![]() |
![]() |
الموقف من الحكومات الجائرة.. المتاركة أو المشاركة أو المواجهة؟ |
السيد مرتضى الشيرازي |
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى، محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
الإمامة السياسية للمعصومين الأربعة عشر (عليهم السلام) يقول الله تبارك وتعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) ([1]) في هذه الآية الشريفة مباحث كثيرة، إلا إن رؤوسها عشرة، وسنشير بمناسبة مولد الإمام الرضا (عليه السلام) في هذه الأيام([2]) إلى بعض أهم عناوين تلك المباحث ومنها: مبحث الابتلاء، ومبحث في كلمة (إماما)، وسنتعرض لبقية المباحث مستقبلاً، إن شاء الله تعالى.
* الحِكَم الأربعة للابتلاء الإلهي إن الابتلاء على أنواع، وجميعها ممكنة واقعة بالنسبة إلينا، لكن أوّلها مستحيل في حق الله تعالى، وهي: - الاختبار ليتضح له الحال 1- ما يريد به المختَبِر (بكسر الباء) استخبار حال الطرف الآخر حقيقة، أي ما كان الاختبار عن جهل، وهو مستحيل في حق الله تعالى؛ لأن علم الله تعالى ذاتي محيط. وبكلمة: أن يختبره ليتضح له (أي للفاعل المختبِر) الحال.
- الاختبار ليوضح له الحال 2- أن يختبر ويمتحن الفاعل غيره ليوضح له (للغير) الحال، فيختبره ليتضح له أنه ذو حافظة قوية أم لا؟ أو هل هو ذكي أم غبي، إذا كان الطالب يجهل مثلاً مدى قوة حافظته أو ذكائه أو شبه ذلك؟ أو هل هو مدير من النمط المركزي أو اللا مركزي أم لا؟ وإنه هل ينفجر تحت الضغط وبأية درجة أو لا ينفجر؟ وهكذا. وبكلمة: ان يختبره ليوضح له الحال.
- الاختبار ليوضح للناس الحال 3- أن يختبره ليوضح للناس الحال، فإذا كان المختَبِر يعلم أية جوهرة هذا، وكان المختَبَر والممتحن يعلم حال نفسه أيضا، لكن كان الناس يجهلون ذلك ولذلك كانوا – أو قد - يعترضون: لم جعله الله علينا إماماً؟! فيختبره ليظهر للناس نجاحه المبهر في الامتحان فيذعنون له. وهذه الصورة كسابقتها – الثانية - ممكنة في حق الله تعالى، بل قد يستظهر أنها وسابقتها قد تكون من الحِكم في الاختبار الإلهي لإبراهيم (عليه السلام) وللأنبياء وللأئمة على مر التاريخ، لكي يظهر للناس جميعاً، أنهم بالفعل جديرون بأن يكونوا حجج الله تعالى على الخلق.
- الاختبار للاقتداء 4- أن يختبره لكي يقتدي به غيره، فيتعلموا منه، ويتأسوا به في الشجاعة والتفاني والإقدام والإخلاص، إذ ما راءٍ كمن سمعا، وهو ممكن في حق الله تعالى، ولعل من حِكَم ابتلاء إبراهيم هو ذلك. بمعنى أن الله تعالى عندما ابتلى إبراهيم (عليه السلام) كان ذلك لعدة حكم منها: أن يظهر فضله للناس وكفاءته وأرجحيته عليهم ومنها: لكي يقتدوا ويتاسوا به.
