![]() |
![]() |
الموقف من استراتيجية تسفيه الآراء والتشكيك في الانتماء |
السيد مرتضى الشيرازي |
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى، محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولا قوه إلا بالله العلي العظيم
يقول تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا, قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)(1)
الحديث يدور حول مفردتي (الابتلاء) و(الإتمام) في هذه الآية الشريفة، أما (الابتلاء) فقد ذكرنا في ما سبق أن له إطلاقات أولاً، وإن له أنواعاً ثانيا، وهي عديدة نشير ههنا إلى بعض أهم أنواعها:
أولاً: تسفيه الآراء وهو سلاح فعال كان ولايزال المبطلون يستخدمونه في مواجهة أهل الحق، بل والأنبياء على مر التاريخ، وهو سلاح نافذ ومؤثر في نفوس الكثير من الناس، ولعله يسبب للكثير من المحقيّن الإحباط بل والإحجام؛ لأنه يواجههم بحملة من التلويث والتشويه وتسفيه الرأي أو الفكرة والحقيقة.
آ: الطوباوية ومن التهم التي يكثرون من استخدامها هي تهمة الطوباوية وهي مأخوذة من كلمة يونانية أصلها (يو تبوس) أي (ليس في مكان)([2]) وهي تهمة تزعزع الكثير ممن لا ثبات قدم له في المعرفة ولا قوة له في النفس كما شاهدت انا ذلك شخصيا ولعل الكثير منكم شاهد ذلك أيضاً. عندما تدعو وتسعى للوصول الى الأهداف الإنسانية أو الإسلامية فإن سلاح الاتهام بالخيالية والعيش في عالم الأحلام والأماني تجده جاهزاً في متناول أيدي المثبطين والأعداء الذين لا يريدون تحقق هاتيك الأهداف العليا. فمثلا: عندما تدعو الى الأمة الواحدة والى إسقاط الحدود الجغرافية بين البلدان الإسلامية انطلاقاً من قوله تعالى: (هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ)([3]) أو تدعو الى إسقاط الجنسية لأن الإسلام لا يعترف بالجنسية وما أشبه، عندئذ يتهمونك بأنك طوباوي، وإنك تحلق في عالم الخيال، مستدلين على ذلك بأن الدول سواء الإسلامية أو الغربية لا يمكن أن تسمح بذلك!! وكذلك عندما تقول إن القانون الإسلامي يقول: ((الأرض لله ولمن عمرها)) وهي رواية مسلمة عند الشيعة والسنة، فانك سوف تتهم بالطوباوية وتتهم بعدم معرفة معطيات الواقع! ولكن يجب أن نتسائل: أليس هذا القانون الإسلامي مشرَّعاً من قبل الله ورسوله (صلى الله عليه وآله)؟ وألسنا نحن المخاطبين به؟!! وألا يجب علينا أن ندعو الى الآيات الحيوية والقوانين الإسلامية المنظمة لحياة الناس، وإن اتهمنا بالطوباوية وحياة الأحلام؟!! ألم يقل الإمام الحسين (عليه السلام): ((وَإِنَّمَا خَرَجْتُ أَطْلُبُ الصَّلَاحَ فِي أُمَّةِ جَدِّي مُحَمَّدٍ أُرِيدُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ أَسِيرُ بِسِيرَةِ جَدِّي وَسِيرَةِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَمَنْ قَبِلَنِي بِقَبُولِ الْحَقِّ فَاللَّهُ أَوْلَى بِالْحَقِّ وَهُوَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِين...))([4]) إن حكومة يزيد كانت تسيطر على معظم الكرة الأرضية آنذاك، فهل يمكن أن نعتبر خروج الإمام (صلوات الله عليه) وطلبه للإصلاح في الكيان الفاسد خروجا وطلبا طوباويا؟!! بل وخروجه لأجل أن يسير بسيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام)؟ خصوصاً وإن الإمام الحسين (عليه السلام) خرج مع مجموعة صغيرة من أهل بيته وأصحابه وكان يعلم بأنهم سيقتلون عن بكرة أبيهم. والغريب أنه حتى الكثير من الأصدقاء والمحبين كانوا يستبعدون ذلك ويعتبروه خروجاً غير ذي جدوى، حتى أن مثل محمد بن الحنفية (رضوان الله عليه) يستغرب من خروج الإمام (عليه السلام) لكن مع ذلك خرج الإمام الحسين (عليه السلام) وأصر على ممارسة دوره ووظيفته، وإن بدا الأمر مستحيلا؛ فإن الواجب على المؤمن أن يؤدي واجبه ورسالته أما الوصول إلى النتائج في نفس الحقبة الزمنية، فليس من شرائط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. إذن هذا نوع من الابتلاء وهو تسفيه الآراء بالاتهام بالطوباوية والمثالية.
