موقع الإمام الشيرازي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين،
ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى
أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين،
واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين،
ولاحول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم
يقول تعالى: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا
تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) ([1])
ويقول في آية اخرى: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ
صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا
عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ
وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)
([2])
على ضوء هذه الآية الكريمة سنشير الى مجموعة من الحقائق حول مفردة العدل
والظلم والاعتداء. لكن قبل الدخول في ذلك نشير الى أن كلمة: (شَنَآَنُ)
تعني البغض، أما مفردة (لا يجرمنكم) ففيها ثلاث احتمالات متقاربة مترابطة:
1) (لا يجرمنكم) أي لا يحملنّكم، وهو قول ابن عباس، وتبعه الكسائي والزجاج،
فيكون المعنى: لا يحملنّكم بغضُ قوم على أن لا تعدلوا معهم فتظلموهم؛ لأن
الإنسان كثيراً ما يحمله بغضه على ان يظلم الآخرين.
فالآيتان السالفتان تشيران الى أن ظلم الآخرين لكم، لا ينبغي ان يحملكم على
ان تظلموهم...
2) لا يكسبنّكم – وهو قول الفراء.
3) لا يحقنّ لكم – وهو قول الاخفش وجماعة من البصريين. ([3])
والملفت أن الآية تقول: (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) فلماذا لا
يكون العدل هو التقوى بل اقرب اليه فقط!! قد نجيب على ذلك لا حقا ان شاء
الله تعالى.
حقائق حول العدل
هناك مجموعة من الحقائق حول مفردة العدل التي وردت في الآية الشريفة
نذكر منها:
العدل من المستقلات العقلية
1) إن العدل من المستقلات العقلية، أي إن حسنَهُ ذاتي، وهو مما يدركه العقل
على مسلك، أو مما يحكم به العقل على المسلك المنصور، وكذلك الظلم فإن قبحه
ذاتي؛ إذ لا يمكن التفكيك بين الظلم والقبح، كما أن حرمة الظلم ذاتية([4])،
كوجوب العدل فهو ذاتي أيضاً.
العدل من مقاصد الشريعة
2) إن العدل من مقاصد الشريعة، بل هو من أهمها، بل هو من المقااصد الأولية
للشريعة ؛ لأن مقاصدها بين أولية وثانوية وثالثية ورابعية.. الخ؛ إذ إن
سُلَّم القِيَم الشرعية، لهو على درجات مختلفة في بحث ليس هاهنا محله، وهو
يحتاج الى مزيد تثبت؛ لأنه محل مزال الأقدام ـ والعياذ بالله تعالى ـ
فبالعدل قامت السماوات والأرض، حتى إان عالم التكوين وعالم التشريع بنيا
عليه، ولذا كان من أصول ديننا الخمسة خلافاً لغيرنا ممن لايرى ذلك. فقد زعم
غيرنا: إن الله يمكن أن يضع المطيع المحسن في النار، ويدخل العاصي المسيء
الى الجنة!! وهو خطأ فاحش غريب: إن ينسبوا الظلم الى ساحته المقدسة ـ
وحاشاه تعالى ـ فالعدل من أسمى أهداف الشريعة وغاياتها ومقاصدها.
لا يزاحم العدلَ شيءٌ
3) هناك غايات أو أهداف يمكن أن تزاح وتزحزح بالتزاحم، إلا أن العدل مما لا
يتزحزح ولا يزاح؛ فإنه حسن وواجب على كل حال، فالعدل في باب التزاحم من
القمم؛ لأن ذاتيه الحُسن وحُسنه ذاتيٌ، فلا يمكن أن يطيح به شيء البتة.
العدل الشخصي والنوعي
4) العدل تارة يكون شخصياً، وأخرى يكون نوعياً، ومثال العدل الشخصي العدل
مع الزوجة أو الجار أو الابن أو الصديق أو حتى العدو، ومثال العدل النوعي،
أن يعدل مع رعيته أو أمته أو عشيرته أو حزبه.