- الاختبار للتكامل 5- أن يختبره لكي يتكامل بنفس عملية الاختبار، وهذه الصورة قد تكون من الحكم التي تعلل بها الآية الشريفة أيضاً. والظاهر إن هذه الحكمة موجودة في جميع ابتلاءات الصالحين والمؤمنين، قال الله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)([3]) كما أن الظاهر أن الأنبياء (عليهم السلام) والأوصياء والكثير من الصالحين هم في سير صعودي مستمر، ومن الخطأ ما تصوره البعض من أن الأنبياء وقفوا عند درجة معينة من التكامل هي الأرقى والأفضل، بل الظاهر إن الأنبياء والأوصياء هم في طور تكامل وازدياد حتى في لحظة وفاتهم أو شهادتهم([4])، بل نستظهر إنهم حتى بعد وفاتهم يعيشون حالة التكامل (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ)([5])، والظاهر إن النوع الخامس هو من حكم ابتلاء إبراهيم بالكلمات ولعل ما يؤيد ذلك قرينتان: الأولى: كلمة (ربه) في قوله (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّه) دون إلهه أو معبوده أو الله مثلاً، فإن الرب تعني المربي، فانتخاب هذا اللفظ من ألفاظ الجلالة، قد يكون قرينة على ما ندعي من كونه (عليه السلام) كان في طور التربية والتكامل، وإن الله تعالى بما أنه مربي ابتلى عبده ابراهيم (عليه السلام) ليتكامل، فإن التربية تلازم التكامل ورفع الدرجات. الثانية: الجزاء المترتب على عملية الابتلاء، وهو (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً)، فان الظاهر أن هذا الجزاء هو الجزاء الثبوتي([6]) وليس مجرد الجزاء الإثباتي الذي هو خلاف الظاهر. فتأمل.
* مباحث في كلمة (إماماً) في مبحث الإمامة هناك مباحث كثيرة ولكن سوف نشير الى بعضها ههنا: - الإمامة العامة الشاملة لكافة الشؤون 1- ليس المراد من الإمامة، الإمامة في شؤون الشريعة فقط أو في شؤون العقيدة فحسب، بل يراد الإمامة بقول مطلق أي الإمامة السياسية والإمامة الاقتصادية والحقوقية والاجتماعية وشبهها، إضافة الى الأمور العقدية والفقهية، إلا أن بحث ذلك وأدلته، إضافة إلى الاستدلال بإطلاق الآية ومناسبات الحكم والموضوع موكول الى علم الكلام.
- الإمامة من الصفات ذات الإضافة 2- إن الإمامة من الصفات ذات الإضافة، إذ (إن المضاف نسبة تكرّرُ، منه الحقيقيُّ وما يشتهرُ)، فالإضافة هي النسبة المتكررة من الطرفين، فقد تكون متوافقة الطرفين كالأخوة مثلاً، بمعنى أن زيداً لما كان أخا عَمرو، فإن عَمرواً أيضاً هو أخو زيد، وقد تكون الإضافة متخالفة الطرفين كالفوقية، ولذا كان قولنا (هذا فوق) يستبطن أن الطرف الآخر تحت ضمنا. وقوله تعالى: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) يستبطن أن الناس كلهم مأمومون له، ولا شك أن الإمامة لهذا الطرف لا يمكن أن تجعل بدون جعل مأمومية الطرف الآخر (وهو الناس جميعاً في الآية)، فجعل هذا هو عين جعل ذاك على احتمالٍ، أو هو مستلزم لذاك على احتمالٍ آخر.
- دلالة الآية على العصمة 3- إن هذه الآية الشريفة بنفسها دليل على عصمة إبراهيم (عليه السلام) وعلى عصمة كل إمام نُصب من قبل الله سبحانه وتعالى على الخلائق؛ وذلك لمكان الإطلاق في الآية الشريفة: (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) أي في كل الجهات، فإنه لا يعقل أن يجعل غير المعصوم بقول مطلق إماماً على الناس بقول مطلق، وإلا لاستلزم أن يجعل الله تعالى ما أخطأ فيه هذا الإمام مورداً يقتدى به، مع أنه في ذلك المورد ليس بإمام يقيناً أي لم يجعل له الله الإمامة فيه لمكان الخطأ أو المعصية. نعم في غير القادر يمكن أن يتصور ذلك، فإنه لا يمكن لبشري أن يجعل أو ينتخب للناس إماماً معصوماً من كل الجهات، ولذلك فإنه يضطر الى اللجوء إلى قانون الأهم والمهم مثلاً، أما القادر على أن يخلق إماما معصوماً من كل الجهات، على أن يجعله إماماً لكل الجهات، فإنه يقبح منه عقلاً أن يجعل غير الإمام المعصوم بقول مطلق إماماً بقول مطلق، وتفصيل ذلك في علم الكلام أيضاً.
