(إلى حكم الإسلام)

لسماحة المرجع الديني الأعلى الإمام الشيرازي (دام ظله)

 حيدر البصري 

(إلى حكم الإسلام) حلقة في سلسلة من الآثار التي تضم مشروعاً إسلامياً متكاملاً يحمله المؤلف، ويراهن على سلامته وأفضليته بالنسبة إلى غيره من المشاريع الأخرى.

هذا الكتاب يحمل بين طياته (الأوضاع الراهنة، وكيفية علاجها، ومقارنة بين الحكم الإسلامي، والحكم الغربي السائد في البلاد اليوم).

لم تثن المؤلف محاولات الآخرين في تثبيطه، والحيلولة بينه وبين القيام بمثل هذه المقارنة، إلا أن ذلك لم يدفعه إلى تجاهل آرائهم، بل تجده يرد عليها بأسلوب هادئ لا يمس بأصحاب تلك الآراء.

في هذا الكتاب يحاول مؤلفه سماحة آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (دام ظله) أن يثبت بالأدلة المقنعة صلاحية الإسلام للتطبيق من خلال المبادئ السامية التي تجعله مقبولاً فطرياً من قبل الناس كافة، ولكن بشرط أن يخلى بينه وبين الناس.

يعد الكتاب ـ كما ذكر مؤلفه ـ من قبيل الكتب ذات الطابع المقارن، إذ يبدو ذلك أيضاً من خلال الأرقام التي يسوقها عن الأنظمة الأخرى مما يدل على قصورها في الارتقاء بالبشرية إلى سعادتها وكمالها.

عناوين الكتاب

خمسة وعشرون عنواناً هي التي توج بها المؤلف كتابه كعناوين رئيسية ابتدأت بالدعوة إلى الإسلام والاطّلاع عليه لئلا يكون الحكم عليه جزافاً وبعيداً عن الموضوعية، وانتهت بالفضيلة والرذيلة، باعتبارهما الكفيلين بالارتقاء بالإنسان نحو كماله المنشود الذي يكون به عضواً فاعلاً، نافعاً في المجتمع، أو الانحطاط به إلى تخوم الأرض بما لا يرجى منه فائدة تذكر وفيما بين هذين العنوانين، يبحر بنا السيد الشيرازي ما بين السياسة والقانون، والأخلاق... إلى غير ذلك مما سيأتي ذكره إن شاء الله.

يبدأ السيد المؤلف بدراسة الواقع الذي يعيشه العالم في ظل القوى السائدة فيه دراسة موضوعية، على أساس عقلائي لا حساب للغيبيات فيه، لا انكاراً منه لها، ولكن اعتقاداً منه بأن الله تعالى هو الذي أراد لحياة البشر أن تسير على هذه الأرض وفق الطرق الطبيعية، والأسباب والمسببات مستدلاً على ذلك بمجموعة من الآيات القرآنية من قبيل قوله تعالى: (وَقُلِ اعْمَلُوا) و(وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى).

نظرة لميزان القوى العالمي

وضع سماحته الإسلام في طرف، والقوى الأخرى في الطرق الآخر ثم باشر بحساب قوة كل من الجانبين مادياً، ولمن تكون الغلبة في هذا الجانب ليرتب على هذه المقايسة أموراً تتعلق بالطريقة التي يمكن للإسلام من خلالها أن يثبت وجوده في ظل هذا الواقع السائد. لقد كان واقعياً في اعترافه بأن القوة بيد الطرف الآخر (وإنما القوى كلها بيد أعدائه، ومناوئيه) بما لا طاقة له على التحدي والوقوف بوجههم، إذ أنه في (أول يوم يعلن الإسلام وجوده، يكفي جزء من عشرة آلاف جزء من هذه القوى الهائلة، أن تضرب الإسلام ضربة قاضية لا يقوم له ـ بعد ذلك ـ عماد إلا بعد آماد وآماد).

