(الشورى)

لسماحة المرجع الديني الأعلى الإمام الشيرازي (دام ظله)

 عبد العزيز الناصري

تعتبر الشورى من الأفكار التي جاء بها الإسلام العظيم من أجل النهوض بالإنسان نحو حياة حرة كريمة. ورسم خارطة مستقبل أجياله، وممارسة دوره الحقيقي في بناء مجتمعه وأمته.

ولقد جاء الإسلام في زمن كانت فيه شبه الجزيرة العربية تعيش في كنف نظام قبلي صارم تسوده اللاعدالة، وسحق الحريات، والقتل والدمار وبلا حدود، حيث تتحكّم القبيلة بمصائر الناس في وقت لم تعرف به تشكيلة الحكومة المركزية.

إلى جانب قوتين جبارتين تتقاسمان العالم آنذاك نفوذاً وهيمنةً، أحدهما الإمبراطورية الفارسية حيث يكون فيها ملك فارس هو السيد المطاع لا يعترض على حكمه معترض، ولا تضع أمام قراراته حدود. وتحاك حوله هالة من القدسية لكونه - كما يدعون آنذاك - بأنه يستمد سلطته وشرعية حكمه من الإرادة الإلهية.

والقوة الثانية هي الإمبراطورية البيزنطية التي ورثت من الإمبراطورية الرومانية غطرستها وعنجهيتها وإسفافها بالإنسان وحقه في الحياة.

وإزاء هذه القوى التي تتنازع الهيمنة والسطوة يظل الإنسان مسلوب الإرادة تتنازعه أهواء السلاطين والساسة، يعيش دوامة الذل والقهر اللامحدود. حتى جاء الإسلام يحمل أفكاره السماوية التي من شأنها رفع قيمة الإنسان وفتح باب الحرية على مصراعيه في إبداء رأيه وتحديد مساره الذي يجسّد طموحاته وآماله.

وقد أدرك الإمام الشيرازي (دام ظله) تلك الأفكار وما لها من دور متميّز في رفد الإنسان بحيثيات الحياة الكريمة الفاضلة، لما عرف عنه من نظرة حكيمة وثاقبة واجتهادات دقيقة صائبة، لا سيما في فكرة الشورى التي تبنّاها ودافع عنها مما شكّل في الأمة تياراً واعياً ومدركاً لحقيقة الشورى ويؤمن بها. حتى عرف عن الإمام (دام ظله) بأنه (صاحب نظرية الشورى).

ففي كتابه (الشورى في الإسلام) الذي يقع في (104) صفحة، ويضم بين دفتيه ثلاثة فصول ذات مباحث عدة، ومقدمة صغيرة للمؤلف، نجد أنه استطاع وعبر استدلالات عقلية مقنعة أن يثبت وجوب فكرة الشورى.

فقد اعتبر في الفصل الأول، بأن المؤسسات الخدمية أو الاجتماعية وغيرها قد أسست بمال المسلمين، كأن تكون مرجعية هذا المال: الخمس، أو الزكاة أو المعادن وما إلى ذلك، ولما كان التصرف في هذا المال يتطلب الحصول على الإذن، وهذا يعني أنه يتطلب المشورة. وهكذا أوجد سماحته في هذا المجال سبيلاً جديداً في الاستدلال على حجية الشورى.

فيقول في مستهل الفصل الأول من الكتاب هذا:

(كل شيء يرتبط بشؤون الأمة، لابد فيه من الاستشارة، سواء في أصل الجعل، أو توابعه، مثل: المدارس، والجامعات والمستشفيات، والمطارات، والمعامل الكبار، وما أشبه، فإنها تفتح وتعمل بمال الأمة ومقدّراتها، وكذلك حال الوظائف من الرئاسة، إلى الوزارة، إلى المجلسين، إلى المحافظين، إلى مدراء النواحي، وهكذا..) ص11.

ويعلل سماحته قوله أعلاه:

(فإذا أُحسنت الاستشارة في كل هذه الشؤون من القرية إلى المدينة، وفي اتحاد الطلبة إلى أكبر إدارة للشؤون الاجتماعية، تظهر الكفاءات وتتقدم عجلة الحياة إلى الإمام بسرعة كبيرة) ص12.