* لماذا يلزم بحث قضية الإمامة السياسية للمعصومين (عليهم السلام)؟ بمناسبة مولد الإمام الرضا عليه صلوات الله وسلامه نتعرض لموضوع من أهم المواضيع وهو: موضوع الإمامة السياسية للأئمة الأطهار عليهم صلوات الله وسلامه، والذي دعانا الى ذلك أمران: 1- إن وضع أتباع أهل البيت (عليهم السلام) في العالم - في هذا الزمن - يختلف عن وضعهم في السابق، لأن الوضع العالمي - اليوم - متحرك بشدة، والأجواء العالمية إذا كانت راكدة، فإن المؤسسة الدينية ورجالاتها لا تنتزعهم الضغوط الخارجية والطوارئ والأحداث الى غير مهمتهم الأساسية، وهي طلب العلم ونيله وبذله لأهله، وتزكية النفوس وتربية الأجيال، خصوصاً وأن السياسة في الوقت الحاضر أقبلت على رجال الدين والمتدينين بشكل ملفت، فما هو الموقف من السياسة ومن الحكام ومن مختلف التقلبات السياسية؟ وكيف يمكن للمؤمنين أن يخوضوا هذا المعترك الشائك، والذي غرق فيه خلق كثير على مر العصور الغابرة؟ 2- إن المعصومين عليهم الصلاة والسلام هم (ساسة العباد وأركان البلاد)، فعلينا إذن أن نذهب الى أهل البيت (عليهم السلام) ونستفتيهم أو ندرس سياستهم ومواقفهم السياسية، بأن نذهب الى مدرسة الإمام الرضا وآبائه وأجداده وأبناءه الكرام (عليهم السلام)، فهم أئمتنا في كل الحقول ومنها المجال السياسي، خصوصا في الوقت الحاضر، فما هو موقفنا اتجاه الحكومات والحكام الجائرين؟
* هل الموقف من الحكومات المتاركة أم المشاركة أم المواجهة؟ إن رؤوس العناوين في كيفية التعامل مع الحكام الجائرين والطواغيت هي ثلاثة: 1- المتاركة والإهمال بمعنى أن نتركهم ويتركوننا، ونبقى أحلاس البيوت، وعلى ذلك سار جمع من علمائنا الكرام كالسيد اليزدي صاحب العروة في فترة من حياته، حيث التزم بعدم التدخل بالسياسة مطلقاً، وكان قد تدخل فترةً معينة ثم انسحب بشكل مطلق، كما أن السيد أحمد الخونساري من علمائنا، كان من هذا القبيل أيضاً كما يبدو. ولعل عدم تيسّر تشخيص الأهم والمهم في السياسة، وعدم الإحاطة بدهاليزها وما وراءها هو السبب وراء ذلك، فإنه يؤدي الى خداع وتورط رجل الدين فيما لا يجمل به أو لا يصح له؛ لأن اللعبة يديرها الآخرون خلف الكواليس المحكمة والمراكز الإستراتيجية الفاعلة والمؤثرة، فإذا دخل فيها من