الظلم الشخصي والنوعي
5) كما أن الظلم ينقسم الى القسمين السابقين، فمثال الظلم الشخصي: أن يظلم
زوجته أو جاره أو ابنه أو صاحبه أو حتى عدوه، ولا شك أن كل ذلك قبيح وحرام
عقلاً وشرعا، ومثال الظلم النوعي: أن يظلم أمة أو شعبا أو يظلم الحوزة
العلمية، وهذا الظلم من أقبح أنواع الظلم، كما أنه أشد حرمة من الظلم
الشخصي، لا لإتساع دائرته فحسب، بل لأنه ذاتاً اشد قبحا من ذلك القبح
الشخصي.
توضيح ذلك: لو فرضنا أن الحوزة العلمية متألفة من عشرة علماء، فإن ظلمهم
أشد وأقبح مما لو ظلم شخص واحد من غير الحوزة، لا من جهة الجانب الكمي فقط،
بل لدخالة الجانب الكيفي أيضاً؛ لأن له دخلاً في مثل هذه المعادلة، إضافة
الجانب الكمي، إضافة الى أن الحالة الرمزية لها كل القيمة عند العقلاء وعند
الشارع الأقدس.
ظلم الحوزات العلمية من أخطر أنواع الظلم
إن الحوزات العلمية من أهم المراكز الكبرى التي تعرضت للظلم على مر
التاريخ، وما ذلك، إلا لأنها إجمالاً، رمز التقوى، كما أنها رمز الاستقلال
والعلم والعمل الصالح، كما أنها من أهم أسرار استقرار البلاد، والفضيلة
وازدهارها، وهي من أهم أسرار نزول البركات على الناس؛ لأن العالم الرباني
به ترحم العباد والبلاد، والحوزات العلمية تحتضن الكثير من العلماء
والمراجع والطلاب الربانيين الأولياء حقاً وصدقاً، فلو ظُلموا وأوذوا،
لعمَّ البلاء الجميع، وليس الظالم فقط. وإذا كان الله تعالى يرحم بالمؤمن
الواحد أو الرضيع أمّةً من الناس، فما بالك بالمؤمن العالم؟ وقد جاء في
الكافي الشريف: ((عَنْ أَبِي الْحَسَنِ (عليه السلام) قَالَ إِنَّ لِلَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مُنَادِياً يُنَادِي مَهْلًا
مَهْلًا عِبَادَ اللَّهِ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ فَلَوْ لَا بَهَائِمُ
رُتَّعٌ وَصِبْيَةٌ رُضَّعٌ وَشُيُوخٌ رُكَّعٌ لَصُبَّ عَلَيْكُمُ
الْعَذَابُ صَبّاً تُرَضُّونَ بِهِ رَضّاً))([5])
يقول الامام الكاظم (عليه السلام): "من عامل رعيته بالظلم أزال الله ملكه".
وهذا يشمل كل ظالم، في أي بلد كان، لأن الإمام (عليه السلام) يعطي قاعدة
عامة تنطبق على كل المصاديق. ثم يقول الإمام (عليه السلام): "وعجّل بواره
وهلكته". والبوار يعني الهلاك، وهناك فارق ظريف بينه وبين الهلكة، ولكن حسب
الظاهر، فإن العطف عطف تفسيري.
فالظلم قبيح وعاقبته سيئة على أي شخص، سواء أكان بقالاً أو عطاراً أو
طالباً أو غير ذلك، فما بالك لو كان عالماً ربانياً!! ويقول أمير المؤمنين
(عليه السلام): "الظلم يزل القدم". فقد يكون الإنسان سائراً في طريق الله،
إلا إن ظلمه لشخص ما كالزوجة أو الصديق، يمكن أن يزل قدمه، فيهوي في نار
جهنم - والعياذ بالله – ((ويسلب النعم، ويهلك الأمم)). وقد يتصور الإنسان
عندما يظلم أحدهم، أن هذا الظلم بسيط، فيحسبه هيناً، وهو عند الله عظيم!!
