![]() |
![]() |
ظاهرة (التبري) من المستقلات العقلية ومن الامور الفطرية |
آية الله السيد مرتضى الحسيني الشيرازي |
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين ثم الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين سيما خليفة الله في الأرضين واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين ولاحول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ) الممتحنة/4
التولي والتبري في التاسع من ربيع الأول الحديث عن التبري، تارة يكون من وجهة نظر دينية، أي: ما الذي تدل عليه الآيات أو الروايات؟ وهو بحث واسع وتدل عليه المئات بل الألوف من الآيات والرويات، لكن في هذه العجالة نطرح القضية من وجهة نظر عقلية. فنقول: إن التبري هو من المستقلات العقلية، كقبح الظلم وحسن العدل, وحسن رد الوديعة، ونظائرها، فإن التبري من الشر, أو التبري من الشرير, كـالإرهابي، مما يستقل به العقل، وذلك بعد ثبوت الموضوع، وإن هذا شر، وإن ذاك شرير. كما أن التولي للخير وللأخيار هو من المستقلات العقلية أيضاً، بل نقول: إن التولي والتبري هما فطريان، أي من الفطريات، حتى في الحيوان. قال تعالى (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا). فإننا نشهد أن الله قد غرس التولي للأم, في هذا الفصيل أو ذاك الرضيع، كما غرس التبري من ذلك العدو المهاجم لهما في نفس الحيوان كالإنسان تماماً, فالتبري إذن من الأمور الفطرية البديهية، إنما الخلاف في المصاديق، أي نتبرأ ممن؟ ذاك يتبرأ من زيد، وأنا أتبرأ من عمرو، ذاك يتبرأ من (الكذا)، وأنا أتبرأ من الظلم وهكذا، فالنقاش إنما هو في المصاديق. وإلا فإن التبري والتولي، بما هما هما، أمران فطريان.
معنى التبري: رسم الحدود الفاصلة فماذا يعني التبري؟ بتعبير موجز دقيق: التبري يعني رسم الحدود الفاصلة، فداخل الحد هو مساحة التولي وخارج الحد هو دائرة التبري, أي أن ترسم حداً بينك وبين غيرك، أما من هو هذا الغير؟ فإنه بحث آخر. إن المسلم يرسم حداً بينه وبين الغير، ويقول كما في الآية الشريفة: {إنا برآءُ منكم قد كفرنا بكم}. وهو حد, وقولنا: (لا إله إلا الله)، مركب من التولي أي نتولى الله، والتبري أي نتبرى من أي شيء آخر يُعبد من دون الله. فالتبري يعني رسم الحد سلباً في مقابل الجانب الإيجابي. ثم أن التبري أمر جرى عليه بناء العقلاء في كل الأمم. فلو لاحظنا الحدود بين الدول.. فماذا تعني؟ إن الحدود بأي معنى كانت، فهي نوع من التبري, فإن الدول الآن كلها تفرض حدودها، وذلك يعني أنها تتبرأ من غيرها: أنت مواطن فلك حقوق، أما غير المواطن فلا حقوق له، نتبرأ منه، فلا حق له أن يدخل بلدنا إلا بما يسمونه (الفيزا)، ونظائرها. التبري أمر بنى عليه العقلاء حياتهم. فإن الإنسان عندما يبني بيته ماذا يعني ذلك؟ يعني أنه يتولى أولاده وأهله, ويتبرأ من غيرهم، فلا حق للغير في أن يدخل داري أو يأخذ إحدى ممتلكاتي دون إذني, ولو فعل فإنه مجرم، إذ هذا ملكي لا حق لك في أن تأتي وتنتزعه مني بقوة، أتبرأ من فعل من يريد أن يغصب ممتلكاتي. كذلك العشائر مبنية على التولي والتبري، والأحزاب مبنية على التولي والتبري، والدول، الحضارات، الأمم، والأفراد.