لا يعرفها أو من لا يملك القدرة على توجيهها الوجهة الصحيحة، زلّ أو ضاع أو خدع. 2- المشاركة والتعاطي وهو على أنواع: فمن ذلك: أن يتعاطى كشريك مصادق مع الحاكم الفاسق أو الجائر. ومن ذلك: مشاركة التابع والمتبوع، وكان من هذا النوع وعاظ السلاطين حيث يشاركون الحاكم مشاركة المتابعة. ومن ذلك: مشاركة المنافس, فتكون الرقابة شديدة بين الطرفين. ومن ذلك: مشاركة الموجه الضاغط الفاعل من العلياء. 3- المواجهة: وهي أيضاً على أنواع: فقد تكون مواجهة عسكرية، وهو النوع الذي يرفضه - في زمن الغيبة - مجموعة كبيرة من الفقهاء على مر التاريخ، إلا في الدفاعي كما لا يخفى، والمواجهة العسكرية قد تكون مباشرة أو تكون غير مباشرة، ومن الأول: مواجهة الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه، ومن الثاني: مواجهة الإمام السجاد (عليه السلام)، حيث كان يدعم المختار الثقفي رحمه الله وغيره، وكذلك الإمام الصادق والذي كان يدعم الحركات المسلحة مع تقية شديدة حسب التحقيق. ومن أنواع المواجهة أيضاً: المواجهة السياسية، وكذلك: المواجهة الفكرية الثقافية الفقهية، ولكل ذلك تفصيل لا يسعه المقام، إنما سنشير لبعض الكلام عن ذلك على ضوء بعض ما يتيسر لنا ذكره الآن من سيرة الإمام الرضا (عليه السلام).
موقف الامام الرضا (عليه السلام) من الجائرين لقد كان موقف الإمام الرضا (عليه السلام) من الحكام الجائرين، هو المعارضة من خارج الحكم، وببعض أنماط المواجهة، ولذلك أيضاً رفض ولاية العهد جملة وتفصيلا في بادئ الأمر، فكان معارضة من خارج الحكم، لكن بعد ذلك ولأسباب كثيرة ظاهرها الضغط والإجبار قَبِل ولاية العهد، وتحوّل إلى المواجهة والمعارضة من داخل الحكم، وكان طليعة ذلك أنه اشترط أن لا يقوم بأي عمل تنفيذي أو قضائي، الأمر الذي أفرغ ولاية العهد من محتواها، ففهم الواعون من الأمة الإسلامية، استنكار الإمام لهذه الخطوة - القسرية - من جانب المأمون، فيما لم يفهم البعض ذلك، فاستشكلوا على الإمام (عليه السلام)، حتى وصل بهم الأمر الى محاولة اغتيال الإمام (عليه السلام)، لكن كان من وراء ذلك حِكَم أخرى وليس هذا محل ذكرها، والشاهد إن الإمام قبل ولاية العهد ودخل في الحكم، إلا أن موقفه كان موقف المعارض والمواجِه الناقد.