وعليه: فإذا أراد الإنسان حسن العاقبة، فعليه أن يتجنب الظلم، ولو كان
بسيطاً، بل ولو كان ظلماً للحيوان، فإنه أيضاً حرام. فالظلم مما يزل القدم
ويزيل النعم ويهلك الأمم، فقد تهلك أمة كاملة بظلم شخص، وسكوتهم عن ذلك،
والحاصل: إن الحاكم الجائر لو سكت عنه الناس، من العلماء والأساتذة
والأطباء والمحامين والعشائر والجامعات وغير ذلك، فإن الأمة ستهلك بأكملها
ويعمهم البلاء جميعاً؛ لأنهم سكتوا عن ظلم الظالم، ولم يتحركوا باتجاه منعه
والأخذ بيده. ثم إن الظلم وإن لم تُحِق عواقبه السيئة بالساكت عاجلاً، لكنه
سيبتلى بها عاجلاً حتماً.
التعامل الارهابي والاستدراجي مع الحوزة
لقد تعرضت الحوزات العلمية، على مر التاريخ وستبقى في ضمن معادلة
الامتحان، الى سلسلة من التهديدات والمخاطر الكبيرة، ونشير في هذا الموجز
الى اثنتين منها بإيجاز:
1) الخطر الأول: هو التعامل الإرهابي مع الحوزات العلمية المباركة والعلماء
والطلاب والمحققين والباحثين.
2) الخطر الثاني: الاستدراج الى أدوار هامشية ثانوية، ليست هي الأساس في
وظائف رجل دين، بما هو رجل دين، فكيف لو كان الاستدراج الى وظيفة تضاد
وظيفته الأساسية!!
استدراج رجال الحوزة الى ادوار هامشية
نبدأ الحديث عن الخطر الثاني، ثم نعرّج الى الحديث عن الخطر الأول،
إن شاء الله، فإن الأخطار التي كانت ولا تزال وستبقى: استدراج رجال الدين
الى أدوار هامشية، وأحيانا مضادة للوظائف الرئيسة لهم، ومن تلك الأخطار:
دخول رجل الدين في السياسة بغية تقلّد هذا المنصب أو ذاك، مع أن السياسة من
مزال الأقدام، وقلَّ من يسلم فيها، وليس معنى ذلك، إن جميع من دخلوا فيها
انحرفوا أو إن الدخول فيها حرام، كلا، إذ لدينا أمثلة صالحة دخلت في
السياسة ولم تنحرف، بل كانت مثال الاستقامة والشهامة أمثال علي بن يقطين
وغيره، لكن ما أقل هؤلاء!! وفي الرواية: ((صاحب السلطان كراكب الأسد،
يُغبَط بموقِعِهِ، وهو أعلمُ بموضِعِهِ))([6]). فإن الأسد في أية لحظة قد
يرمي به ويفترسه، وهو يدرك هذا الخطر جيداً، إلا أن الناس يتصورونه في موقع
القوة والعظمة. وحال السياسي كحال القاضي، حيث إن منصبه خطير الى أبعد
الحدود، مع أنه غير محرم على أهله، بل هو واجب كفائياً، إن توقف إحقاق الحق
وإبطال الباطل على الدخول في السياسة، وبذلك نحن لا نقول بحرمة الدخول في
السياسة أو نمنع منها مطلقا، بل نقول إن الداخل فيها على خطر عظيم كما في
القاضي. وما ذلك إلا لأن السلطة والرياسة مغرية، وهي من أسرع الطرق إيصالاً
الى جهنم، والعياذ بالله تعالى، والإنسان من طبعه الطغيان عندما يحصل على
الرياسة والدنيا، (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآَهُ
اسْتَغْنَى)([7]). فبمجرد أن يستغني بعلم أو بمال أو بسلطة، يتمادى ويطغى،
فيحتقر الآخرين ويظلمهم إلا المتقون، وقليل ما هم.