التبري فطري والنقاش في اتجاهه والمصاديق التبري أمر فطري، إنما الخطأ في المصاديق، أتبرأ من ماذا؟ ذاك يتبرأ من الإسلام فهو مخطئ، وأنا أتبرأ من الكفر. فأصل التبري لا شك فيه، إنما التمصدق قد يحدث فيه كلام، وحول ذلك هناك بحث طويل نكتفي بهذا المقدار. إذن: التبري من المستقلات العقلية, وأيضاً هو من الأمور الفطرية، فلا يخافنَّ أحد من أن نطرح على الساحة، أن من فروع الدين التولي لأولياء الله والتبري من أعداء الله، إذ نقول له: هذا أمر فطري، أنت أيضاً حياتك كلها مليئة بالتولي والتبري، لكن اتجاه التولي قد يختلف، واتجاه التبري قد يختلف. فالاشتراكي له تبري وتولي، والشيوعي له أيضاً تولي وتبري، والديموقراطي أيضاً له تولي وتبري؛ إذ يتبرأ من الدكتاتورية مثلاً، وهكذا. وعليه: فإن فاتجاه التولي والتبري يختلف، لكن أصله والجامع لا كلام فيه، والكل يعتبره من البديهيات، والخلاف والنقاش كله في المصداق، وبعبارة أخرى: لا تقل لي لمَ تتبرأ، بل قل لي: ممن تتبرأ ولم؟ أما التبري فهو أمر عقلائي، فطري. وهنا نسأل: هل من الصحيح أن نتبرأ من الأول والثاني؟ هذا بحث جيد هام، وقد بنيت عليه أركان المذهب, فـ(الـغدير) لمَ كُتِب؟ لهذه الجهة, وكذلك (النص والاجتهاد) لمَ كتب؟ كتب لهذه الجهة، وكذلك (ليالي بيشاور) وغيرها، ومن قبل حوارات واحتجاجات المعصومين (عليهم السلام) المبثوثة في نهج البلاغة والاحتجاج وغيرهما. نعم فليأتوا ويتباحثوا لا مانع من ذلك، لكن لا يستشكلوا على أصل التبري، فليستشكلوا في المتبرَّأ منه، هل هو جدير بأن يُتبرأ منه أم لا؟ تعالوا لنبحث عن ذلك، ولا إشكال ابداً، فإن ساحة الحوار مفتوحة. وهذا البحث كما ذكرنا يحتاج إلى تفصيل من القول لكن هذه العجالة وهذه الإشارة تكفي الآن.
كلام صاحب الجواهر عن التاسع من ربيع الأول وبمناسبة حلول التاسع من ربيع الأول، ننقل كلام صاحب الجواهر في يوم التاسع من ربيع، ثم ننقل شطراً من رواية أحمد بن اسحاق القمي الشهيرة عن الإمام العسكري (عليه السلام). يقول صاحب الجواهر في كتاب (الطهارة)[1]، في الأغسال: وأما الغسل في التاسع من ربيع الأول، فقد حُكيَ أنه من فعل أحمد بن اسحاق القمي[2]، معللا له بأنه يوم عيد، لِما روي ما اتفق فيه من الأمر العظيم الذي يسر المؤمنين ويكيد المنافقين. ثم يقول صاحب الجواهر بعد أسطر: (وقد عثرت على خبر مُسنداً إلى النبي صلى الله عليه وآله، في فضل هذا اليوم، يوم التاسع من ربيع، وشرفه وبركته وأنه يوم سرور لهم عليهم السلام، ما يحير فيه الذهن، وهو طويل، وفيه تصريح باتفاق ذلك الأمر فيه)
فتوى أعاظم الفقهاء باستحباب الغسل فيه وعندما نأتي إلى (العروة الوثقى) بحواشيها، نجد أن صاحب العروة يقول: (من الأغسال المستحبة، الغسل في هذا اليوم)، أي يوم التاسع من ربيع الأول والفقهاء الذين لهم تعليقة على هذه العروة لم يعلق أي منهم على ذلك. أي أن في هذا اليوم، التاسع من ربيع، يستحب للإنسان أن يغتسل, الفقهاء المذكورة أسماءهم هنا كُثَّر، ومنهم: الميرزا النائيني، وأقا ضياء العراقي، والسيد أبو الحسن الأصفهاني، والشيخ عبد الكريم الحائري، وآل ياسين، وكاشف الغطاء، والسيد الحكيم، والجواهري، والفيروز آبادي، والسيد عبد الهادي الشيرازي، والسيد البروجردي، والكلبيكاني، وآخرون كُثَّر، لم يعلق أي منهم على هذا الكلام، مما يعني قبول هذا الكلام.