إذن، وفي ظل ميزان القوى غير المتعادل هذا، كيف يمكن للإسلام (إظهار وجوده، وتقرير مصيره؟ وكيف تتمكن البلاد الإسلامية من استرجاع القيادة الإسلامية؟).

طرح المؤلف لذلك ثلاث طرق فَنّد اثنين منها، ورجّح الثالث، وهذه الطرق هي:

الثورة

الإمداد الغيبي

اعتماد وسائل أخرى

أما الثورة فقد فَنّد طريقها بعدم تعادل ميزان القوى، وأما الإمداد الغيبي فقد رده بعدم إرادة الله تعالى تسيير الأمور على الأرض وفق الطرق الغيبية. فلم يبق إلا الطريق الثالث، وهو اعتماد أساليب أخرى، يجب أن يتسلح بها الدعاة الإسلاميون في دعوتهم للإسلام، وإثبات صلاحيته لقيادة البشرية.

وسائل الدعاة

قدم سماحة الإمام الشيرازي ثلاثة وسائل يعتمدها الدعاة لتحقيق الحكم الإسلامي في جميع الأقطار وهي:

الحقيقة

الصبر

اللاعنف

فهذه السبل الثلاث (إذا توفرت في الدعاة، كانوا جديرين بالتمكن من إعادة الحكم الإسلامي، لا إلى قطر واحد، بل إلى جميع الأقطار الإسلامية، وفوق ذلك: إنها جديرة بأن تنشر الإسلام في جميع العالم).

قبل أن يخوض المؤلف في تفاصيل كل من هذه المبادئ الثلاث نوّه إلى انه إنما استمد هذه المبادئ من سيرة الرسول محمد (صلى الله عليه وآله)، الأسوة الذي (تدرع بالصبر اللانهائي، وتحرّى الحقيقة، وجنح إلى السلم حتى تمكن من نشر الدعوة في أرجاء الجزيرة) ثم ساق لكل منها دليله من القرآن الكريم.

فدليل الصبر: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا).

ودليل الحقيقة: (وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ..).

في حين كان دليل اللاعنف قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً).

فالحقيقة وإن كانت صعبة في جميع نواحي حياة الإنسان، إلا أن عاقبتها حسنة، وتحمل كل معاني الخير للانسان. فهي (وإن كانت صعبة القياد، بعيدة الانقياد، إلا أن من جاهد نفسه وتحراها لا تلبث أن تسلس قيادها إليه، وتعطيه زمامها، فهي ملكة تصعب على غير المتصف بها أما إذا كابد إنسان لتحصيلها، فلا يلبث أن يستولي عليها. وعلى قدر صعوبة تحري الحقيقة، تكون النتيجة كبيرة. فالإنسان إذا تحرى الصدق في جميع أقواله، لاقى ـ بدء الأمر ـ صعوبة كبرى. لكنه يعرف أخيراً أنه كان صادقاً، وهناك اعتماد الناس وإعزازهم له) ومن صار موضع تقدير الناس وعنايتهم، واعتزازهم، فقد رفع جميع الحواجز بينه وبينهم والتي تحول دون سماع ما يحمل وما يدعو إليه.

أما الصبر فهو (الجزء الثاني من السلاح الثلاثي لمريد إقامة حكم إسلامي). والصبر وإن لم يكن مختلفاً في صعوبته مع الجزء الأول من السلاح الثلاثي ـ الحقيقة ـ إلا أن من يدعو الناس إلى مشروع معين يختلف وأهوائهم، لا يمكن أن يغرس ما يدعو إليه في قلوب الناس ما لم يكن متحلياً بالصبر، بل بأعلى درجات الصبر.

فالصبر وإن كان أمر من العلقم، ولكن عاقبته أحلى من العسل، فبهِ (يتقدم كل متقدم من كل صنف وجهة).

