![]() |
![]() |
قراءة في كتاب ولأول مرة في تاريخ العالم
لسماحة آية الله العظمى الإمام السيد الشيرازي دام ظله محمد خالد |
الأحداث التي هزت العالم لا تعدّ ولا تحصى والخلافات والصراعات بين أنباء الأمة الإسلامية لم تكن تجري بأقل ما كانت عليه يوم ابتدأت فصول تلك المسيرة، إلا أن المبدأ هذه المرة رسالة سماوية أراد الله لها أن ترتقي لتغدو بطاقة عهد جديدة تحمل معها أنوار المستقبل المعني بروح العصر المحمدي الذي تمازج بكلمة الخالق ليردد معه تلك الصلة الأثيرية فيخرج الناس من الظلمات إلى النور. لذا كان هبوط الوحي وثبةً وشهادة لذلك الاختيار الإلهي الذي لا يقبل الشك والمجادلة فجاء الإسلام رسالة وأمانة لا يقدر عليها إلا مَن أتى الله بقلب سليم.. فأطلّ ذلك الأمر حاملاً معه النداء عن كلام الخالق سبحانه وتعالى وكانت الردّة السفيانية آنذاك تحمل بين أنيابها روح الضلالة والانحراف، أما المسيرة النبوية فقد اتخذت نمطاً جديداً لم يألفه الآخرون من قبل لأنه لم يكن طيشٌ من أجل المنصب أو الزعامة بل هو إخبار سماوي وتنزيل يحمل معه لغة جديدة لتقرير المصير وإنقاذ الأمة من براثن الجهل والتخلف، فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يعيش مع الناس، يخاطبهم يتحدث فيهم بدستور السماء ولغة الخالق. على ضوء تلك المعطيات والمرتكزات التاريخية التي مهدّت لعصر جديد استوعبت معها تناقضات الأمة وأزماتها المتداخلة بفعل عصر التحول، وبهذا يتساءل المجدد والمجاهد الكبير سماحة آية الله العظمى الإمام الشيرازي دام ظله عن تلك الأزمات التي أحاطت بالأمة لتستنزف كل قواها بعد أكبر فجيعة للأرض يوم انتقال النبي (صلى الله عليه وآله) إلى مثواه الأخير وبعد الصراعات التي دبّت في صفوف المسلمين فكيف لنا استعادة دورنا من جديد. بأفكار الأمة الواحدة وقوانين الإسلام المذكورة في الكتاب والسنّة؟ بهذه المقدمات يطالعنا الإمام الشيرازي دام ظله محللاً مسيرة الأمة من جديد مع كتابه (ولأول مرة في تاريخ العالم) ذلك المجلد الذي يحوي بين طياته روح التجديد من خلال تتبع سير الإسلام منذ نشأته الأولى ليطرح أمام العالم. ذلك البديل الحضاري الذي يدعو الأمم إلى عصر السلام والحرية والأمن والاستقرار. ولكن كيف ينهض العالم من سباته؟ هذا ما يتضح بعد الإحاطة بفصول المؤلَّف الذي يتكون من مجلدين يبتدئ بالنشأة قبل البعثة وينتهي إلى حيث يرد انتصارُ ابن جابر الفهري على أولئك اللصوص والقتلة بينما يبتدأ المجلد الثاني بتلك المعارك التي كان يخوضها رسول الله (صلى الله عليه وآله) دفاعاً على طريق الفتح وينتهي في توديع الرسول (صلى الله عليه وآله) إلى حيث مثواه الأخير. المؤلَّف بـ547 ص من القطع الكبير. يضم المجلد الأول مواضيع متعددة منها فصل في المبعث الشريف، الهجرة إلى الحبشة وفصل في الهجرة النبوية المباركة، وفصل في المعارك التي خاضها (صلى الله عليه وآله) وسراياه دفاعاً ضد جيش الكفر والنفاق. أما مسألة البعث، فأفرد لها فصلاً يعدّ برهاناً مركزاً حول بداية الدعوة المحمدية كيف ابتدأت وبماذا المنهج هنا يشترك بذات اليقين الرسالي على لسان سماحته الذي يصف فيه نزول الوحي على الرسول كما جاء (وقيل أنه أول ما بدأ به رسول الله (صلى الله عليه وآله) من الوحي الرؤيا الصادقة فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح حيث