رواية الإمام العسكري والأمر بالتعيّد في التاسع من ربيع الأول وأما العلامة المجلسي في البحار، فينقل روايتين: إحداهما: عن كتاب الإقبال للسيد ابن طاووس، وهي في المجلد (95) من البحار، صفحة (351 الى 355)، وهو ينقلها بسنده ونصها، وثانيهما: في المجلد (31) صفحة (122 )وصاعدا . وللسيد العم بحث مطبوع، حول سند هذه الرواية وجوه وتوثيقها، فراجعوا، وسننقل الآن بعض كلام الإمام العسكري عليه السلام، حسب هذه الرواية التي ينقلها أحمد بن إسحاق. (يقول الإمام عن رسول الله صلى الله عليه وآله،... فأوحى الله إليّ جلّ من قائل: يامحمد، إني قد أمرت ملائكتي في سبع سماواتي، وشيعتك ومحبيك، أن يعيدوا في هذا اليوم الذي أهلكته فيه، وأمرتهم أن ينصبوا كرسي كرامتي حذاء البيت المعمور، ويثنوا عليَّ، ويستغفروا لشيعتك ومحبيك من ولد آدم يامحمد، وأمرت الكرام الكاتبين أن يرفعوا القلم عن الخلق كلهم، ثلاثة أيام من ذلك اليوم، ولا يكتبوا شيئاً من خطاياهم كرامة لك ولوصيك...). وهذه الرواية توضح، أن المقصود من رفع القلم، ليس أن المحرمات تتحول إلى محلّلات، كلا, وإنما لا تكتب إلى ثلاثة أيام، فإن تاب فلا تكتب، وإن لم يتب فتكتب، وذلك لعطف (ولا يكتبوا) على (يرفعوا القلم) فإن ظاهره إنه عطف تفسيري، ومن المعروف، أن الملائكة يمهلون الإنسان لو عصى الى سبع ساعات، فإذا لم يتب بعد سبع ساعات يكتبون عليه الذنب، أما إذا تاب قبل ذلك فلا يكتب عليه شيء، وأما الفائدة من ذلك، فهي أنه لو كتب عليه ثم استغفر يمحى، لكن الممحي غير الذي لم يوجد في الأصل. ومثال ذلك: لو كتبت في دفتر ثم محوت الكتابة، فإنه وإن محيت، لكن آثارها موجودة، ففيه نوع من الحزازة، إذن في الحالات العادية الى سبع ساعات لا يكتب، أما في هذا اليوم، فلمدة ثلاثة أيام الملائكة لا تكتب، أي أن الملائكة يمهلون الناس ثلاثة أيام لكي تستغفر وتتوب وإلا كتبوا أو سجّلوا. تكملة الرواية: (...يا محمد، إني قد جعلت ذلك اليوم يوم عيد لك، ولأهل بيتك، ولمن تبعهم من المؤمنين وشيعتهم، وآليت على نفسي بعزتي وجلالي وعلوّي في مكاني لأحبونّ[3] من تعيّد في ذلك اليوم محتسبا ثواب الخافقين ولأشفعنّه في أقرباءه وذوي رحمه، ولأزيدن في ماله، إن وسع على نفسه وعياله، ولأعتقن من النار، في كل حول في مثل ذلك اليوم، آلافاً من مواليكم وشيعتكم، ولأجعلن سعيهم مشكوراً، وذنبهم مغفوراً، وأعمالهم مقبولة)[4]. إذن هذا اليوم - التاسع من ربيع الأول - ينبغي أن يتخذ يوم عيد وفرح وسرور، وأن يَصِل الإنسان فيه إخوانه المؤمنين، وأن يوسع على عياله، وأن يفعل ما شوقت إليه الروايات الشريفة، وكما ذكرنا في البداية، فإن التبري فطري، وهو من المستقلات العقلية، إلا أن الطرف الآخر، له أن يبحث معنا في مصداقه واتجاهه، وهذا البحث له مجاله الواسع، وهناك بحث آخر وهو: ما هي حدود التبري وما هي كيفية التبري؟ وسنتطرق له لاحقاً بإذن الله تعالى. وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
[1] الجواهر ح5 ص 74 (ص43 طبعة أخرى) [2] وإذ ينقل الرواية عن الإمام العسكري (عليه السلام) [3] من الحبوة أي العطية, وهي تزيد على العطية بجانبها الروحاني أو العاطفي او اللطف الخاص [4] بحار الانوار ج95 ص 354 * دروس في التفسير والتدبر (173)، بتاريخ السبت – 9/ ربيع الأول/ 1435هــ مؤسسة التقى الثقافية 16/ربيع الأول/1435 |