أما اللا عنف فهو (ثالث الأثافي، التي تبنى عليها الدعوة إلى حكم إسلامي) ولأهمية هذا المبدأ، وخطورته تجد المؤلف أولاه عناية خاصة، جعلته يعالجه بشيء من التفصيل. فاللاعنف (في مكانة بالغة الخطورة والأهمية، فاللاعنف يحتاج إلى نفس قوية جداً، تتلقى الصدمة بكل رحابة ولا تردها، وإن سنحت الفرصة).

لقد عد المؤلف اللاعنف (سبيل كل مصلح عظيم، أو صاحب مبدأ عاقل) فشرع في عرض لبعض الرموز البشرية الذين اعتمدوا اللاعنف، على سبيل المثال لا الحصر ، فذكر رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله) والمسيح (عليه السلام)، ونوحاً، ولوط، وإبراهيم، وإسماعيل (عليهم السلام) جميعاً، ومن العصر الحديث ذكر غاندي.

قسم المؤلف اللاعنف إلى ثلاثة أقسام:

1ـ اللاعنف اليدوي: وهو (أن لا يمد الإنسان يده نحو الإيذاء، ولو بالنسبة إلى أقوى خصومه، ولو كان المد لرد الاعتداء، (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) فلا يلطم خصمه، وإن لطمه، ولا يضربه وإن ضربه).

2ـ اللاعنف اللساني: وهو (أصعب بكثير من اللاعنف اليدوي، ولذا ترى كثيراً ما لا يستعد الإنسان على أن يضرب أحداً، أو يطلق عليه النار، بينما يستعد أن يسلقه بلسان حاد، ويهمزه ويلمزه).

3ـ اللاعنف القلبي وهو: (أن لا يملأ الإنسان الداعية قلبه بالعنف، بالنسبة إلى خصومه ومناوئيه) فهو (أصعب الأقسام الثلاثة).

الشريعة الإسلامية وأسلوب الحكم

بعد هذه المقدمة دخل المؤلف في صلب موضوع الحكم فقدم بأن هناك خيرات يحاول كل فرد الاستئثار بها مما حدا بالإسلام إلى التفكير في ضرورة وضع حد لمثل هذا التكالب والاستئثار. فكان علاج ذلك في أمرين:

جعل الثواب والعقاب اللذين يحدان من الاستئثار المذكور.

جعل جهاز الحكم: الذي (لا يختص بالإسلام، بل الاحتياج إلى الجهاز الحاكم من أولى ضروريات البشر).

والفرق بين الإسلام وغيره في شأن جهاز الحكم هو (إن الإسلام بحكمته الشهيرة جعل الجهاز الحاكم على قدر، أي قدر الاحتياج فحسب، فهو ينظر إلى الجهاز الحاكم كما ينظر إلى الخباز والعطار، فكما أن الخباز يلزم أن يكون على قدر احتياج المدينة، فلو زاد كان كلاًّ على المجتمع، كذلك الجهاز الحاكم... وهذا بخلاف الأجهزة الحاكمة، في نظر غير الإسلام، فإنهم لا يزالون يوسعون الجهاز ـ في المتمدنة منها! ـ ويضيقونها في المتوحشة).

وللشريعة الإسلامية أسلوبها الخاص في الحكم وهو:

1 ـ أن يكون القانون هو قانون الله سبحانه.

2 ـ أن يكون تطبيق القانون في ضمن رضا الناس.

وكل من هذين الأسلوبين دليله من القرآن الكريم والسنة، والإجماع والعقل.

ثم إن الحكم في الإسلام قائم على أساس (الشورى، واختيار الأكثرية).

ومن خلال التعرض لمبدأ الشورى تناول الكتاب مسألة الانتخاب بكل تفاصيلها، وشروطها وما يمكن أن يورد عليها، وردّ ذلك.

وفيما تعرض لعبودية القانون الخانقة وهي:

1 ـ الجمود: (الروتين).

2 ـ الالتواء.

3 ـ الانتفاخ.

4 ـ التلاعب.

5 ـ أخذ البريء بالسقيم.