ب- الخرافية وهي نمط ثان من الابتلاء بتسفيه الآراء، وتهمة الخرافية يراد بها الإيمان بالخرافات والأساطير وما لا يقبله العقل أو العلم وعدم الواقعية، وقد استخدم الغرب هذه التهمة بشكل واسع في أوساطنا الإسلامية حتى أصبح البعض - مع الأسف - يشعر بالدونية عندما تَذكر معاجز أو كرامات للأنبياء والأوصياء ويتخوف من ان نتهم بالخرافية من قبل البعض، الذين يحاولون ان يشككوا بالرواية الدالة على هذه المعجزة أو تلك الكرامة أو أن يؤولوا - بتكلف وتعسف - الآية الواردة في القرآن الكريم، بل قد يصل الأمر بالبعض الى الارتداد عن الإسلام بسبب هذه التوهمات والاستبعادات. إن الاتهام بالخرافية ونظائرها سلاح من أهم أسلحة الشيطان وأتباعه.. وقد استُخدم هذا السلاح وأشباهه ضد الشعائر الحسينية، حتى قال البعض: إن مثل البكاء على سيد الشهداء وأهل بيته وأصحابه هو خنوع وذلة وصغار! وقال البعض: إن ركضة طويريج وحشية! وقال البعض إن التطبير هو نوع من الوحشية، ولسنا ندري ما المقصود من الوحشية هاهنا؟ وذلك لأن الوحش يهاجم الآخرين ويجرحهم ولم نشاهد وحشاً يجرح نفسه! وهل يقال لمن يقوم بتمثيل مشهد حربي أو عسكري انه وحشي؟ وهل يقال لمن يمثل المعذّب في ظلم المطامير أنه قاس أو وحشي؟ بل – ومن زاوية أخرى – هل يقال لمن يحجم رأسه أنه وحشي؟ أو يقال للطبيب الذي يجري عملية جراحية أنه وحشي؟ فكيف يقال لمن يطبر رأسه أو يركض في عزاء طويريج أو يلطم صدره أو يضرب ظهره بالسلاسل، لهدف نبيل ولكي يتجسد الآلام ويعيش المعاناة بنفسه ولكي يتدرب على البطولة ويتمرن على درجات من الألم والتضحية، كيف يتوهم أن يقال له أنه وحشي! وبكلمة: فإن محيي الشعائر الحسينية لا يتعرضون إلى أي أحد بسوء، بل إن أعمالهم وشعائرهم هي قمة في تجسيد الإنسانية لأنها تنطلق من منطلق المواساة والعاطفة الإنسانية النبيلة.
