(ممارسة التغيير لإنقاذ المسلمين)

لسماحة المرجع الديني الأعلى الإمام الشيرازي (دام ظله)

 عبد الله الساعدي

التغيير هذا العنوان الرحب الواسع، يطلق أحياناً على عمليات حركة وانتقال موضعيين، ويطلق تارة على عمليات تجرى على مستوى المجتمع والأمة أجمع، وأياً كان فعل التغيير الذي يحدثه على الكيان الإنساني فهو ضروري لإدامة روح التطور وقابليات الإنسان على السمو بذاته وإذابة جليد السكون الذي غالباً ما يصيب المجتمعات الإنسانية الخاملة فيحيلها إلى تجمعات أشبه ما تكون بالحيوانية وهناك مصاديق كثيرة لذلك، حيث وضعت بعض المجتمعات وصنفت على أساس تحركها ومستوى التغيير الجاري في خط سيرها الحياتي العام. وقد انتبه الإسلام ونبه إلى ذلك في القرآن الكريم في عدة آيات وأكدت الأحاديث النبوية عليها بعد ذلك، فالقرآن الكريم يشترط التغيير الإلهي بتغيير أحوال البشر بقوله تعالى: (إن الله لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) بينما يعبر النبي عن التغيير بالوجوب بقوله (صلى الله عليه وآله): (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإنه لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان.

وقد خضع مصطلح التغيير لنوعين من التطور، الأول: آيديولوجي نظّر لهذه العملية وصاغها بقوالب تتبع النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لمجتمع معين.

بينما شكل التطور الثاني في مصطلح التغيير ورود إضافات تعرف هذه العملية، كالتغيير الذاتي أو التغيير الثوري أو ما إلى ذلك.

وكتاب (ممارسة التغيير لإنقاذ المسلمين) والذي هو بالأصل مجموعة محاضرات لسماحة السيد المؤلف يأخذ من المشربين أي بإمكان تطبيق الشكلين على هذه الدراسة الموسعة بالقدر الذي يوجّه فيه سماحته المتصدين لممارسة التغيير وهم قادة الحركات والأحزاب الإسلامية بدءاً بالمقدمة التي حاول فيها سماحة السيد المؤلف أن يلخص الهدف الرئيسي من الكتاب وهو إعادة العمل بالقوانين الثلاثة فيبدأ بدولة الألف مليون مسلم ثم قانون الأخوة الإسلامية والثالث قوانين الحرية والمساواة وإعادتها إلى الحياة من جديد ثم يعرج سماحته إلى بناء المؤسسات وكيفية تطبيقاته وبناء الدولة الإسلامية وقوانين الدولة من الشورى والتعددية وغيرها.

هكذا يبدأ التغيير

يضع الإمام الشيرازي (دام ظله) لعملية التغيير مجموعة من المقومات يعبر عنها بـ(المقدمات) وأولها الوعي السياسي حيث يعتبره من أهم الأمور الواجبة على من يتصدى لهذه العملية فيشير إلى فهم السياسية بالقول: (إذ بدون الفهم المذكور لا يتمكن الإنسان من الشروع في العمل، وإن بدأ فإنه لا يتمكن من الاستقامة في أمره وإن تجلد وقاوم فإنه لا يتمكن من مواصلة السير بالحركة إلى شاطئ السلام والهدف المنشود. ومن الواضح أن عدداً كبيراً من المثقفين سواء الدينيين منهم أو الزمنيين لا يعرفون السياسة إلا ظاهراً منها لأنهم لم يدرسوها ولم يباحثوها بل ولربما لم يطالعوها وإنما كان هَمّ المثقفين الدينيين بعض الأمور الدينية التي هُم بصددها أما المثقفون الزمنيون فهمّهم في دروسهم وممارساتهم العلمية منحصر في الطب والهندسة والفيزياء والكيمياء وغير ذلك ولذا نرى المسلمين يصب عليهم البلاء صباً وهم لا يعرفون المصدر ولا الكيفية ولا الخصوصيات ولذا يعجزون عن العلاج والخروج عن المأزق فمن اللازم دراسة السياسة دراسة مستوعبة ثم مباحثتها ومواصلة مطالعتها بدقة وحيث لا يمكن تجريد السياسة عن علمي الاجتماع والاقتصاد فاللازم دراستهما أيضاً).

