![]() |
![]() |
قراءة في كتاب (تلك الأيام) شاهد على القرن السياسي للعراق (الإمام الشيرازي والتحولات السياسية) |
أحمد البدوي |
(وتلك الأيام نداولها بين الناس) بهذه الآية بدأ الإمام الشيرازي (دام ظله) كتابه الموسوم بـ(تلك الأيام) وكأنه يُريد أن يأتي من النهاية لشهادته على قرن عراقي، ممتلئ بالتحولات السياسية وتداعياتها في استلالة تأكيدية لسنن الله في المجتمع بهكذا منحى تداولي، لتقرير أن الدنيا وأيامها وعروشها ونقوشها لا تدوم على حال. وأن الباطل زائل لا محالة ولو بعد حين، أو على قدر مقولة ـ في وجهه باطل الحرب ـ: إنك تستطيع أن تفعل كل شيء بالحراب إلا أن تجلس عليها. يؤرخ الكتاب لأكثر من خمسين عاماً مرت على العراق بكل تداعياتها وآلامها، شاهداً مباشراً في عيانه لها وخوضه فيها، فهو لم يكن منزوياً قابعاً بعيداً عن معترك الحياة وأوجاع الناس. ومسؤوليته الإنسانية والدينية والوطنية تجاه شعبه، فهو وسط المعمعة بما أخذت شطراً من حياته الجهادية، حتى أنك لتعجب كيف بلغ هذا الرجل مصافّ العلماء الأفذاذ وهو يقارع الظالمين مباشرة والتواجد بين الناس مع همومهم، إلا أنه توفيق الله في مباركة ساعات حياته. من أراد دراسة منحى الإمام الشيرازي (دام ظله) في حركته إزاء دينه ووطنه، وشعبه طوال هذه الحكومات المتهالكة فوق ركامها ووعيه السياسي والآيديولوجي لموقع الإسلام سياسياً في قيادة الناس فحريّ به أن يطّلع على صداماته ولقاءاته وما دار فيها من حوارات أثار فيها منطقاً جدياً جدلياً أفحم وأثمر، مع عدم تماهيه مع السلطة، لاسيما في لقاءاته، العديدة مع رجالات الحكومة في عهده. فتجد له لقاءً وحواراً مع عبد الرسول الخالص يومئذ في وزارته، ولقاءه بسعيد القزاز وزير الداخلية، ومع وزير المعارف خليل كنة، والشيخ محمد رضا الشبيبي (لبعده الوزاري وليس الديني). وكذلك لقاءاته مع كل من عبد الهادي الجلبي وزير الأشغال العامة، الدكتور عبد الحميد كاظم وزير المعارف، السيد محمد الصدر رئيس الوزراء، وهؤلاء في العهد الملكي، ثم لقاءه في عهد عبد الكريم قاسم بوزير الاقتصاد الدكتور إبراهيم كبة، ومحمد نجيب الربيعي رئيس مجلس السيادة وهو أعلى سلطة عند عبد الكريم قاسم. لقاءه بعبد الكريم قاسم، لقاءه بمحسن الرفيعي مدير المخابرات آنذاك، لقاءه بعبد المجيد كمونة عضو مجلس القيادة، وعبد الرحمن البزاز رئيس الوزراء في عهد عبد السلام عارف، وأخيراً لقاءه بأحمد حسن البكر. غير خافٍ على الجيل المعاصر، مرور حكومات على العراق وشعبه أفضت به إلى طمس كثير من معالم هويته الإسلامية، ضمن مخططات لبّدها الغرب الإمبريالي مع بداية هذا القرن، بكل وسائله الدقيقة والمدروسة وانصهار كثير من الجاهلين والعملاء، في روح تلك المخططات، خوفاً أو طمعاً سلطوياً، أو تخلفاً، أو مرضاً أو حقداً على الإسلام والإنسانية، منذ الحكم المباشر للغرب، وغير المباشر مع الملكية والانقلابات المتتالية وما زال الأمر. لذلك كان على العلماء انطلاقاً من مقولة سيدهم الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام): (على العلماء أن لا يقارّوا على كِضة ظالم ولا سغب مظلوم)، ومن هذا المنطلق المسؤول نجد خطوات كثيرة للإمام الشيرازي (دام ظله) مع هؤلاء على طول المسيرة ـ وهذه سيرة آل الشيرازي في التاريخ من محمد حسن الشيرازي مع ثورة التنباك ومحمد تقي