حبب إليه الخلأ فكان يخلو بغار حراء ليتعبد فيه الليالي ذوات العدد قبل أن يرجع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة (عليها السلام) فيتزود لمثلها، حتى فجأه الحق في السابع والعشرين من شهر رجب الحرام وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال له: اقرأ! (ومضى (صلى الله عليه وآله) على أمر الله مظهراً لأمره لا يردّه عنه شيء) (ص53 - ص62). لقد كانت التفاصيل كثيرة لا تدركها تلك الصفحات لكن الرسول (صلى الله عليه وآله) يتابع وبكل دقة ما تقتضيه ضرورة العمل الرسالي فلم يكترث لمنطق الجاهلين لذا يشتد البلاء عليه مع أصحابه لكن موقفه (صلى الله عليه وآله) يتزايد ويقوى فيشتد أذى قريش عليه (صلى الله عليه وآله) لذا يستعرض سماحته في هذا المورد بما حلّ به (صلى الله عليه وآله) فيقول: (وبموت أبي طالب اشتد البلاء على رسول الله (صلى الله عليه وآله) من قومه وتجرؤوا عليه وكاشفوه بالأذى الشديد وأرادوا قتله إلا أن الله منعهم منه وجرعّوه غصصاً كثيرة) (ص78). لكن النهوض بالأمة لا يقتصر على ذكر الأخطار المحدقة بها دون رد فعل ـ وكذلك لا يستوفي الحديث شروطه دون التحدث عن تاريخ الأمة الحضاري وعوامل النهوض. لذا لكي يأخذ موعد النهضة طريقه للتحدي يأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) أصحابه بالهجرة ـ كما ورد في فصل الهجرة النبوية المباركة. (ثم أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) أصحابه من المهاجرين من قومه ومن معه بمكة من المسلمين بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها، واللحوق بإخوانهم من الأنصار وقال (صلى الله عليه وآله) (إن الله جعل لكم إخواناً وداراً تأمنون بها، فخرجوا إرسالاً وأقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) ينتظر أن يأذن له ربه في الخروج من مكة والهجرة إلى المدينة). (ص135) وتمضي السنون على سعي الأمة للنهوض فيصبح عليها أن تحدد المشكلة الرئيسية في الأمة لتخليصها من براثن الجهل والهلاك، لذا يطالعنا سماحته بالسبل التي اتبعها الرسول (صلى الله عليه وآله) مع الآخرين كما ورد في ص156 لغاية ص185. وجاء في مورد المؤاخاة (ثم آخى رسول الله بين المهاجرين والأنصار من أصحابه وكانوا تسعين رجلاً وقيل ثلاثمائة رجل نصفهم من المهاجرين ونصفهم من الأنصار آخى بينهم على الحق والمساواة) (ص156). وتذهب اليهود لتأجيج العداوات مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) (بغياً وحسداً وضغناً لما خصّ الله به العرب من النبوة) (ص172) إشارة لعداوة اليهود للعرب. لكن الرسالة الجهادية للنهضة المحمدية وعملية التغيير تتطلب عقلاً خاصاً يستتبعه اختيار الطريق الأمثل والوسائل المتاحة لهذا التغيير فماذا يعمل رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ في الفصل الخامس من المجلد الأول يطالعنا سماحته (دام ظله) بذلك المنهج المتكامل للرسول (صلى الله عليه وآله) وهو يقف أمام التحدي الكبير لانتشال الأمة من السقوط، وفي المدينة بعد أن يستقر (صلى الله عليه وآله) ويؤيده الله بنصره تتشكل أول سرية في الإسلام يعقد اللواء فيها لعمه حمزة بن عبد المطلب ويؤمّره على ثلاثين رجلاً من المهاجرين ممن تحملوا الأذى والتعذيب القاسي من مشركي مكة... (ص193). وهكذا حتى شكل باقي السرايا وتدور المعارك