الحذر الشديد عند الدخول في عالم السياسة
نعم إذا شخّص رجل الدين المؤهل للتشخيص أو شخّص له مرجع الدين، إن
من وظيفته الدخول في السياسة، بعد تحقق كافة الشروط الموضوعية، فله ذلك إلا
أن عليه أن يتعامل معها بكل حذر؛ لأن (السياسة) كالعقرب التي يمكن أن تلدغه
في كل آن، أو هي كالشخص الموبوء إذ يُجعل في حجر صحي، وعندما ياتيه من يقدم
له الطعام يأتيه بحذر شديد، ويتعامل معه بطريقة خاصة، فيتكمم ويلبس ملابس
خاصة، إذ إنه وإن كان من الصحيح أن وظيفته الدخول الى غرفة المريض وتقديم
الطعام له، ولكن عليه أن يقوم بذلك بكل حذر وتحفظ، وإلا فإنه إذا غفل للحظة
واحدة، فقد تصيبه العدوى فيلحق بالمريض في الحجر الصحي!! والحاصل: السياسة
هي من المخاطر التي تهدد رجال الدين، وقد أقبلت عليهم في العراق، وفي
إيران، وفي الخليج وغير ذلك، حتى أصبحوا عملة صعبة!! فهل ذلك شرٌ أم خير؟!!
الله العالم، لكن الامتحان صعب جداً، و((أَخُوكَ دِينُكَ فَاحْتَطْ
لِدِينِكَ بِمَا شِئْتَ))([8]).
مخطط شاه إيران لابتلاع الحوزة العلمية
وكما سبق، فإن من الأخطار التي تهدد الحوزات العلمية الاستدراج الى
إدوار هامشية أو أدوار مضادة لأدوارهم الدينية، ولنستشهد على ذلك بمثال
وقصة فيها عبرة كبيرة:
شاه إيران حاول القضاء على الحوزة العلمية في ايران، بكل السبل من سجن
للعلماء والطلاب وتهجير ونفي وغير ذلك، لكنه لم يفلح في كل محاولاته،
والحوزة العلمية ولله الحمد عصية على محاولات الظالمين على مر التاريخ،
لأنها محفوظة بحفظ أمير المؤمنين وسائر الأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين).
بعد ذلك حاول الشاه استدراج علماء الحوزة بطريقة ماكرة، وقد نقل لي أحد
المراجع المشهورين في قم المقدسة إحدى أخطر تلك المحاولات فقال: في زمان
البهلوي حاول أن يستدرج الحوزة العلمية بطريقة أخرى، بعد أن باءت محاولاته
بالفشل، باستعمال الظلم والتعسف والإكراه، فجاء من مدخل القوة الناعمة، بدل
القوة الخشنة، أي عبر مزيج من الإغراء والإيهام بالوظيفة الشرعية، فجاءت
وفوده من أعوانه، من وعاظ السلاطين الى الحوزة العلمية في قم المقدسة،
والتقوا بالمجتهدين وبمن قارب الاجتهاد وقالوا لهم: إن الشاه فكر جيداً
ووصل الى أن علماء الدين هم من يمثل الرسالة المحمدية الأصيلة، والقضاة
الرسميون عندنا غير جديرين بمهنة القضاء الشرعي الصحيح، لأنهم لم يحصلوا
على العلم الكافي، في حين إنكم مجتهدون عدول، فأنتم الأجدر بهذه الوظيفة!
ثم كان الإغراء، أن كل واحد منهم سوف نعطيه راتباً قدره 300 توماناً ([9]).