الشيرازي مع ثورة العشرين ـ فهناك حوارات واعتراضات ساخنة، حملتها هذه المذكرات.. في شهادتها التاريخية لتلك الحقبة، إذ يوضح أكثرها البعد السياسي عند السيد الإمام إضافة إلى البعد التعبوي، وروح المسؤولية، إضافة إلى أفقه الاحتجاجي مع هؤلاء في منطقه المتميز، وذلك بوعيه وفهمه في آفاق السياسة العالمية، وقوانينها، ودساتيرها ومناهج ثوراتها ومدارسها. كما تدل على تمحيص الواقع. ومن تلك حواره ـ مثلاً ـ مع سعيد القزاز وزير الداخلية في الحكومة الملكية، وهي تحمل في طياتها تأسيسات لمرافق الدولة وتحليلات لوازمها في البعد السياسي والاقتصادي والأخلاقي الديني وجغرافية الاجتماع المتعلقة بالشرق كل هذا ضمن منطق صارم. فحينما التقى به (القزاز) بمعيّة أحد الأصدقاء، للاعتراض على الفوضى وانعدام الأمن والاستقرار بمدينة كربلاء، وبعد الترحيب قال الإمام: الفساد والإخلال بالأمن والسرقات وهتك الأعراض تكثر هذه الأيام في كربلاء المقدسة وفي باقي المدن. فأجابه القزاز بأننا لا نملك الاستعداد الكافي لمواجهة مثل هذه الأعمال، فالناس حينما ينحرفون يصبح من العسير مواجهة أعمالهم وانحرافاتهم. فالدولة بمقدورها مواجهة ما هو ظاهر.. وغير ذلك ليس ممكناً، كما أنه ليس بمقدور الحكومة تغيير الناس (انتهى توجيه الوزير). حينها قال الإمام (دام ظله) مركزاً على قضية التغيير. قال: الإشكال في هذه المسألة، لماذا تغيّرت حالة الناس؟ لماذا فسدت تربية المجتمع؟ لماذا انعدمت الأخلاق؟ لماذا تقفون مكتوفي الأيدي حتى يحدث ما هو خلاف القانون؟ ـ وهنا تجد الإمام يعرض لهم بمنحى فلسفي للحالة الراهنة آنذاك ولا يبقى معهم على ما هو الواقع .. يستمر: لماذا لا تعملون على توفير الأجواء المناسبة للتربية الصالحة؟ ثم عرض له حالة الناس في أخلاقهم واجتماعياتهم في مدن العراق في خلوها من هذه الأزمات الاجتماعية الأخلاقية الأمنية. ثم بدأ يوجه حلول الانتشال للمجتمع من هكذا انحراف: إن التربية الصالحة كفيلة بتغيير الناس نحو الأحسن، فالتربية قوامها ركنان أساسيان: هما العلماء والحكومة، فالعلماء يقومون بوظائفهم ـ سواء أكانوا خطباء أم فقهاء أم أئمة مساجد ـ من نصح للناس وإرشادهم إلى ما في الخير والسعادة ويوجهون المجتمع التوجيه الصحيح، أما الأعمال الأخرى فهي من مهام الدولة والحكومة. ويدخل إلى عمق الانحراف وأسبابه وعوامل نشوئه: إن من أهم أسباب السرقة والفساد: الفقر والفاقة، فلا بد من مكافحة هذه الظاهرة بأي شكل من الإشكال. فمنشأ الفقر على الأغلب هو القوانين الفاسدة التي لا تستطيع أن توفر العدالة في المجتمع، ولا تستطيع أن تقف قبال الجشع والاحتكار ولا توفر الحريات للناس في ميادين التجارة وغيرها. (انتهى كلام الإمام). ويبين هذا الطرح أمام الوزير ... الصلابة، والجرأة، والالتزام في عرض الإسلام كمنهج كامل للحياة، كذلك تدل على البعد التحليلي للمجتمع في قنواته داخل الدولة. نجد كذلك لقاءً مهماً يحمل تلك الخصائص، وذلك مع خليل كنه وزير المعارف أيام الحكم الملكي. فقد ابتدأ حديثه معه بالحديث الشريف لرسول الله (صلى الله عليه وآله): (صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت أمتي وإذا فسدا فسدت أمتي، الفقهاء والأمراء).