أشار المؤلف إلى مزايا القانون الإسلامي الذي لا تجد فيه عيباً من هذه العيوب الكبيرة بحال من الأحوال.

هوّن الكتاب من الهالة التي ترسم حول احتياج الإنسان بالنسبة لجهاز الحكم، فلم يكن هذا الجهاز من وجهة نظر كاتبه بالتعقيد الذي يفترضونه له فإذا (لاحظ الإنسان إلى ما يحتاجه الاجتماع، لإدارة شؤونه، سواء الشؤون المرتبطة بحل مشاكله، أم المرتبطة برقيه وتقدمه.. لرأى أن ما يحتاجه لا يعدو بضع دوائر) التي تتمثل بعد تقليصها بـ:

الولاية، وهي السيطرة على عامة مرافق البلدة.

البلدية.

الشرطة.

4 ـ الجند.

5 ـ الضريبة.

6 ـ القضاء.

7 ـ الإرشاد.

الغنى والفقر وأسباب العلاج

بعد أن أتم المؤلف ما تقدم من مفاصل الكتاب انتقل ليتناول مسألة هامة يفترض أن تعد هدفاً من أهداف الحكم، ألا وهي مسألة الرفاهية، ولارتباط هذه المسألة بالفقر والغنى تناولهما سماحة السيد في فصلين مستقلين.

فلعلاج كل ظاهرة لابد من الوقوف على حقيقة أسبابها، لذا لابد من علاج جذور كل من الفقر والغنى غير الشرعي (الإثراء بلا سبب).

فمصادر الغنى هي:

التجارة،الصناعة، الزراعة، العمارة، نظام المال الصحيح.

في حين يكون السبب في الفقر في الانحراف عن هذه المصادر والميل بها، ذلك الذي ينشأ عن:

الربا، الاحتكار، الاستيلاء.

وبما أن النظام المالي يعد من أهم الأنظمة التي تحكم الدولة تناول المؤلف النظام المالي في الإسلام وأبرز جوانبه الإيجابية وميز بينه وبين غيره من الأنظمة.

ثم أن الدولة يجب أن تهتم بسلامة أبنائها، وذلك بتأمين كل وسائل الوقاية من الأمراض والأوبئة بالإضافة إلى توفير السبل اللازمة لعلاج الأمراض.

إن المجتمع ـ كل مجتمع ـ ما لم تحكمه الفضيلة يتحول من كونه مجتمعاً إنسانياً إلى مجتمع آخر. ترى بناءً عليه (هل الفضيلة شيء واجب؟ أم أوهام برجوازية، كما يزعم (ماركس)؟... إن الإسلام يرتكز على أسس ثلاثة، هي: 1 ـ الاعتقاد الصحيح، 2 ـ النفس المستقيمة، 3 ـ الحرية المعتدلة. وهذه هي الأسس الأولى للفضيلة، كما أنها هي المطاردة للرذيلة).

في آخر الكتاب تعرض الكاتب (لأهم الدوائر التي نحتاجها... كالبرق والبريد، والتلفون والمواصلات وما أشبه) بالإضافة إلى الدوائر التي لم نعهدها قديماً في الإسلام (كالأمن، والسفر والإقامة، والجمارك، والضرائب الحادثة، بمختلف صورها، والحدود، والتسوية، وغيرها..).

مسك الختام إلى هذا الكتاب قول المؤلف: (وإني في هذا الكتاب لم آت ببدع، وإنما طبقنا ما هو مذكور في كتب الفقه على الظرف الحاضر، كما أن ما في هذا الكتاب ليس آراءً وأفكاراً فقط، وإنما طبقت في البلاد الإسلامية مدة ثلاثة عشر قرناً ـ باستثناء فترات متفرقة ـ ومن جراء تطبيق ذلك، ارتقت البلاد إلى أوج الرقي والحضارة.. وتطبيق ذلك في الوقت الحاضر، كفيل بإرجاع السعادة المفقودة ثانية إلى الإنسان).