مع جيوش الكفر والضلالة. إذ أن الإصلاح لا يتم إلا بهدم مراكز الفساد والانحراف. (ص209) و(في صبيحة اليوم السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية من الهجرة النبوية المباركة انحدر المشركون من وراء الكثيب إلى وادي بدر فلما رآهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ينحدرون من وراء الكثيب الذي جاءوا منه إلى الوادي رفع يديه بالدعاء وقال (اللهم هذه قريش قد اقبلت بخيلائها... اللهم فنصرك الذي وعدتني به...). وحقّق الله له ما أراد وانهزم المشركون. (ص210). ومن خلال استعراض الوقائع والمعارك يضع سماحته (دام ظله) بطريقة إحاطة القارئ، العوامل الكفيلة بدفع الأدلّة للنهوض من خلال التوجه إلى البثور الفاسدة وردمها بعد التوجه العميق والثقة بالقيادة الميدانية والسياسية من خلال استيعاب رسالتها بكل ما تحمله من أبعاد للانطلاق إلى ساحة الجهاد، بالإضافة إلى شروط القائد الرسالي وما يقع على عاتقه من مهام صعبة في قيادة الأمة. ويرسم لنا سماحته طرق تعامل الرسول (صلى الله عليه وآله) مع جيشه في التشاور معهم والتعاون والصبر، وبعكس جيش الشرك والضلالة. وفي المجلد الثاني يحلّل سماحته تلك المعارك التي كانت على طريق الفتح وهو يرسم لنا شروط التحرك ومساراته المتعاقبة.. حتى ينتهي (صلى الله عليه وآله) إلى مكة وفي هذا المورد يذكر لنا الإمام دام ظله كيف أن الرسول قام بتطهير البيت من الأصنام كما ورد في قوله تعالى: (جاء الحقّ وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقا) إسراء، 81. (ص79) ويرد خطاب الرسول (صلى الله عليه وآله) في الناس حيث بث روح المساواة والأخوة ما عبر عنه سماحته بـ(لائحة حقوق الإنسان) حيث قال (صلى الله عليه وآله) في نهاية حديثه (ألا إنكم من آدم وآدم من طين). وقد اختص هذا الفصل بحركة الرسول (صلى الله عليه وآله) وتلك المعارك الدفاعية التي دارت مع جيش الكفار بعد الفتح والسور القرآنية التي نزلت آنذاك مثل سورة براءة التي نزلت في السنة التاسعة من الهجرة النبوية المباركة. (ص176) ثم يستعرض لنا سماحته بتحليل ومقارنة حركات الوفود والرسل بعد النهضة المحمدية المباركة، ونشاطات الرسول (صلى الله عليه وآله) ومكاتباته مع الملوك والرؤساء من صلح الحديبية في السنة السادسة من الهجرة النبوية المباركة حتى ارتحاله (صلى الله عليه وآله). (ص195) إشارة إلى منطق الرسول (صلى الله عليه وآله) في المنهج والستراتيجية السياسية ويستمر سماحته مستعرضاً تفاصيل الموقف بقوله: وتوالت الوفود عليه (صلى الله عليه وآله) يسألونه عن القرآن والسنن فكان منهم وفد طارق ووفد نجيب ووفد بني سعد ووفد بني أسد ووفد بني فزارة جاءوا إليه مقرّين بالإسلام. وهذا تبيان لتأثير الرسالة المحمدية في الموقف العام بين الناس آنذاك. (إلى غير ذلك من وفد المدينة وتشرف باللقاء معه). (ص196 - ص255) وهكذا حتى جاء اليوم الذي يتجهز فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) للحج ويأمر الناس بالجهاز له وكان الحج فريضة أمر الله بها عباده. كما في قوله تعالى (وأذّن في النّاس بالحجّ يأتوك رجالا وعلى كلّ ضامر يأتين من كلّ فجّ عميق). (ص230) وكانت السنن حيث اغتسل (صلى الله عليه وآله) واحرم وصلى ركعتين خلف مقام إبراهيم فلما كان يوم التروية ثامن ذي الحجة عند زوال الشمس أمر الناس أن