الشعائر الحسينية: فكر وعاطفة وموقف إن الشعائر الحسينية ثلاثية الأبعاد، فهي فكر، وموقف، وعاطفة، فمثلا وراء لُبسنا للسواد فكر، فإنه تعبير عما يجول في خلدنا من فكرة وفلسفة وحكمة نريد إبرازها، ثم أنه موقف يميزنا عن الآخرين ممن لا يقفون مع قادة الإسلام وسادته، إضافة الى أن ذلك يختزن في الداخل بحرا من العاطفة النبيلة. فلا ينبغي أن تخيفنا اتهامات الآخرين لنا ما دمنا على الحق، فإن الإمام الحسين (عليه السلام) اتُهم، وقيل أنه خارجي خرج على إمام زمانه، إلا أن ذلك لم يثنه عن عزمه على إكمال مسيرته، ونحن أتباعه وشيعته والسائرون على دربه لا ينبغي أن نتراجع أو أن نستسلم للآخرين، وإنْ شهروا في وجوههنا أسلحة الطوباوية والخرافية وغيرها! قال لي أحد الكبار - وهو ينتقد أحد العلماء - أنه يكثر من القصص في محاضراته ودروسه مما يستوجب انخفاض مستوى المحاضرة ثم أن القصص فيها الكذب والصدق، ولِم لا يملأ محاضراته بالأفكار والآراء وهي أسمى من القصة؟ قلت: سبحان الله.. إن القرآن مليء بالقصص، وقد قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ..)([5])، ثم إن الفكرة إذا كانت متجسدة في قصة، فإنها تكون أوقع في النفوس (والشعائر الحسينية هي فكرة متبلورة في قالب عاطفة متشكلة([6])، وهي عاطفة تعبر عن فكرة)، والإنسان بطبعه تقوده القصة - عادةً - أفضل مما تقوده الفكرة المجردة، ولو أن خطيبا جاء بخطبة مشحونة بأفكار تتبعها أفكار أخرى إلى أن انتهى، فإن أغلب جمهوره لا يتفاعل معه ولا ينشدون إليه، وستراهم يملون من حديثه، ويستثقلون توالي الأفكار المجردة عليهم، بخلاف ما لو كان هناك ترويح عن النفس بقصة هادفة أو بيت شعر واعٍ أو حكمة مستظرفة. وفي بعض السنين السابقة، قال البعض بلا جدوائية زيارة الأربعين مدّعين أن في ذلك تعطيلاً لمصالح العباد والبلاد، وتعطيلاً للإنتاج الوطني!. وهذه الشبهة قد تنطلي على الكثيرين فيرددونها في مجالسهم بسوء أو بلا سوء نية منهم.. لكننا نعلم أن وراء هذه الشبهات أيادي خفية مشبوهة تريد تسفيه معتقداتنا والنيل من مقدساتنا([7]). القرآن الكريم وهو أعظم كتاب إعجازي إلهي في الكون كله، لم يسلم من رشقِهِ بسلاح التهمة بالخرافية، قال تعالى: (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)([8]) وبذلك فقد اتهموا الرسول ص بتهمتين مزدوجتين: الأولى منهما: أن القران خرافة وغير مطابق للواقع ومجرد أوهام وكذب (والأساطير هي الأكاذيب المختلقة). والثانية: إن النبي (صلى الله عليه وآله) أخذها من الآخرين فهو لا ينتمي إلى السماء وليس القرآن وحيا من الله العلي القدير كما يزعم!! ولقد قالوا إن النبي أخذ القرآن من شخص مسيحي اسمه (بلعام) ([9])، وهو عبد مملوك رومي، ومن الواضح إن هذه تهمة لا تكشف إلا عن جهل قائلها ومن يتبناها؛ لأن القرآن عجزت عقول جميع البشر عن أن تأتي بسورة من مثله، والتحدي قائم الى يوم القيامة، فكيف يكون من نتاج عبد رومي ضعيف؟ وكيف له أن يسطر هذا الدستور الخالد والكتاب الذي لا نظير له الذي عجزت عنه عقول عباقرة البشر على مر التاريخ؟ وكما هو بيّن فإن هذه التهمة المزدوجة تعد من أسوء أنواع التهم إلا أنهم أستسخفوا عقول الآخرين فكان أن قالوا ما قالوا. إن التهم هذه سواء أبالطوباوية أم بالخرافية أو بغيرها لا تفلُّ من عزم المؤمن ولا تثنيه أبداً، بل إن من صفات المؤمن أن يحلق عاليا إذ "يطير المرء بهمته كما يطير الطائر بجناحيه". وطالما حاول الغرب أن يتهم ويسفه ويشكك في المصادر أو الشعائر أو القيم أو المبادئ ليمنع المسلمين من التحليق عاليا، ومن الوصول الى المكانة اللائقة بهم، وهذا نوع من الابتلاء، والمؤسف أن الكثيرين سقطوا في مصيدة الغرب، وانهاروا تحت وطأة تهمة كالخرافية أو الطوباوية أو الرجعية حتى أصبح البعض يتبنّى آراء الغرب في المرأة أو الطفل أو السياسة والاقتصاد أو غيرها على الآراء الإسلامية المستقاة من الكتاب والسنة الصحيحة والتي هي في الواقع ونفس الأمر أكثر إنصافا مما يروجون له تحت لافتة حقوق الانسان وما أشبه! إن علينا أن لا نستسلم الى اتهامات الآخرين ما دام الأمل بالله عظيماً وما دمنا نقوم بوظائفنا على أكمل وجه، بل ان الله تعالى سيمنحنا على القيام بالشعائر الحسينية فوق ما نرجوه بفضله ومنّه وكرمه. وفي الرواية: ((كُنْ لِمَا لَا تَرْجُو أَرْجَى مِنْكَ لِمَا تَرْجُو))([10])، فليس بالضرورة أن نحصل على ما نرجو بالسعي الظاهري والمعادلات المادية - وإن كانت لازمة بل ووظيفة - بل هناك ألطاف إلهية عظمى، وكما يقول الشاعر: ما بين طرفة عين وانتباهتها يقلّب الله من حال الى حال والذي يشهد على ذلك، إننا نرى الشعائر تزداد علوا وارتفاعا رغم كل المحاولات البائسة لإسقاطها أو حتى النيل منها!.