* أساليب مواجهة الحكام الظلمة لتوضيح الأمر أكثر، لابد من التطرق إلى أهم ما ينبغي فعله في التعامل والتعاطي مع الحكام الجائرين، بحسب تتبع بعض روايات المعصومين عليهم الصلاة والسلام وسيرتهم، مقتصرين الآن على بعض ما وردنا عن ثامن الأئمة (عليه السلام): - سلب الشرعية من الحكام الجائرين 1- سلب الشرعية من الحاكم الجائر وعدم منحه الشرعية أصلاً، فإن الحكّام - على مر العصور - يسعون الى كسب الشرعية والتأييد من المؤسسة الدينية، بأي شكل كان ولو كان ذلك صورياً - ليقنعوا الجماهير بحقانيتهم وليأمنوا جانبها، لكن الأئمة الأطهار والعلماء الأبرار والفقهاء الصالحين منا، كانوا لا يؤيدون الحاكم الجائر، بل كانوا يسعون إلى سلب الشرعية عنه بكل صورة ممكنة في حدود القدرة الشرعية. ومن القصص الرائعة الدالة على ذلك، أن الإمام الرضا (عليه السلام)، وهو في خراسان، جاءه شخصان مسافران فسألاه عن صلاتهما، وأنها قصر أم تمام؟ فقال (عليه السلام): أما أنت فقصِّر، وأما الآخر فأتم. فاستغربا اختلاف الحكم مع أنهما سيان في السفر، فأوضح لهما الإمام (عليه السلام): أما أنت فصلاتك قصر؛ لأنك قصدتني فسفرك سفر طاعة، وأما أنت فصلاتك تمام لأنك قصدت المأمون - ولعله جاءه ليأخذ عطاياه أو ليتقرب إليه - فسفرك سفر معصية. فإن من شروط القصر في السفر: أن لا يكون السفر سفر معصية. وأما نص الرواية عن ((أَحْمَدَ بْنِ هِلَالٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُرَاسَانِيِّ قَالَ دَخَلَ رَجُلَانِ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا (عليه السلام) بِخُرَاسَانَ فَسَأَلَاهُ عَنِ التَّقْصِيرِ فَقَالَ لِأَحَدِهِمَا وَجَبَ عَلَيْكَ التَّقْصِيرُ لِأَنَّكَ قَصَدْتَنِي وقَالَ لِلْآخَرِ وَجَبَ عَلَيْكَ التَّمَامُ لِأَنَّكَ قَصَدْتَ السُّلْطَانَ))([7]). وفي رواية أخرى، أن الإمام الرضا (عليه السلام) ذهب من المدينة إلى مكة، فمر على جبل يسمى (فارع)، فالتفت الى من معه فقال: (باني فارع وهادمه يقطع إربا إربا)، ومضى فلم يفهم الحاضرون مرامه، ثم بعد مدة مرّ بهذه المنطقة (جبل فارع) هارون اللارشيد ومعه جعفر بن يحيى البرمكي وكان وزيرا لهارون اللارشيد، وكان طاغية من الطواغيت، وكانت أموال بيت المال بيده ظلماً وعدواناً، فأمر أن يُبنى له مجلس على الجبل ليسكنه بعض الساعات أو عدة أيام! ففعلوا ذلك ثم تركه ومضى الى مكة، ولما رجع من مكة، صعد إلى ذلك البيت أو القصر فأمر بهدمه بخلاً منه، ولم يتركه للمارة ليستفيدوا منه، وذهب الى بغداد حيث مركز الحكومة الجائرة، فلما وصل أمر هارون على أثر قضية معروفة في مصير البرامكة، فقطعوا جعفرا بن يحيى هذا إربا إربا، وهنالك عرف الناس مراد الإمام الرضا (عليه السلام) من كلامه. ونص الرواية ((عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا (عليه السلام) أَنَّهُ خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ فِي السَّنَةِ الَّتِي حَجَّ فِيهَا هَارُونُ يُرِيدُ الْحَجَّ فَانْتَهَى إِلَى جَبَلٍ عَنْ يَسَارِ الطَّرِيقِ وَأَنْتَ ذَاهِبٌ إِلَى مَكَّةَ يُقَالُ لَهُ فَارِعٌ فَنَظَرَ إِلَيْهِ أَبُو الْحَسَنِ ثُمَّ قَالَ بَانِي فَارِعٍ وَهَادِمُهُ يُقَطَّعُ إِرْباً إِرْباً فَلَمْ نَدْرِ مَا مَعْنَى ذَلِكَ فَلَمَّا وَلَّى وَافَى هَارُونُ وَنَزَلَ بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ صَعِدَ جَعْفَرُ بْنُ يَحْيَى ذَلِكَ الْجَبَلَ وَأَمَرَ أَنْ يُبْنَى لَهُ ثَمَّ مَجْلِسٌ فَلَمَّا رَجَعَ مِنْ مَكَّةَ صَعِدَ إِلَيْهِ فَأَمَرَ بِهَدْمِهِ فَلَمَّا انْصَرَفَ إِلَى الْعِرَاقِ قُطِّعَ إِرْباً إِرْباً))([8]) ومن دلالات كلمته (عليه السلام) (باني فارع...)، أن الإمام (عليه السلام) أراد القول: إنني أنا الإمام وهؤلاء هم الظلمة؛ لأنني أنا الذي أكشف لكم المغيبات، وأنا الذي أكشف لكم مصير هؤلاء، فاتبعوا من نصبه الله للناس إماماً، ولا تتبعوا الحكام الجائرين، كما أنه صلوات الله عليه كشف بذلك عن بعض تبذير أولئك الظلمة، وتلاعبهم ببيت مال المسلمين، ولولا كلامه (عليه السلام) لما وصلنا خبر بناء يحيى لفارع ثم هدمه له، كما لم تصلنا الألوف من نظائرها، وعلى أي فإن هذا نوع من أنواع سلب الشرعية عن الجائرين لكن بأسلوب غير مباشر.