ويؤكد الإمام الشيرازي بأن وجوب الشورى لا تقف عند حد دون آخر حتى في تعيين الحكّام والساسة.. فيقول:

(فهل يمكن وجوب الشورى في الأمور العامة، وعدم وجوبها في تعيين القيادة التي هي الأصل) ص16.

وفي السياق نفسه يتحدث الإمام عن الحاكم المسلم وتطبيقه لمبادئ الإسلام، فيقول: (لا يكفي للحاكم المسلم أن يطبق مبادئ الإسلام وقوانينه بدون قانون الشورى) ص25.

وقد اعتبر سماحته أن الشورى عبارة عن صمام الأمان عند الإنسان، فيقول: (إن الاستشارية سواء في الحكومات الزمنية - والتي تسمى بالديمقراطية - أو في الحكومة الإسلامية هي صمام الأمام وذلك لأن الناس كما يحتاجون إلى ملء بطونهم يحتاجون إلى ملء أذهانهم) ص25.

وقد يُلخص الفصل الأول إلى ثابتة في رأي الإمام الشيرازي حيث يقول: (وعلى أي حال، فليس المهم البحث في هذه المسالة الجزئية، بعد الأخذ بمبدأ الشورى في كل شؤون الأمة) ص32.

إذ يعني في حالة الاختلاف في موضوع جزئي، كأن يكون تقوية طرف من اقتصاد الأمة على حساب طرف آخر، أو سواها، فإن الاعتماد على استشارة الآراء في الأمة يعتبر هو الحالة الصحية التي توصل إلى تأسيس حالة التقدم في كل مجالات الحياة.

ثم تحدث الإمام الشيرازي (دام ظله) في الفصل الثاني عن مدى تطبيق الشورى في الأحزاب السياسية والتي تعني بالمفهوم المعاصر (الديمقراطية) وإن كان مفهوم الأولى أعمق بكثير من مفهوم الثانية. فقد عرّف الحزب قائلاً:

(إن التعريف المبسط للحزب هو وجود هدف أو مصلحة مشتركة بين أفراد تجمّعوا حول بعضهم البعض من أجل الوصول إلى ذلك الهدف وصونه والتوسع فيه) ص36.

بينما عرّف الحزب السياسي:

(الحزب السياسي هو عبارة عن الشريحة لطبقة اجتماعية تكافح نظاماً معيناً من أجل تأمين المصلحة حسب ما تراها واستلام السلطة وتطبيق مسلكها العقائدي) ص45.

ويتعرّض سماحته إلى تصنيف الأحزاب حسب الواقع الحالي إلى يسارية ويمينية ومعتدلة وراديكالية يمينية وراديكالية يسارية، ويلقي الضوء وبشيء من التفصيل على كل نوع منها.. فيقول:

(عندما يقال أن هذا الحزب يميني فمعناه هو أنه يشمل مصالح فئة خاصة ومحدودة، والحزب اليساري يعني أنه يشمل مصالح فئات أوسع من أفراد المجتمع وبعبارة أخرى أنه يطالب بتوزيع المنافع والمزايا في البلاد على نطاق أوسع على العكس من اليميني الذي يدعو لتكدّسها عند فئة خاصة من المجتمع) ص36.

ويشير هنا إلى أن هذا وفق المصطلح الشرقي، بينما في المصطلح الغربي فيقول سماحته: (اليميني هو الذي يجعل كسب الفرد لنفسه، واليساري هو الذي يجعل كسب الأفراد للمجموع) ص37.

لكنه يعتبر كلا الرأيين خاطئين، ويعتبر الحزب المعتدل هو الذي (لا يطالب بأن تكون المنافع والمزايا والممكنات داخل البلاد في يد فئة خاصة ولا يطالب بتوزيعها بين أوسع شريحة من فئات المجتمع، بل له هدف معتدل) ص37.

ثم يقسم الأحزاب حسب أهدافها:

1- الأحزاب الراديكالية (التقدمية المتشددة).

2- الأحزاب التقدمية المعتدلة (الأحرار).

3- المحافظون.

4- الرجعيون.

وفي معرض حديثه عن أسباب فشل الأحزاب السياسية في العالم الثالث فيورد لذلك عاملين:

1- أن شعوب العالم الثالث لها ذكريات مرّة دائماً مع الأحزاب السياسية في بلدانها.