يغتسلوا ويهلوا بالحج أي يقولوا التلبية. (ص229-242) وهكذا استمدت الشريعة الإسلامية عظمتها وأصالتها من العناية الإلهية فتشربت بروح الوحي السماوي لتنذر قوماً ما اتبعوا، وتجمع أمر الله خوفاً من التفرق والخذلات.. فقال تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله) (إنّ علينا جمعه وقرآنه) و(إنّا نحن نزّلنا الذّكر وإنّا له لحافظون) وجمع القرآن في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليبقى إلى يومنا هذا كما هو عليه. (راجع ص245) وما أن انتهى الرسول (صلى الله عليه وآله) من تلك المهمة حتى جاء اليوم الثامن عشر من ذي الحجة ليتوجه إلى غدير خم حيث نزل عليه الأمين جبرئيل عن الله بقوله تعالى (يا أيّها الرّسول بلّغ ما أنزل إليك من ربّك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته والله يعصمك من النّاس) (ص253) ولما نزل (صلى الله عليه وآله) وقت الظهيرة وصلى ركعتين فكان القرآن يبارك خلافة علي (عليه السلام) فقال (صلى الله عليه وآله): الله أكبر على إكمال الدين، وإتمام النعمة ورضا الرب سبحانه وتعالى برسالتي اليكم والولاية لعلي بن أبي طالب من بعدي. فكانت وديعته (صلى الله عليه وآله) الثقلان أي كتاب الله وعترته الطاهرة وهي من الوصايا الأخيرة له (صلى الله عليه وآله) (ص267).. حتى تأتي اللحظة التي يفارق الإسلام نوره الوضاء، رسول الله (صلى الله عليه وآله). ليقصّ لنا أمير المؤمنين علي (عليه السلام) حكاية جبرئيل وكتاب الوصية جاء فيه: دعاني رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند ارتحاله من هذه الدنيا وأخرج من كان عنده في البيت غيري والبيت فيه جبرئيل والملائكة معه فأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) كتاب الوصية من يد جبرئيل مختومة فدفعها إليّ وأمرني أن أفضها ففعلت وأمرني أن اقرأها فقرأتها فإذا فيها كل ما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوصيني به شيئاً ما تغادر حرفاً.. (راجع النبي (صلى الله عليه وآله) وساعة الوداع ص290) وفي صباح الاثنين ليلتين بقيتا من شهر صفر سنة 11 من الهجرة النبوية المباركة يغادر رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى الملك الأعلى وعمره 63 سنة. (ص297 على مشارف الآخرة) في نهاية المؤلَّف يتناول سماحة الإمام إشارات لا يمكن التغاضي عنها وردت على لسانه (صلى الله عليه وآله). كما في: المعصوم لا يليه إلا معصوم إذ قال ابن مسعود قلت للنبي (صلى الله عليه وآله) وهو في شكاته يا رسول الله من يغسلك إذا حدث بك حادث. قال (صلى الله عليه وآله) يغسل كل نبي وصيه أي علي (عليه السلام). (ص303) وفي خاتمة الكتاب يجري التساؤل على لسان سماحته أيضاً هل يمكن إعادة دور المسلمين حتى يأخذوا بأزمّة العالم مرة ثانية؟ الإمام الشيرازي (دام ظله) في مؤلفه هذا يدعو إلى الالتزام المشروط بالإسلام وتعاليمه السامية فلا نجاة إلا بالتوحد والعمل الخالص فحين يعم الوعي بلا نزاع أو فرقة تصبح عملية العودة إلى قوانين الإسلام الواردة في الكتاب والسنّة، أمراً لابدّ منه وهذا يستدعي رجوع الإسلام إلى زمام القيادة الموحدة كما قال سبحانه وتعالى: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) والعمل والاستفادة من تلك الأحكام التي علّمنا إياها رسول الله (صلى الله عليه وآله). (ص311) |