ثانياً: التشكيك في الانتماء تشير الآية الآتية إلى إحدى مصاديق ومفردات التشكيك في الانتماء إذ يقول تعالى: (إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ)([11]) إن التشكيك في الانتماء طالما اُتهم به المصلحون، ونحن كرجال دين ودعاة الى الله تعالى علينا مواجهة هذا النوع من التهم بكل حكمة وشجاعة وانتباه وحذر اذ أننا نواجه أنظمة مختلفة ونذهب إلى دول عديدة وشعوب متباينة في آدابها وأفكارها ورؤاها، ومن الواضح أن الدول والحكومات والقوى الاستعمارية، بل والأحزاب المختلفة تضغط على عالم الدين لكي ينخرط في سلكهم أو يؤيد سياساتهم على أقل الفروض، فإذا أصرّ العالم أو الوجيه أو المؤمن على ألا يقف إلا مع الحق، وعلى أن ينصر المظلوم وينتصف له من الظالم، انطلاقاً من قوله (عليه السلام) في وصيته للحسنين (عليهما السلام) عند وفاته: ((قُولَا بِالْحَقِّ وَاعْمَلَا لِلْأَجْرِ وَكُونَا لِلظَّالِمِ خَصْماً وَلِلْمَظْلُومِ عَوْناً...))([12])، فإن من الطبيعي أن تحاول تلك الجهات إسقاطه في أعين الناس بسلاح التهم، ومن أهمها تهمة العمالة والانتماء للأجنبي! وعلى المؤمن أن يقارع الظلم أين ما حل وفي أي بلد كان.
اتهام المصلحين بالعمالة المصلحون على مر التاريخ - كانوا ولا زالوا - يُتهمون بالخيانة والارتباط بالأجنبي، وأنهم تابعون الى جهة أخرى معادية، وقد لاحظنا ذلك في التاريخ الحديث في زمن الطاغية صدام مع أنه وأشباهه من حكام البلاد الإسلامية هم العملاء للغرب أو للشرق أو أذنابهم كإسرائيل، إلا أنك تجد الطغاة يتهمون المعارض لهم بالتخابر مع الأجنبي فيحكم عليه بالإعدام ظلما وزوراً فيغتالون شخصه بعد أن اغتالوا شخصيته! إلا أن ذلك رغم مرارته لا يخيف المصلحين ولا يزحزحهم أبداً، بل أنه يزيدهم إصرارا وعزيمة لأن المؤمن كالجبل بل أقوى من الجبل، فإن الجبل يستقل منه والمؤمن لا يستقل منه – كما في الرواية - عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: ((إِنَّ اللَّهَ فَوَّضَ إِلَى الْمُؤْمِنِ أُمُورَهُ كُلَّهَا وَلَمْ يُفَوِّضْ إِلَيْهِ أَنْ يَكُونَ ذَلِيلًا أَمَا تَسْمَعُ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) فَالْمُؤْمِنُ يَكُونُ عَزِيزاً وَلَا يَكُونُ ذَلِيلًا قَالَ إِنَّ الْمُؤْمِنَ أَعَزُّ مِنَ الْجَبَلِ لِأَنَّ الْجَبَلَ يُسْتَقَلُ مِنْهُ بِالْمَعَاوِلِ وَالْمُؤْمِنَ لَا يُسْتَقَلُّ مِنْ دِينِهِ بِشَيْءٍ))([13]). إضافة إلى انهم يعلمون أن ذلك كله ابتلاء لهم وامتحان وتمحيص فإن طريق الحق ليس مزروعا بالورود، وإلا لورَده كل أحد ولو لم يكن ذا أهلية ولياقة، بل إنه - الحق - طريق ذات الشوكة والأشواك، ولا يلقاها الى ذو حظ عظيم.