2- فقدان الكتب اللازمة وعدم تعليم قواعد السياسة في المعاهد. ص42.

وفي الفصل ذاته نجد أن الإمام الشيرازي يتعرض إلى حالة الأحزاب الداخلية وكيفية ارتباطها في المجتمع وسبل التواصل بين أعضائها، وفي مبحث آخر بعنوان (أقسام التمركز) أي طبيعة التعامل في الحزب فيقسمه إلى قسمين:

1- التمركز الدكتاتوري.

2- التمركز الديمقراطي.

فيتحدث عن القسم الأول قائلاً:

(إذا ما أبدى القائمون على حزب ما رقابةً وإشرافاً على اجتماعات أعضاء الحزب. وإذا ما فرضوا الرقابة العقائدية على هذه الاجتماعات ولم يسمحوا لأعضاء الحزب بأن يعبّروا بحرية عن آرائهم ومقترحاتهم وإذا لم تكن هناك أية علاقة بين آراء أعضاء الحزب وقرارات المسؤولين في الحزب في مثل هذه الظروف يتمتع الحزب بالتمركز الدكتاتوري) ص54.

وعن التمركز الديمقراطي يتحدث قائلاً:

(أما عندما يسود التمركز الديمقراطي في حزب ما فإن آراء غالبية أعضاء الحزب أو مندوبيهم تؤخذ في الاعتبار لدى صياغة القرارات الحزبية من جانب القائمين على الحزب إذ توجد علاقة مباشرة بين آراء الأعضاء وقرارات قادة الحزب، حيث آراء الأعضاء تحظى بالاحترام ويبقى مبدأ التعبير الحر محتفظاً بموقعه داخل الحزب). ص55.

وفي السياق ذاته يشير في موقع آخر:

(إن تسيير قيادة الأحزاب السياسية من جانب زعيم أو أمين عام هي أمر لا يمكن استمراره على الدوام) ص56.

ويُبدي الإمام الشيرازي (دام ظله) رأيه في الفردية الحزبية فيقول:

(فإن النظام القائم على عدة أحزاب من شأنه أن يوجد الفرصة المناسبة لظهور التصارعات والتصادمات الثانوية وتفتيت وتجزئة المعارضة الكبرى) ص58.

ويخلص سماحته في نهاية الفصل الثاني إلى القول:

(لقد ثبت بالتجربة أن النظام البرلماني في بلاد ما، سيكون ثابتاً ومستقراً إذا كانت هناك أحزاب نشطة تتصارع بعضها البعض في الرأي والعقيدة وتبحث في القضايا السياسية وتضع آراءها واتجاهاتها أمام الرأي العام من أجل التحكيم، وبمثل هذه الطريقة فقط يمكن إشراك الرأي العام في النقاش السياسي العام وجعله على رغبة واهتمام بالشؤون السياسية في البلاد). ص73.

وحينما نتصفّح الفصل الثالث من كتاب (الشورى في الإسلام) لسماحة الإمام الشيرازي (دام ظله) نجده قد اقتصر على درج الروايات الواردة عن النبي (صلّى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) في الشورى، مع بعض التعاليق البسيطة لتوضيح بعض الغموض في تلك الأحاديث.. وأدناه ندرج عدد الأحاديث دون متونها.

عن النبي (صلّى الله عليه وآله) ورد ما يقارب (28) حديثاً شريفاً.

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) ورد ما يقارب (100) حديثاً.

وعن الإمام السجاد (عليه السلام) ورد ما يقارب (4) أحاديث.

وعن الإمام الباقر (عليه السلام) ورد ما يقارب (3) أحاديث.

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) (30) حديثاً.

وعن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) (4) أحاديث.

وعن الإمام الرضا (عليه السلام) (2) حديثان.

وعن الإمام الجواد (عليه السلام) (3) أحاديث.

إن هذه الأحاديث الواردة عن الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) وأهل بيته الطاهرين عن الشورى لهي تأكيد قاطع على نظرية الشورى لما لها من أهمية عظمى في الإسلام، وهذا ما أكّده الإمام الشيرازي (دام ظله) في كتابه (الشورى في الإسلام) والذي لا يمكن الاستغناء عن قراءته والارتشاف من معين كنوزه.