ثم يعرض سماحته مجموعة من القصص الواقعية من التاريخ الإسلامي القريب والتي كانت نتيجة لغياب الوعي السياسي عند الأمة مما أفقدها خاصية التوازن ومن ثم دخول المستعمر بشتى طرقه لاختراق الصف الإسلامي عن طريق الجواسيس والعيون التي عاثت في الأرض الإسلامية فساداً ومزقت أوصالها. ويركز سماحته على أن الفهم السياسي له جانبان سلبي وإيجابي، أما الأول: فهو المعرفة والتقصي لما يجري في بلاد الإسلام بينما الجانب الثاني والذي لا يقل أهمية عن الجانب الأول وهو تشخيص المرض والعلاج معاً في عملية الفهم هذه ويرى أن سبب انقسام الدولة الإسلامية وتشتتها هو عدم تمكن المسلمين من معرفة علاج الأمراض السياسية بعد أن اصطدموا بالعقبات الجدية التي فرضتها ظروف الاحتكاك بالأجنبي وورود الأفكار الملحدة إلى الديار الإسلامية، ولا يبتعد سماحته بالموضوع حتى يضع النقاط على الحروف فيلخص عملية العلاج بقوله:

(والعلاج في المقام إنما هو ضم دراسة السياسة إلى جنب سائر الدراسات الأخرى في المناهج الثقافية بالنسبة إلى طلاب العلم سواء كانوا دينيين أو زمنيين ثم اللازم أن ينشر هؤلاء الدارسون السياسة بين المجتمع حتى تكون السياسة عند المجتمع كسائر شؤونهم العادية فكما أن كل مريض يذهب تلقائياً إلى الطبيب ويذهب كل جائع وعار عفوياً إلى تحصيل الطعام واللباس كذلك يلزم أن يذهب كل فرد من المسلمين إلى تعديل الانحراف العريض الحادث في بلاد الإسلام وبذلك يقترب المسلمون إلى العلاج بإذن الله (سبحانه وتعالى).

أما عن تعريف الفهم السياسي فيرى سماحته ذلك بالقول: (ومن فهم السياسة أن يعرف الإنسان ارتباط الأمور بعضها ببعض وأن أي أمر يؤثر في أي أمر، ومعرفة المسافات والخصوصيات والمزايا والأقوام والاتجاهات والتيارات وما أشبه ذلك).

ويذكر نماذج عديدة لحالات عدم الفهم السياسي والنتائج التي آلت إليها.

ويضيف سماحته عدة شروط أخرى للمتصدي للتغيير السياسي منها معرفة التاريخ ومجريات السياسة وخصوصياتها وتفاعلاتها.

الدولة الإسلامية سر النجاح والنهاية المؤلمة

يعد نموذج الدولة الإسلامية في عهد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) ومن ثم عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) من أنجح تجارب الدولة على الإطلاق، فالمعروف أن أغلب الدول والممالك التاريخية اعتمدت في قيامها واستمراريتها على عامل القوة والبطش ولا يستثنى من ذلك أي نموذج تاريخي على الإطلاق إلا الدول التي جاءت على شكل فرضيات حالمة كجمهورية أفلاطون، بينما وضعت الدولة الإسلامية نموذجها الواقعي والذي شكل منعطفاً تاريخياً فريداً في مسيرة البشرية، فحتى الديانات السماوية السابقة كانت تعليمات وإرشادات للمؤمنين لا أكثر، بينما جاء الدين الإسلامي بشريعة وقانون نظم الحياة السياسية والاجتماعية وقضايا الحكم والإدارة إضافة إلى التعاليم التي اشتركت مع هذه النظم في تسيير المجتمع الإسلامي.

وفي تحليل لسماحة الإمام الشيرازي في كتابه موضوع الدراسة يرى أن شخصية قائد التغيير وهو الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وجو الحرية الذي أشاعه (صلى الله عليه وآله) في ربوع الدولة الجديدة كانا السر وراء نجاح هذه الدولة ونفس الشيء حصل بالنسبة إلى دولة أمير المؤمنين (عليه السلام) والتي امتدت من ليبيا الحالية إلى داغستان، والملفت للنظر في تأكيد سماحته على أن جو الحرية هو أساس بناء هذه الدولة، ما يذكره التاريخ من عدم وجود سجن واحد في هذه الدولة على سعتها وتعدد أعراقها وأثنياتها.

كما أن هناك عوامل أخرى لنجاح الدولة الإسلامية هي القناعة النفسية بالإسلام بتعبير سماحة الإمام الشيرازي حيث قال: (لم يشك أي مسلم معتقد رغم كل الخلافات والتناقضات التي ارتكبها المتطفلون على الإسلام باسم الإسلام، في شرعية الطريقة الإسلامية وكمالها وأنها أفضل الشرائع والأديان وخير طريقة للحياة السعيدة).

ولقاعدة المحبة والمودة التي زرعها هذا الدين الجديد ونبيّه الكريم الأثر البالغ في إيجاد الجامع المشترك للمسلمين كوحدة لا تتجزأ في هذه الدولة الجديدة.