وهو مبلغ كبير جداً، في ذلك الزمن، خصوصاً إذا علمنا أن رجل الدين أيضاً
بشر، قد تغريه المغريات، وقد يخضع أمام الضغوط، كضغط الزوجة والأولاد
والحياة ومتطلباتها، إضافة الى الرياسة التي يحصل عليها، حيث إن وظيفة
القضاء من المناصب السيادية، بالمعنى الأعم، إضافة الى الإيهام إنها وظيفة
شرعية لا يمكن أن يقوم بها إلا رجل الدين خصوصاً على مذهب أهل البيت عليهم
السلام. لكن الحقيقة وراء ذلك، كانت استدراج رجال الدين لينظموا الى خانة
الظلمة، وأعوان الظلمة، ويكونوا تحت راية الضلال التي نهوا عن الإنضواء
تحتها، مهما كانت الظروف، يقول الإمام الكاظم (عليه السلام): "يا زياد لإن
أسقط من شاهق، فأتقطع قطعة قطعة، أحب إليّ من أن أتولى لهم عملاً أو أن أطأ
لهم بساطاً". فإذا كانت السلطة ظالمة، فلا يحق الدخول فيها، أو تولي
أعمالها، إلا إذا كانت الوظيفة بتشخيص مرجع التقليد أو بتشخيص شورى مرجع
التقليد، على راي السيد الوالد. المهم إن هذا المرجع يقول: وبهذه الخطة
الشيطانية حصلوا على الموافقه المبدئية من (300) شخص من طلاب ورجالات
الحوزة العلمية لكي يصبحوا قضاة، وهذا العدد كبير حقاً، لأن المجتهدين عادة
قلة؛ إذ الوصول الى مرتبة الاجتهاد أمر في غاية الصعوبة. فيقول (دام ظله):
فكرت ملياً في الأمر، فوجدت إن المصيبة كبيرة، والخطة خطة معاوية، فذهبت
الى السيد الگلپايگاني والسيد شريعتمداري والسيد المرعشي النجفي، وتداولت
معهم هذا الخطر الداهم، وبعد التفكير والتروي، تقرر أن اُصدر حكماً شرعية،
ويعضدني فيه المراجع الثلاثة بالتأييد والنصرة، فأكون في الواجهة، في حين
إنهم يسندونني ويؤيدونني جميعاً، وكان الحكم كالآتي: "يحرم على رجل الدين
أن ينتمي الى أي سلك أو أية وظيفة من وظائف الدولة"، وهو حكم شرعي نافذ على
الجميع، وقد أثار موجة وضجة كبرى، وهاجمني وعاظ السلاطين، كما هددني
السافاك، لكن المراجع الثلاثة الكرام، ساندوا وأيدوا ودافعوا وقالوا: هذا
حكم حاكم شرعي، وهو نافذ على الكل، فأسقط ما في يد الشاه، فهدد بالسافاك
وارعدوا وازبدوا، لكنهم لم يفلحوا، ولله الحمد، إذ: (إِنْ تَنصُرُوا
اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ).
2- التعامل الإرهابي مع الحوزات العلمية
من أبرز الأمثلة على ذلك، المجرم صدام لعنه الله، فكم عذّب وقتل من
المؤمنين، وخاصة من بيوت العلماء الكرام، فكم قتل وهجر من آل بحر العلوم
الكرام! وكم أعدم من آل الحكيم الكرام! وكم قتل أو سجن من آل الصدر الكرام!
وهكذا بقية بيوتات العلماء المعروفة امثال آل القزويني الكرام أو آل
الشيرازي الكرام أو آل كاشف الغطاء الكرام أو غيرهم. فكم من الناس عذبهم أو
قتلهم بإلقائهم في أحواض التيزاب؟ وكم عذبهم أو قتلهم بالقار المذاب، حتى
أنه نقل لي أحد الأصدقاء العلماء، بعد خروجه من السجن: إن لجلاوزة صدام
طريقتين في التعذيب بالقار: الطريقة الأولى: إلقاء الشخص في القار، وهو في
أوج حرارته، حتى يموت بأبشع صورة. والطريقة الثانية: كانوا يصبون القار على
بعض بدنه، وأحياناً كانوا يبردونه الى درجه معينة، ثم ينزلون بعض جسم
السجين الى ذلك الحوض ليتعذب به، وصديقنا هذا وضعوا عليه القار بهذه
الطريقة، على قسم من بدنه، ثم أطلقوا سراحه، فبقي في المستشفى ستة اشهر،
بقي يعاني الى أن قضى شهيداً، رحمة الله عليه. لكن أين صدام الآن، بعد أن
مات ذليلا محتقرا، اليس في العذاب الرهيب ثم مصيره الى قعر جهنم، في حين أن
الحوزة العلمية تزداد علوا وسموا ورفعة!!!
