا يصح أن يرد أحكامهم لمجرد أنه اعتقد بما تربي عليه في المدارس أو الكتب من أن الأرض هي للدولة لا غير! قال تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[14]
مساحات الشك وهناك مساحات شك ممنوعة أو مذمومة نشير إليها بإيجاز الآن: منها: مكارم الأخلاق، فإن الكثير من الناس قد يشكك في مكارم الأخلاق، ويعلل ذلك ببعض الآثار السلبية التي قد تنجم عن (الحلم) مثلاً، رغم أنه من مكارم الأخلاق، وقد وردت فيه آيات وروايات متعددة مدحاً وحثاً إلا أن بعضاً قد يشكك فيه؛ مدعياً أنه قد يترجمه الآخرون على أساس أنه ضعف مثلاً. وهكذا (إصلاح ذات البين) و(التواضع) و(الكرم) و(الاحسان) وغير ذلك، فإنها جميعاً حسنات ومكارم ولا ينبغي أن تثنينا عنها، وتشككنا فيها بعض الطوارئ السلبية التي قد تحتوشها لوضوح أن ذلك من باب التزاحم، وأنّ فوائدها على الفرد والأسرة والمجتمع أكثر من مضارها، بكثير جداً. ومن مساحات الشك المذمومة: المستقلات العقلية، وسيأتي بحثها وبحث غيرها من المساحات إن شاء الله تعالى. ختاماً لنتذكر مرة أخرى قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ). وكلمة الإمام المجتبى (عليه السلام): "الْيَقِينُ مَعَاذٌ لِلسَّلَامَةِ". فاليقين هو الملاذ والملجأ وهو الحماية والوقاية وبه الفلاح والنجاح. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين
** من سلسلة محاضرات في تفسير القرآن الكريم لسماحة آية الله السيد مرتضى الحسيني الشيرازي حفظه الله تعالى، ألقيت في النجف الأشرف. تحرير www.alshirazi.com ............................... [1] السجدة 24. [2] السجدة: 24. [3] تحف العقول عن آل الرسول (صلى الله عليه وآله) ص 236. [4] تحف العقول عن آل الرسول (صلى الله عليه وآله) ص111. [5] تحف العقول عن آل الرسول (صلى الله عليه وآله) ص381. [6] البقرة 1 ـ4 [7] السجدة: 24. [8]الصحيح الثبوتي. [9] وليس القطع والذي هو الحالة النفسية التي تعتور صاحبها فقد يكون المطابق حقا وقد لا يكون. [10] المقصود بعض الغرب ممن يعتمد المنهج التشكيكي. [11] تحف العقول عن آل الرسول (صلى الله عليه وآله) ص227. [12] لان نفس الشك لا ينتج الا الجهل والضلال [13] أي غائبة فعلاً عن الحواس الخمسة. [14] النساء: 65. 25/ ربيع الآخر/1437 |