وكعادة سماحة الإمام الشيرازي في معظم كتاباته فإنه يركز على المقارنات لأنها تحمل بين طياتها نوعاً من الواقعية التي تضع القارئ أمام حقيقة لا تقبل الجدل ولا مناص من اختيار الكفة الراجحة فيها، لذلك فإن سماحته يأخذ أمثلة لحكومات إسلامية قامت في الهند وإيران وتركيا والمغرب ثم سقطت. وينظر إلى مدى التزامها بنهج دولتي الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) والإمام علي (عليه السلام).

وعن سبب سقوط الدول الإسلامية التي تفتقر إلى الأساس القوي للمبادئ يقول سماحته: (لما كانت أساليبهم تختلف كثيراً عن أسلوب الرسول (صلى الله عليه وآله) عجزوا عن أن يتفقوا على منهاج بنّاء يؤلف بينهم ويجعلهم وحدة واحدة وقوة متماسكة بل على العكس من ذلك فقد تفرقوا أيدي سبأ وأصبحوا شيعاً متباغضة وأحزاباً متحاربة ولو كانت تسودهم الجماعات المفكرة المعتدلة لوحدوا صفوفهم ولصبّوا جهودهم في أجنحة كما نجد مثل هذا في كثير من البلاد الغربية المدعية للديمقراطية على أنّنا لا نريد تأييد الديمقراطية إلا بقدر أن دعاتها تعقلوا الأمور في إيجاد الأحزاب وجعلوها أجنحة في سبيل مصلحتهم الوطنية ولو كان المسلمون يتفقون على مثل هذا الطرح الذي ذكرناه في كتب متعددة وبصورتها الإسلامية الصحيحة لم يكن للغرب والشرق الجرأة في تضييق الخناق على المسلمين وتسييرهم بهذا السير العنيف الذي سبّب للمسلمين ضياع دنياهم ومن الطبيعي أنه إذا ضاعت الدنيا ضاعت الآخرة معها أيضاً).

مشروع التغيير وفق الرؤية المرجعية للإمام الشيرازي

إذا كان لابد من عرض كتاب (ممارسة التغيير لإنقاذ المسلمين) لسماحة الإمام الشيرازي فإننا بحاجة إلى بحث مطول وإحالات أخرى إلى كتب سماحته والتي وضع فيها عملية التغيير كهدف أساسي من أهداف مشروع النهضة الإسلامية الذي تبناه طيلة العقود الماضية، إلا أن قراءة هذا الكتاب تفضي بنا إلى إرائة برنامج التغيير وفق الهيكلية التي أسسها سماحته لهذه العملية، بعد عرض المقارنات التي أشرنا إليها سابقاً وسياسة دولتي الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) يصل الكتاب إلى نقطة حساسة وعملية في الوضع الإسلامي يسميها المؤلف (دام ظله) بـ(أوليات الفهم السياسي) وملخصها التركيز على كل ما هو غير إسلامي والتي تتركز في ثلاث نقاط:

1 ـ إن كل شيء يهدد وحدة المسلمين ويفرقهم إلى قوميات أو عنصريات أو أقليمات أو ما أشبه ذلك فهو ليس من الإسلام واللازم أن تذوب كل التقسيمات في بحر الإسلام العظيم.

2 ـ إن كل من يصل إلى الحكم بلا استفتاء حر من الشعب وبلا شورى منهم ولا انتخاب فهو باطل وليس من الإسلام في شيء.

3 ـ كل بلد يجهر فيه بالمعاصي والمحرمات وبمنظر من الحكومة ومسمع أو بتشجيع منها (...) باطل وليس من الإسلام في شيء.

ثم يشير الإمام الشيرازي (دام ظله) إلى أكذوبة الحضارة الغربية وفضح أساليبها البعيدة عن الحرية بمعناها الحقيقي، بعدها يبدأ سماحته بعرض الصفات التي يجب أن يتحلى بها أصحاب عملية التغيير.

ويمكن أن نجمل ما ورد في الكتاب على قسمين:

الأول: المقدمات الأساسية للتغيير، تناول فيها الإمام الشيرازي أهم المواصفات والواجبات لمن يمارس التغيير والتي قسمها إلى (38) باب في السياسة والاجتماع والأخلاق وغير ذلك.

الثاني: وهو بحث في الدكتاتورية، جاء على شكل عرض تاريخي استدلالي قصصي بيّن فيه سماحته مساوئ الحالة الدكتاتورية وأثرها في تخريب الحضارات ومنها الحضارة الإسلامية.

وكلمة أخيرة نجمل ما جاء في فصول هذا الكتاب القيم بأنه يمثل برنامجاً متكاملاً ومنهجاً لدراسة علم السياسة الإسلامية الذي ينشده الإسلاميون في عالم اليوم، كما أن الكتاب يمثل رؤية فقهية منهجية للنظرية الإسلامية على ضوء الشريعة المقدسة، حيث عضد السيد المؤلف هذه التوجهات بالأدلة الشرعية وطابقها على الواقع التاريخي والسياسي على مر العصور الإسلامية.