اعتقال الطلبة الكرام في حوزة النجف الاشرف
وفي الأونة الأخيرة أُصدر حكمٌ جائرٌ ظالمٌ باعتقال مجموعة كبيرة من
الطلاب الكرام من القومية الباكستانية مع أنهم هم ضيوف أمير المؤمنين (عليه
السلام)، ومع أن اعتقال أي مؤمن وترويعه وإهانته وإيذائه، هو من المعاصي
الكبيرة، فكيف باعتقال رجل دين محترم؟! وإخافة زوجته وأطفاله وترويعهم؟
وكيف باعتقال المئات منهم بلا ذنب ارتكبوه؟ وفي بلد أمير المؤمنين (عليه
السلام)، إن ذلك يشكل اعتداءاً على الأمة كلها، وهو اعتداء على حريم
الإسلام؛ لأن الحوزة تجسد الإسلام والإنسانية جمعاء. وتكفي الرواية
التالية، عبرة لمن يعتدي على الآخرين ويظلمهم: يقول الإمام (عليه السلام)
((... من مات غير تائب، زفرت جهنم في وجهه ثلاث زفرات، فأولها لا تبقى دمعة
إلا خرجت من عينيه، والزفرة الثانية لا يبقى دم إلا خرج من منخريه، والزفرة
الثالثة لا يبقى قيح الا خرج من فمه، فرحم الله من تاب وارضى الخصماء، فمن
فعل فانا كفيله الى الجنة)).
إن الإنسان يمكن أن يظلم أحياناً بإغراء من الشيطان وتسويلات النفس، لكن
عليه أن يتوب ويستغفر، ثم عليه أن يعتذر علناً من المظلوم، ثم عليه أن يعوض
من أساء إليه، ويرضيه وأهله ويفرحهم كما أحزنهم وآذاهم.
قصة بني جذيمة وما فعله بهم خالد وموقف
الرسول (صلى الله عليه وآله) القدوة
روي أنه بعث النبي (صلى الله عليه وآله) خالداً الى بني جذيمة من
بني المصطلق، وكانت بينهم وبين خالد ترة (عداوة)، في قصة معروفة، فقتل بعضم
وأسر البعض الآخر ظلماً، فوصل الخبر الى الرسول (صلى الله عليه وآله)، فصعد
على المنبر، وقال: ((اللهم إني أبرأ إليك مما فعله خالد)). ثلاث مرات، ثم
أرسل إليهم أمير المؤمنين (عليه السلام) بكمية كبيرة من الذهب والفضة، فدفع
إليهم: أولاً: دية من قتل منهم باجمعهم حتى الجنين. وثانياً: عوّضهم عن
أموالهم بالمال حتى دفع لهم قيمة ميلغة كلابهم، وحبلة رعاتهم. وثالثاً: دفع
لهم مبلغا لروعة نسائهم وأطفالهم. ورابعاً: دفع لهم مبلغا لما يعلمون وما
لا يعلمون، إذ لعلهم نسوا شيئا. وخامساً: دفع لهم مبلغا ليرضوا عن رسول
الله صلى الله عليه وآله حتى رضوا. فقالوا سبحان الله ما أكثر هذا؟!! فقد
كان أكثر من حقنا بكثير، ورجع الأمير (عليه السلام) وأخبر النبي (صلى الله
عليه وآله)، فسر بذلك أيما سرور، ودعا لأمير المؤمنين (عليه السلام)، حتى
قال (صلى الله عليه وآله)، كما في رواية الأمالي:
((أرضيتني رضي الله عنك يا علي، أنت هادي أمتي إلا أن السعيد كل السعيد من
أحبك، وأخذ بطريقتك، ألا إن الشقي كل الشقي من خالفك، ورغب من طريقك الى
يوم القيامة)) ([10]). وهذا هو نص إحدى الروايات، فقد روى في الخصال:
((بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ
إِلَى حَيٍّ، يُقَالُ لَهُمْ بَنُو الْمُصْطَلِقِ، مِنْ بَنِي جُذَيْمَةَ،
وَكَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ بَنِي مَخْزُومٍ إِحْنَةٌ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا وَرَدَ عَلَيْهِمْ، كَانُوا قَدْ أَطَاعُوا
رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله)، وَأَخَذُوا مِنْهُ كِتَاباً،
فَلَمَّا وَرَدَ عَلَيْهِمْ، خَالِدٌ أَمَرَ مُنَادِياً، فَنَادَى
بِالصَّلَاةِ، فَصَلَّى وَصَلَّوْا، فَلَمَّا كَانَ صَلَاةُ الْفَجْرِ،
أَمَرَ مُنَادِيَهُ، فَنَادَى فَصَلَّى وَصَلَّوْا، ثُمَّ أَمَرَ الْخَيْلَ
فَشَنُّوا فِيهِمُ الْغَارَةَ، فَقَتَلَ وَأَصَابَ، فَطَلَبُوا كِتَابَهُمْ
فَوَجَدُوهُ، فَأَتَوْا بِهِ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله)،
وَحَدَّثُوهُ بِمَا صَنَعَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَاسْتَقْبَلَ (صلى
الله عليه وآله) الْقِبْلَةَ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ
إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ. قَالَ: ثُمَّ قُدِّمَ
عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) تِبْرٌ وَمَتَاعٌ، فَقَالَ
لِعَلِيٍّ (عليه السلام): يَا عَلِيُّ ائْتِ بَنِي جُذَيْمَةَ مِنْ بَنِي
الْمُصْطَلِقِ فَأَرْضِهِمْ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ، ثُمَّ رَفَعَ (صلى الله
عليه وآله) قَدَمَيْهِ، فَقَالَ: يَا عَلِيُّ اجْعَلْ قَضَاءَ أَهْلِ
الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيْكَ، فَأَتَاهُمْ عَلِيٌّ (عليه السلام)،
فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِمْ حَكَمَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ، فَلَمَّا
رَجَعَ إِلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله)، قَالَ: يَا عَلِيُّ
أَخْبِرْنِي بِمَا صَنَعْتَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَمَدْتُ
فَأَعْطَيْتُ لِكُلِّ دَمٍ دِيَةً وَلِكُلِّ جَنِينٍ غُرَّةً، وَلِكُلِّ
مَالٍ مَالًا، وَفَضَلَتْ مَعِي فَضْلَةٌ فَأَعْطَيْتُهُمْ لِمِيلَغَةِ
كِلَابِهِمْ وَحَبَلَةِ رُعَاتِهِمْ، وَفَضَلَتْ مَعِي فَضْلَةٌ،
فَأَعْطَيْتُهُمْ لِرَوْعَةِ نِسَائِهِمْ، وَفَزَعِ صِبْيَانِهِمْ،
وَفَضَلَتْ مَعِي فَضْلَةٌ فَأَعْطَيْتُهُمْ لِمَا يَعْلَمُونَ، وَلِمَا
لَا يَعْلَمُونَ، وَفَضَلَتْ مَعِي فَضْلَةٌ فَأَعْطَيْتُهُمْ لِيَرْضَوْا
عَنْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ (صلى الله عليه وآله): يَا عَلِيُّ
أَعْطَيْتَهُمْ لِيَرْضَوْا عَنِّي، رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ يَا عَلِيُّ،
إِنَّمَا أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، إِلَّا أَنَّهُ
لَا نَبِيَّ بَعْدِي)) ([11]).
فلو أن الأمة اقتدت بسيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين
(عليه السلام) خصوصا الحكام والملوك والسلاطين، فإن الأرض حينئذٍ تتبدل غير
الأرض، وسوف يتنعم الناس بالسعادة والطمأنينة والأمن والاستقرار والفلاح.
مسؤولية الناس
إن مسؤولية الناس في مواجهة الظلم أمور نذكر منها:
1- لا تعذروا الظالم بظلمه.