السيد الكاشاني وامتحان التخوين والعمالة كان السيد أبو القاسم الكاشاني من أكبر العلماء المجاهدين في إيران، وكان عدواً من النمط الأول للاستعمار البريطاني، وكان قوياً أبيّا بل شرسا في الدفاع عن الحق والعدالة، فما كان من الاستعمار إلا أن لجأ إلى سلاح التهم المعلَّبة والخبيثة، فاتهموه بأن السيد يقبض أموالا منتظمة شهرياً من السفارة البريطانية سراً وإنه عميل لهم!! وأشاعوا أن هناك اتفاقات سرية خفية له مع الاستعمار، وإن مواقفه ضد الاستعمار ما هي إلا تغطية وستار! وأنتم أيها الشعب الإيراني لا تعلمون!! وقبيل وفاته جاءه أحدهم وهو من البازاريين([14]) وطلب منه براءة الذمة واعتذر منه قائلا: "إنني ارتكبت بحقك جريمة كبيرة واطلب منك العفو"!!. فقال له السيد: إنني أعدك بأن أعفو عنك لكن بشرط أن تخبرني ماذا فعلت؟ لكنه اعتذر عن ذكر جريمته لفداحتها وكرر طلبه العفو، فرفض السيد مؤكداً أن العفو مشروط بأن يذكر ما صنع! فقال: منذ عشر سنوات وأنا أقبض أموالاً من موظف في السفارة البريطانية شهرياً مقابل الترويج بأنك عميل لبريطانيا، في كل مجلس ومحفل أشارك فيه! هذا هو حال الأعداء وهذه هي سياستهم وهي التخوين والاتهام للمعارضة في سبيل تشويه سمعتهم وتسقيطهم اجتماعياً.
اتهام شيخ الموحدين (أبو طالب) بالكفر والقصص والشواهد على ذلك كثيرة، بل بلغ الأمر إلى أن أبي طالب ذلك المؤمن المجاهد ليث قريش وشيخها اتهموه بالكفر والشرك والعياذ بالله ولا زال الاتهام الى الآن، ورووا زورا: أن دماغه يغلي من النار!! مع أنه لولاه لما قام للإسلام عود! حتى أن الرسول (صلى الله عليه وآله) أعلن عام وفاته ووفاة السيدة خديجة عام الحزن، وقد ورد أنه ((ما ثبت دعائم الإسلام إلاّ بأموال خديجة وحماية شيخ البطحاء أبي طالب ونصرته، وسيف علي بن أبي طالب وجهاده المستميت)). بل كان رأي الوالد أن ما يذكر في التاريخ عن بعض أبناء المعصومين (عليهم السلام) ما هي إلا أكاذيب صنعتها الدولة الأموية والدولة العباسية، وهي تدخل في خانة الاتهام للمعارضة، وحيث أنهم – أي طغاة بني أمية والعباس – عجزوا عن إلصاق التهم بالأئمة الأطهار في كثير من الأحيان، حاولوا النيل منهم بتلويث سمعة أبنائهم أو أقربائهم! وهذا هو التحليل العام لتلك الأخبار والذي لا يتعارض مع وجود بعض الاستثناءات.
