جريمة جديدة .. وسؤال مباشر

موقع الإمام الشيرازي
الأسبوع الماضي ودع المؤمنون في مدينة (الديوانية) العراقية من عرف بـ(رجل الصبر)، بعيداً عن أضواء الإعلام، حيث وفد الى رب كريم بعد أن أذاقته الدنيا أمر مراراتها حيث قتل "المجاهدون" التكفيريون أولاده التسعة في ساعة واحدة، ليس لأن أولاده ينتمون الى حزب أو يعملون في الجيش أو الشرطة، فقط قتلوا لأنهم شيعة. رحل الصابر المحتسب عن عمر ناهز 75 عاماً، ولم يتزعزع عن إيمانه فعزاؤه بفقد أولاده التسعة الذين قتلوا أمام ناظريه الواحد بعد الآخر ورمي جثثهم بعد التمثيل بها في نهر دجلة ليتم التقاطها في الصويرة، عزاء الرجل كان بالمصيبة الأعظم على قلب كل مؤمن ومؤمنة شهادة سيد الشهداء الإمام أبي عبد الله الحسين سلام الله عليه حيث دأب (رجل الصبر) على زيارته ليتزود منه صلوات الله عليه وسلامه الإيمان والصبر والثبات.
في الوقت الذي انشغل أهل هذه المدينة المعروفة بولائها الى أهل البيت سلام الله عليهم وبما قدمته من كوكبة مجاهدة من خدمة المنبر الحسيني وآلاف الشهداء فجعت المدينة بكوكبة من شبابها (21) من سواق سيارات الحمل من أهالي الديوانية في منطقة النباعي بمحافظة صلاح الدين، كانوا قد توجهوا بسياراتهم من محافظتهم الى منطقة النباعي جنوب قضاء الدجيل لإحضار الحصى المستعمل في البناء. حيث قامت مجموعة تكفيرية (أكثر من 30 إرهابياً) في النباعي باختطافهم ثم قامت بإعدامهم بطريقة مروعة وأحرقت جثثهم بعد أن مثلوا بعدد من جثث الشهداء. بموازاة ذلك، ألقت قوات الأمن على ما تبقى من المجرمين الذين ارتكبوا جريمة النخيب حيث قتلوا (21) شاباً جلهم من أهالي كربلاء ثم مثلوا بجثثهم، وكانوا في طريقهم الى زيارة السيدة الحوراء زينب الكبرى سلام الله عليها في الشام.
وهنا تبرز أسئلة عديدة، ومعظم هذه الأسئلة المهمة تدور حول الجرائم المروعة التي ترتكب ضد الشيعة، حيث قتل عشرات الآلاف منهم في العراق، كما هو الحال في أماكن أخرى حيث لا يمر شهر حتى يسمع العالم بجريمة إرهابية ضد الشيعة في باكستان أو أفغانستان، لكن السؤال الأهم هو السؤال المباشر: من يقوم بهذه الجرائم؟ وما هي هويته الدينية أو مدرسته الفقهية؟
لا شك الذي لا جدل فيه بحسب جميع الأطراف بأن كارثة 11/سبتمبر نفذها إرهابيون سنة (وهابيون أو سلفيون جهاديون)، هم من سموا أنفسهم بذلك، وقد استكملوا عملياتهم الإجرامية في لندن ومدريد وروسيا ومصر والأردن والسعودية وإيران والصومال واليمن والجزائر والمغرب وجاكارتا والعراق. وإن الذين قتلوا السنة والشيعة في الأنبار وصلاح الدين، وقتلوا الإيزيديين والشبك والشيعة في الموصل، وقتلوا الكرد والشيعة في كردستان، وقتلوا التركمان والشيعة في كركوك، وقتلوا الشيعة والسنة والكرد في بغداد، وقتلوا الشيعة والسنة والصابئة والمسيحيين في وسط وجنوب العراق، والذين يقتلون ويهجرون الكرد والشيعة في مناطق من ديالى، كل أولئك القتلة هم من "السنة". كما أن الذين قتلوا المئات من علماء السنة في العراق هم من السنة، فقد أعلن (في 30/8/2011) رئيس الوقف السني في العراق د. أحمد عبد الغفور السامرائي خلال خطبة العيد التي أقيمت في مسجد أم القرى الذي تعرض الى هجوم إرهابي ببغداد إن "تنظيم القاعدة والتنظيمات الإرهابية قتلت الشعب العراقي وأكثر من 450 إماماً وخطيباً ومن خيرة العلماء". وبالتأكيد فإن الإرهابي الأردني الزرقاوي مثال بارز على عمق الأزمة التي يعيشها عموم "الفقه السني – التدين السني" ليس لأن الزرقاوي سفاح من طراز وحشي خاص وإنما لوجود قاعدة شعبية (في العراق وغير العراق) دعمته بالذبح والقتل أو مساعدته والتستر عليه، وأعداد المآتم التي أقيمت الى روحه الخبيثة بعد قتله تأكيد على مقبولية متسترة لفقه الزرقاوي. كما أن الرجوع الى أرشيف أحداث العراق بعد سقوط الطاغية