1- ان لا يعذروا الظالم في ظلمه أو يحاولوا أن يبرروا خطأه، كما يبرر الآن
من أن هذا أو ذاك ليست له الإقامة! ذلك إن الإقامة بدعة، ولم تكن في زمن
الرسول والأئمة سلام الله عليهم، وقد سنّها الاستعمار البريطاني، قبل حوالي
القرن من الزمن، إضافة الى الهوية والجواز والفيزا، وما أشبه؛ ثم إن الأرض
لله ولمن عمرها، و(خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً)، و(الناس
مسلطون على أموالهم وأنفسهم وحقوقهم)، وغير ذلك([12]). ولاشك أن من يسير
وراء الاستعمار وقوانينه، يخطئ الطريق يكون الاستعمار سيده ومولاه، وليس
رسول الله صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين وسائر الأئمة عليهم السلام.
ولو تنزلنا وقلنا فرضاً أنه لا باس بالإقامة، فهل يجوز عقلاً أو شرعاً أو
قانونياً، ترويع الناس الآمنين ونسائهم وأطفالهم، بهذه الطريقة الفجة
واللاإنسانية؟؟ ولماذا لا يُرسل للشخص المعني بلاغ للحضور الى المحكمة
والتحاكم إلى القضاء، وتسوّى الأمور بكامل الاحترام وحسن المعاشرة. أما
الطريقة السيئة في التعامل مع الناس كافة، ومع العلماء والمثقفين خاصة، في
أي بلد كان ذلك وفي أية دولة، فهي من أجلى مصاديق الظلم، وهي مما ينتقم
الله تعالى ممن يقوم به، غير بعيد. يقول الإمام الصادق (عليه السلام):
((مَنْ عَذَرَ ظَالِماً بِظُلْمِهِ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَنْ
يَظْلِمُهُ فَإِنْ دَعَا لَمْ يَسْتَجِبْ لَهُ وَ لَمْ يَأْجُرْهُ اللَّهُ
عَلَى ظُلَامَتِهِ)) ([13])
2- انصحوا الظالم وانهوه عن المنكر واثبتوا.
2- علينا أن ننصح الظالم، ونأمره بالمعروف، وننهاه عن المنكر، في أي موقع
كان الظالم، سواء أكان في الدولة أو في العشيرة أو في الحزب أو الدائرة أو
غير ذلك، وأن نواصل الضغط كي يرتدع ويتراجع، وإلا فإن من شأن الظالم، إذا
لم يرَ ردعاً بالمستوى، إن يزداد ظلماً وعتواً وجبروتاً.
نسأل الله سبحانه وتعالى التوفيق لنا ولكم
لكي نكون جميعا ممن يحق الحق بأقواله وأفعاله، وأن يبطل الباطل بقوله وفعله
وقلمه، وممن يرتضينا لدينه، ويجعل عاقبة أمورنا خيراً،
ويعجل لوليه الأعظم الفرج
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين
الطاهرين
[1]) - المائدة 8
([2]) - المائدة : 2
([3]) - راجع التبيان للشيخ الطوسي – اول سورة المائدة.
([4]) - بمعنى اقتضائه في ذاته لأن يحكم العقل بحرمته.
([5]) الكافي الشريف ج2 ص276.
([6]) - بحار الانوار : ج72 ص 381
([7]) العلق 7
([8]) وسائل الشيعة ج27 ص167 والأمالي للطوسي ص110.
([9]) في حين ان راتب الطالب يومئذ كان تومانين فقط !!
([10]) بحار الانوار ج 9 عن امالي الطوسي
([11]) الأمالي للصدوق ص173 ومستدرك الوسائل ج18 ص366.
([12]) فصل السيد الوالد (قدس سره) الحديث عن ذلك في الفقه: السياسة
والفقه: القانون والفقه: الحقوق وفي كتاب الصياغة الجديدة لعالم الإيمان
والحرية والرفاه والسلام، كما فصله السيد العم دام ظله في (السياسة من واقع
الإسلام) وغيرها.
([13]) الكافي الشريف ج2 ص334.
* دروس في التفسير
والتدبر (187)
تاريخ القاء المحاضرة: الاربعاء – 21/ رجب/ 1435هــ
---------------------------------------------------
تحرير: موقع الإمام الشيرازي
11/شعبان/1435 |