- الاستخفاف بالحكام الجائرين وإهانتهم 2- الاستخفاف بالحكام الجائرين والتحقير لهم والتنقيص منهم، وهذا مسلك عام في حياة المعصومين (عليهم السلام) والعلماء والصالحين منا، فإنهم لا يكتفون بسلب الشرعية عنهم وحسب، بل كانوا يستحقرون الظلمة وأعوانهم. ولنذكر شاهداً واحداً من حياة الإمام الرضا (عليه السلام) على ذلك: فعندما نصب الإمام الرضا (عليه السلام) ظاهرياً ولياً للعهد، قام الإمام (عليه السلام) بالاستخفاف بالظالم وأعوانه، حتى أن الفضل بن سهل ذو الرياستين والذي كان هو الحاكم حقيقة، وكان هو العقل المدبر لحكومة المأمون العباسي، جاء يوماً الى الإمام الرضا، وكان الإمام مشغولاً بشيء ما، فلم يعبأ به ولم يلتفت إليه، وما ذلك إلا للاستخفاف بالجائر وتحقيره وتنقيصه، بل إن الإمام لم يأذن له بالجلوس!، وفي ذلك أكبر الاستخفاف بطاغية، مثل الفضل بن سهل، بعد ذلك رفع الإمام رأسه وسأله: ما حاجتك؟ فقال الفضل بن سهل: إن المأمون وصلني بصلة كذا وكذا، وأخرج كتاباً كبيراً فيه تفصيل ما أعطاه المأمون من دور وبساتين وأموال وغير ذلك، ثم قال للإمام: (وأنت أولى بأن تعطينا ـ باعتبارك ولياً للعهد ـ مثل ما أعطى أمير المؤمنين)!!. فقال له الإمام: (يا فضل، لك علينا هذا ما اتقيت الله عز وجل..)، وهذه إهانة كبيرة له ولجميع الطواغيت؛ لأن الطواغيت يرفضون أشد الرفض، أن يقال لهم: اتقوا الله ويعتبرونها إهانة بالغة، وقد قال الله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ)([9]) نعم أحياناً يقتضي الأمر كتم السر والتقية، ومن ذلك ما ورد من أن الإمام الرضا (عليه السلام)، في زمن هارون اللارشيد، ذهب الى السوق فاشترى ديكاً وكلباً وكبشاً، فوصل الخبر على الفور إلى الحاكم الجائر لشدة الرقابة التي وضعها على الإمام، فقال: أمنت جانبه، فإن الإمام (عليه السلام) أراد أن يوصل رسالة، وهي أنه لم يكن مشغولاً بالمواجهة السياسية، وهي نفس الرسالة التي أراد الإمام أن يوصلها الى الحاكم الجائر؛ لأن الكلب يؤتى به لحراسة الماشية أو المزرعة، والديك يشترى بهدف الاستيقاظ للصلاة فجراً، فهو كناية عن الانشغال بالعبادة، والكبش قد يكون كناية عن الانشغال بالضيافة أو كناية عن الانشغال بالتربية، ((وبإسناد عن علي بن جعفر عن أبي الحسن الطيب، قال لما توفي أبو الحسن موسى (عليه السلام) دخل أبو الحسن الرضا (عليه السلام) إلى السوق، فاشترى كبشاً وكلباً وديكاً، فلما كتب صاحب الخير بذلك إلى هارون، قال قد أمنا جانبه، وكتب الزبيري أن علي بن موسى قد فتح بابه، ودعا إلى نفسه، فقال هارون واعجبا إن علياً بن موسى، قد اشترى كلباً وكبشاً وديكاً ويكتب فيه ما يكتب))([10]) والظاهر، إن ذلك كله كان تقية من الإمام لكي يخفي ما يُعِد له للمستقبل، أو حتى ما كان يفعله في الحاضر، فإن التقية من الوقاية، وهي وقاية لواقع موجود، وليس وقاية للاشيُ. فتأمل