صدام يكشف بأن ليس هناك من ندد من المصرحين السنة صراحة بقادة الإرهاب في العراق ومنهم الذباح الزرقاوي، ورغم ما كان يحمله موبايل الزرقاوي من أرقام هواتف عدد من "السياسيين العراقيين السنة" لكنهم كانوا يقولون مراراً وتكراراً: "الزرقاوي لا وجود له إنه كذبة"!. وغالباً ما يلجأ "مصرحون سنة" الى ترويج فكرة أن "الإرهابيين في العراق قد أتت بهم أميركا" لتغطية عمليات ضرب الشيعة. والسؤال: إذا كان من أرسل الإرهابيين أميركا وإسرائيل، فلماذا احتضنت المحافظات الغربية هؤلاء الإرهابيين فوفرت لهم المأوى والمأكل والمال؟! ولماذا وفرت لهم الأمان والاستقرار، وهناك من زوج بناتهم لأمراء القاعدة الذين جاؤا من ليبيا والسعودية والأردن واليمن وسوريا والجزائر وتونس وغيرها؟! ولماذا وفرت تلك المحافظات لهؤلاء الإرهابيين أسلحة القتل وسيوف الذبح وسيارات التفجير وكانوا لهم الدليل الأمين للوصول الى شوارع بغداد ومحافظات أخرى لتفجير أجسادهم النتنة وسط الأبرياء؟!. كما أن مخيمات (عين الحلوة) في لبنان شاهد آخر على خصوصية الإرهاب المذهبية حيث كانت تستجلب الإرهابيين من شمال إفريقيا ودول أوربية وتستطلع آراؤهم من خلال استمارة طلب معلومات تتضمن فيما تتضمن سؤالاً: هل ترغب في قتال الأميركان أم الشيعة في العراق"؟ وكانت أكثر من 90% من الإجابات "قتال الشيعة"!، وكل أولئك "المجاهدين" من "السنة"!.
إن من المهم تحديد خصوصية الإرهاب الفقهية والاجتماعية والثقافية، فإن ظاهرة "الإرهاب السني" لها أساس فقهي واضح وصريح. يقول الباحث حسن محسن رمضان مؤلف كتاب (تشريح الفكر السلفي المتطرف): "أساس مشكلة التطرف هو أن مصادر تشريعه وأساسيات فقهه موجودة أصلاً في كتابات وآراء ابن تيمية وتلميذه ابن القيم والشيخ محمد بن عبد الوهاب ضمن مصادر أخرى، وهذه الكتابات والآراء مطبوعة ومنشورة ومتوفرة في كل الدول الإسلامية وغير الإسلامية بدون أي قيد أو شرط أو حتى محاولة تفنيد أو مناقشة، وهي تُدّرس وتُحفظ على أنها المنهج السلفي الذي كان عليه النبي (صلى الله عليه وآله) وصحابته والسلف الصالح في جامعات بعض الدول ومدارسها ومساجدها ومراكز الدعوة والإرشاد، ويتم تلقين الأطفال والنشئ على أن هذه الآراء والمصادر تحتوي على منهج الطائفة المنصورة، الفرقة الناجية، أهل السنة والجماعة، أهل الحديث، بل الحقيقة هي أنه يكفي أي سلفي أن يحتج برأي ابن تيمية أو محمد بن عبد الوهاب حتى يملك الدليل على ما يفعل أو يقول، ولتنظروا فقط الى محتوى رسائل وكتابات التوجه السلفي المتطرف حتى تملكوا الدليل على هذا".
وحتى لا يفهم البعض بأن التطرف بقراءة الآخر المذهبي يتموضع في مساحة مجتمعية سنية محدودة، يقول المفكر السعودي محمد بن علي المحمود: "الموضوع كبير وشائك. لكن، كي ندرك حجم هذا الأثر الذي تمارسه التقليدية على أتباعها، لا بد أن نتذكر أن العنصري الذي ترحّم (بصيغة صريحة، قال: رحمه الله) قبل بضعة أشهر، وفي برنامجه على الهواء مباشرة، على أكبر طاغية منتهك لحقوق الإنسان في التاريخ العربي: صدام حسين. وعندما أحس بأن مقدم البرنامج قد ذُهل، وأن المشاهد كذلك، قال مُبرراً: نترحم عليه، لأن من مذهب أهل السنة والجماعة الترحم على من مات من المسلمين. والسؤال هنا، هل كان يجرؤ على الترحم على بعض المختلفين معه في المذهب من المسلمين، ممن لم يرتكبوا 1% مما ارتكبه صدام من جرائم بحق الإنسان؟!، بل هل يستطيع الدعاء لمن هم أقل جرائم من صدام بما لا يقاس؟ أليس وراء الترحم على صدام نفس عنصري مذهبي واضح؟!. لن نختلف كثيراً على الجواب، لأنه كان واضحاً للعيان، ولكن تم التغاضي عنه لأنه يخص ذلك الإنسان، وليس نحن!". لذلك، فليس غريباً أن يترحم سلفي كويتي على المدان علي الكيمياوي (حاكم الكويت إبان الاحتلال) فقط لأنه سني بحجة أنه نطق الشهادتين قبل إعدامه.