ناصبيٌّ يتهم الإمامين العسكريين (عليهما السلام) بقلة العلم! قبل أيام رأيت مقطع فديو لشخص سلفي بغيض وهو يتحدث عن أئمة الحق وقادة الإسلام (عليهم السلام) فقال في جملة كلامه: إن (الإمام) الهادي والعسكري لم يكونا من العلماء وليسا معروفين بالعلم، نعم هم سادة وأبناء رسول الله لكنهم ليسوا من أهل العلم ولم يعهد منهم العلم والفضل فليس لهم تلامذة أو أحاديث أو أفكار أو نظريات أو غير ذلك. أقول: أن من هوان الدنيا على الله أن يأتي مثل هذا الناصبي السلفي ليقيّم مثل الأئمة الهداة المهديين صلوات الله عليهم أجمعين، مع أن بعض أحاديثهما صلوات الله عليهما، التي وصلت إلينا، لو عرضت على الحكماء والعلماء والبلغاء لأدركوا انهما فوق مصافّ العلماء، وإن كلامهم دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق.
(الشجاعة والحلم) من الكلمات التي أتمها إبراهيم (عليه السلام)؟ في مواجهة الأسلحة التي يشهرها الطغاة والمستعمرون وأذنابهم بوجه المصلحين، خاصة أسلحة التهمة والتسقيط الاجتماعي، لا بد أن يتحلى المصلحون بسلاح الشجاعة الفائقة، إلى جوار سلاح الحلم أيضاً مع المضلّلين، وهذا هو ما نستلهم من قضية إبراهيم (عليه السلام) ومن قوله تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ)، ففي الرواية التي نقلها في تفسير البرهان وغيره: أن من الكلمات التي أتمها إبراهيم (عليه السلام) في قوله تعالى: (فَأَتَمَّهُنَّ) هي (الشجاعة)، فإن إبراهيم كان في الشجاعة فريداً وتجلى ذلك في مواجهته للنمرود وجلاوزته، كما كان مجاهدا من الطراز الرفيع، وقد ذكرت رواياتنا أنه ذهب الى جهاد الروم، واستنقذ لوطا (عليه السلام)، بعد أن كانوا قد أسروه([15])، كما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أن إبراهيم (عليه السلام) انطلق مع جيش كبير من مسجد السهلة في النجف الأشرف إلى اليمن في قضية العمالقة وهم قوم أبطال يرعب أسمهم الأبطال! كما أنه يروى: إنه (عليه السلام) كان أول من وضع الرايات المرسومة في الحروب. لقد كان إبراهيم (عليه السلام) شجاعا مجاهدا، بل لقد كان قائدا من الطراز الأول، وكان في الخطوط الأمامية للمواجهة، وليس كما يفعل الكثير من القادة حيث يقبع قادة العساكر في الخطوط الخلفية ليدبروا الأمر بزعمهم، وقد يكونوا على حق نظرا لتطور الأساليب القتالية الحديثة، لكن على أي حال يبقى القائد المتقدم أمام جنوده الى الحرب أشجع ممن يتأخر عنهم، كما هو حال سيدنا إبراهيم (عليه السلام). وفي مضمون الرواية أن أربعة من الأنبياء قاموا بالسيف ([16]): إبراهيم وموسى وداود (عليهم السلام) ونبينا وسيدنا محمد (صلى الله عليه وآله). عندما نستقرأ سيرة الإمام الحسين (عليه السلام) نجدها مشحونة مملوءة بأسمى آيات الشجاعة ليس في واقعة الطف فحسب، بل على امتداد حياته صلوات الله عليه، ومن ذلك ما نقله لنا التاريخ من أن الإمام الحسين (عليه السلام) عندما واجهه الوليد بن عتبة في قضية، وكان واليا على المدينة من قبل معاوية، هجم عليه الإمام (عليه السلام) رغم حراسه ومسلحيه وكونه الوالي الطاغية على المدينة – وأخذ بعمامته ثم أنزلها على رقبته وشدها على عنقه... وفي الرواية الشريفة: إن الكلمة الثانية التي أتمها إبراهيم (عليه السلام) هي كلمة (الحلم)، وهي نوع آخر من الابتلاء بمعنى دفع السيئة بالحسنة إذ (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ)([17]). ففي الوقت الذي كان فيه إبراهيم (عليه السلام) شجاعا وبطلا في قمة الشجاعة والبطولة إلا أنه حليماً يغض الطرف عما لا يليق بمثله أن يفعله، فيدفع السيئة بالحسنة مهما أمكن ذلك. وفي الرواية أن الإمام الحسين (عليه السلام) زار أسامة بن زيد وهو في مرضه الأخير (وقد كان بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) في الجهة المعادية لأمير المؤمنين (عليه السلام)) فوجده يقول: واغماه!! فقال له الإمام (عليه السلام): وما غمك؟ فقال: دين عليّ، فقال (عليه السلام): وكم هو: قال: ستون ألف درهم([18]) فقال (عليه السلام): هي عليّ. الا أن أسامة بقي قلقا ولم يتيقن من أن الامام (عليه السلام) سيسدد دينه بعد وفاته؛ لأنه لا يعرف الإمام حق المعرفة، فقال له الإمام (عليه السلام) ساقضيها عنك قبل أن تموت، ثم قضى الإمام دينه فوراً وهو على حالته تلك.