- عدم إعذار الظالم في ظلمه 3- إن من أهم الأمور، أن لا يعطى الشخصُ الظالمَ الحقَّ، وأن لا يعذره في ظلمه، بل وأن يستخف به، قال الإمام (عليه السلام): ((مَنْ عَذَرَ ظَالِماً بِظُلْمِهِ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَنْ يَظْلِمُهُ فَإِنْ دَعَا لَمْ يَسْتَجِبْ لَهُ وَ لَمْ يَأْجُرْهُ اللَّهُ عَلَى ظُلَامَتِهِ))([11]) وهذا هو الاثر الوضعي لمن يقوم بذلك. ويكفي ذلك رادعاً للبعض الذي يبرر للظلمة والحكام الجائرين قوانينهم وأحكامهم التي فرضوها على الناس ظلماُ وعدواناُ، ولنضرب على ذلك بعض الأمثلة بإيجاز: - أن يعذر الظالم في جعله للحدود والجمارك. - أن يعذر الظالم في أخذه المكوس والضرائب. - أن يعذره في سجن معارضيه ومنتقديه، ولو بتعليل أنه لأنكم تركتم التقية لذا كان حقكم أن تسجنوا!! فإنهم لو تركوها اجتهاداً أو تقليداً فهم معذورون أو مصيبون، والظالم آثم بكل المقاييس، ولو تركوها في غير موردها - ولو تقصيراً - فحسابهم على ربهم، لكن لا يصح إعذار الظالم لأنه ظلمهم لمجرد أنهم نهوه عن المنكر فتدبر. - أن يعذره في إقرار مختلف القوانين التي لم ينزل الله بها من سلطان. - أن يعذره في مصادر الأموال وسحق الحقوق بألف عذر وعذر. وإلى غير ذلك
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين ............................................. ([1]) البقرة 124 ([2]) الموافق 11 ذي القعدة ([3]) البقرة 155. ([4]) كما دلت على ذلك روايات عديدة جاء بعضها في الكافي الشريف. ([5]) الانشقاق 6 . ([6]) أي إن ابتلاءه بكلمات فإتمامه إياها هو السبب أي الداعي ثبوتاً لجعله إماماً. ([7]) التهذيب ج4 ص220 ووسائل الشيعة ج8 ص478. ([8]) الكافي الشريف ج1 ص488. ([9]) البقرة 206 ([10]) كشف الغمة ج2 ص315. ([11]) الكافي الشريف ج2 ص334 ............................................. من دروس سماحة آية الله السيد مرتضى الحسيني الشيرازي، في التفسير والتدبر، المحاضرة (190)، ألقيت في مدينة النجف الأشرف، في يوم الأربعاء 7/ ذو القعدة / 1435هـ تحرير: موقع الإمام الشيرازي 18/ذو القعدة/1435 |