لذلك فإن من المهم الإشارة الى أن الحشود الشيعية المليونية التي تذهب سيراً على الأقدام في زيارات دينية ما زالت تتعرض الى عمليات قتل مروعة رغم وجود عشرات الآلاف من القوات الأمنية، والسؤال: لو لم تكن هذه القوات وبهذا العدد والعديد لحماية الزائرين ماذا يمكن أن يحدث؟ في الحقيقة، إن لهؤلاء الإرهابيين الاستعداد على إيقاع "القتل المقدس" بالملايين من هؤلاء الزائرين!
إن من الموضوعية، ومن الواقع القول إن ظاهرة "التطرف الإسلام السني" المنتشرة في العديد من المجتمعات المسلمة باتت تشكل تهديداً للنظام العام وأمن واستقرار المجتمعات المسلمة وغير المسلمة، وقد توجهت الاتهامات بالإرهاب إلى الإسلام "السني" صريحة في المصادر الرسمية الكندية، وقد رافق تنامي ظاهرة "الإرهاب السني" تجذر أسباب استمراره وبقاؤه، وهو ما أشار إليه الكاتب عبد المنعم الأعسم في سلسلة مقالاته حول "مستقبل تنظيم القاعدة" الإرهابي قائلاً: "إن طبيعة التنظيم الإرهابي العالمي المعاصر المستمدة من تجربتي حركة الأفغان العرب (ابن لادن)، والجهاد المصرية (الظواهري) خلقت معها عوامل استمرار وتواصل وتجديد".
وأشار الكاتب يحيى الكبيسي صراحة الى الخلفيات الفقهية للجهات الإرهابية العاملة في العراق وكانت سنية قائلاً: "هي جماعات متعددة الاتجاهات، تضم سلفيين دعويين وجهاديين، وإسلاميين تقليديين، ومتصوفة، وبعثيين". وقال الكبيسي في معرض تأصيل الانتماءات الفقهية قائلاً: "قد استخدم بعضهم خطاباً إسلامياً متشدداً يوصف في بعض دراسات علم الاجتماع بـ(خطاب السيف). وهو خطاب يعتمد العنف منهجاً للتغيير، ويستمد مقدماته من كتابات أبو الأعلى المودودي، وسيد قطب، ومدونات الجماعات الإسلامية المصرية التي ظهرت في السبعينات، وكتابات الدكتور عبد الله عزام وما أنتجته تجربة الأفغان العرب من خطاب سلفي جهادي. والذي يجعل (آية السيف) مقدمته النظرية الأولى في صياغة فقه الجهاد ومشروعية استعمال العنف، وهي قوله تعالى «فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ». لقد كان العنف هو الوسيلة الأولى والوحيدة لهذه الجماعات في تنفيذ ما تراه جهاداً وواجباً شرعياً، وقد وجدت هذه الجماعات في بعض الفتاوى إباحة القتل حتى لو كان السبب الاختلافات الفقهية، والفتاوى التي تجوز قتل (المتمترسين) من الكفار الأصليين، وهم في حالة العراق القوات الأجنبية، أو الـ(الكفار) المرتدين، أي المتعاونين، وإن أدى ذلك إلى قتل (الترس)، أي (معصومي الدم) من المسلمين الأبرياء الذين يمكن أن يسقطوا عرضاً، نتيجة للعنف المستخدم. ومن المعروف أن (مسألة الترس) تعود في جذورها إلى ابن تيمية، والتي قال بها أثناء مواجهة المغول. يقول ابن تيمية "وقد اتفق العلماء على أن جيش الكفار إذا تترس بمن عنده من أسرى المسلمين وخيف على المسلمين الضرر إذا لم يقاتلوا فإنهم يقاتلون وإن أفضى ذلك إلى قتل المسلمين الذين تترسوا بهم». (الفتاوى 28 / 546 - 537 و20 / 52) وتستمد حداثتها من التأويلات المفرطة التي أدخلها أبو قتادة عليها، حين أفتى بها لتنظيم "الجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر" (الجيا). يقول: "ومما أجاز فيه جمهور العلماء قتل المسلم لأخيه المسلم وهو معصوم الدم جواز قتله في حالة الترس... قال جمهور أهل العلم: بجواز قتل التُرس لوجود المقصد الشرعي، والمصلحة المعتبرة، وهي تحقق النكاية في العدو، وعدم تفويت الفرصة بهزيمتهم، ونصر المسلمين". علماً بأن جميع الأسماء التي وردت في كلام الباحث الأكاديمي الكبيسي هم من كبار فقهاء وعلماء السنة في العالم.

17/جمادى الأولى/1433