من حلم العلماء في مواجهة الجهلاء إن هذه القضايا والألوف من نظائرها تكشف للعالم عن أن الأنبياء والأوصياء ثم العلماء الأبرار كانوا الأنموذج الصالح في الشجاعة من جهة وفي الحلم والسماحة من جهة أخرى، وفي قصص الأنبياء والأئمة ما يذهل، ويكفي من قصص العلماء ما نقلناه هنا من أن السيد الكاشاني عفى وبكل بساطة عن ذلك التاجر الذي كان، لقاء حفنة من المال، يشوه سمعته في مختلف المجالس طوال عشر سنين وبأبشع الانحاء. كما أن السيد العم (دام ظله) اتهمته جهة من الجهات بتهم غريبة وعلى نطاق واسع، فما كان منه الا أن كتب: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)([19])، وحالَ بذلك دون أن تحدث فتنة شيعية شيعية لا يعلم مداها إلا الله تعالى. وهكذا نجد أن علماءنا الكرام على مر التاريخ يتمثلون سيرة أئمتهم (عليهم السلام) وسير الأنبياء العظام (عليهم السلام)، ولا يزدادون على التهم والافتراءات التي تطالهم إلا ترفعا وتكرما وحلما وعلما وتفضلا، كما لا تزيدهم التهم إلا صبراً وصموداً وعزة وشموخاً.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين ..................................................... ([1]) البقرة 124 ([2]) وهي تطلق على ما لا يمكن تحقيقه الا في الاحلام والتصورات وعالم الخيال كالمدينة الفاضلة التي يزعمون أنها لا تتحقق أبدا!! (المقرر) ([3]) المؤمنون 52 ([4]) بحار الأنوار (ط – بيروت) ج44 ص329. ([5]) يوسف 111 ([6]) أو فقل: انها فكرة متبلورة في قالب تجسيدي عاطفي. ([7]) ومن الواضح ان صلاح العباد والبلاد بل وازدهارها ورقيها وتطورها بل وأمنها واستقرارها هو بالتمسك بالرسل والأوصياء والتشبُّث بشعائر الله تعالى إذ ان بها (تقوى القلوب) وتهذيب النفوس وتكامل الأنفس والأخلاق الفاضلة وهي قوام تقدم الأمم وسعادتها إذ: وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا بل قد قال تعالى من قبل (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) وزيارة الأربعين ونظائرها هي من أمثل الطرق لتقوى الله وصلاح الأمة. ([8]) الفرقان: 5. ([9]) وقيل ان المراد به سلمان المحمدي، وقول ثالث: أن اسمه عايش أو يعيش. ([10]) الكافي (ط – الإسلامية) ج5 ص83. ([11]) النحل: 103. ([12]) مستدرك الوسائل ج12 ص180. ([13]) تهذيب الأحكام ج6 ص179. ([14]) التجار ([15]) كما رواه (نوادر الراوندي) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله). ([16]) طبعا القيام الدفاعي. ([17]) التوبة: 114. ([18]) أي 6 الاف دينار ذهب وهو مبلغ يكفي لشراء ثلاثة آلاف خروف في ذلك الوقت أي ما يعادل 700 مليون دينار عراقي تقريبا أو ستمائة ألف دولار في الوقت الحاضر! ([19]) الشورى: 43. ..................................................... تحرير موقع الإمام الشيرازي * سلسلة محاضرات في تفسير القرآن الكريم / m-alshirazi.com 9/ ربيع الأول/1436 |