وأنتم مصداق الأمراء. فابتسم الوزير قائلاً: الأمراء الذين أنا جزء منهم ليسوا صالحين، ثم أنه ردّد ثلاث مرات: الله يهدي الأمراء. ثم قال: ما هي مطالبكم. فجاءت أطروحات الإمام (دام ظله) ـ وهو على صغر سنه وقتها ـ موضوعنا هو المدارس، فإن مناهجها خالية من الإسلام، فليس فيها ما يمتُّ إلى الدين الحنيف بصلة. قال كنه: وهل أنتم مطلعون على مناهج التدريس؟ ـ وهنا تأتي خبرة السيد الإمام واطلاعه على الأحداث صغيرها وكبيرها، بما يدل على خوضه زمانه بكل ما يمس حركة المجتمع وهويته الدينية. قال الإمام: نعم، إنني طالعت تلك المناهج، صحيح أن فيها الصلاة والصيام وغزوة خيبر وما أشبه ذلك، لكن ليس الإسلام في هذه الأمور فقط. الوزير: إذن ماذا تريدون غير هذا؟ قلت ـ وفي قوله توجيه البعد السياسي للإسلام :ليس في هذه ذكر للجانب السياسي من الإسلام، هل أن النظام السياسي الإسلامي نظام جمهوري أم ملكي؟ هل في الإسلام انتخابات؟ هل في الإسلام مؤسسات دستورية؟ هل أن الإسلام يشرّع الأحزاب؟ وأخذ الإمام (دام ظله) يطرح عليه توجيهات في هذا القبيل. ثم قال: هذا أولاً.. وثانياً: ليس في هذه المناهج ذكر للجانب الاقتصادي في الإسلام، ما هي مميزاته، هل هو نظام اشتراكي أم رأسمالي أم شيء آخر؟ ثالثاً: ليس في هذه المناهج شيء من النظام الاجتماعي الإسلامي على أهميته. رابعاً: ليس في هذه المناهج شيء عن فلسفة الحياة في نظر الإسلام؟ فضحك الوزير قائلاً: والله إني لا أعلم هذه الأشياء فكيف بالمدرسين والطلاب. قال الإمام (دام ظله): المشكلة تكمن هنا، فأنتم الذين تمثلون أعلى سلطة تربوية في البلاد لا تعرفون عن هذه الأمور، لأنكم لم تدرسوها في المدارس، وتسببون بذلك تأخر البلاد ووقوعها في أحضان الغرب والشرق، وتسببون تكبيل الثقافة والمثقفين. فإذا كنتم لا تعرفونها، فكيف حال التلاميذ الصغار الذين يدخلون المدارس ويدرسون دروساً يضعها أُناس لا يعرفون شيئاً عن الإسلام. ثم يعرض الإمام (دام ظله) تداعيات جعل المدارس الثانوية للبنات قريبة من مدارس البنين، فيلتقي الجنسان في الطرقات والأزقة، وتبدأ المشاكل الاجتماعية التي لها آثار وخيمة على الأسر وعلى مصير ومستقبل الفتيات (انتهى توجيه الإمام). وعلى هذه الشاكلة تجد توظيف الإمام (دام ظله) لتحليلات وارتكازات يضعها أمام هذه الحكومات، في كل الأبعاد التي تكتنفها الحياة ولكنهم ملوك.. على أي نحو كان عرشهم ـ فهو باحث اجتماعي يضع علل الاجتماع واختزالاته وحلوله، وهو سياسي يستعرض الخطوط العريضة للدبلوماسية الاستعمارية، ونظام المدينة الفاضلة. ثم يذكر الإمام (دام ظله) المشهد الثقافي ووجهه في تلك الحقبة لاسيما في كربلاء المقدسة. فيذكر أن هناك خمس عشرة مجلة تصدر عن مدارس وجمعيات منها: مجلة (الأخلاق والآداب) التي كانت تصدر عن مدرسة السليمية التي شيّدت عام 1250 هـ. ومجلة (القرآن يهدي) ومجلة (صوت العترة) من مدرسة ابن فهد الحلي، ومجلة (مبادئ الإسلام) باللغة الإنجليزية و(منابع الثقافة الإسلامية) عن مدرسة بادكوبة ومجلة (أعلام الشيعة) من مدرسة الكتاب والعترة. ومجلة (نداء الإسلام) من مدرسة الحافظ الثانية و(صوت المبلغين) ومجلات أخرى. إضافة إلى قرابة ثلاثين مدرسة خاصة بطلبه العلوم الدينية. وكان أيضاً هنالك حوار ساخن له مع وزير المعارف في العهد الملكي الدكتور عبد الحميد كاظم في موضوع إعادة النظر في المناهج الدراسية تطرق فيه إلى آفاق منهجية بما يعرض في إسلام داخل هذه المناهج في وجه من وجوهه يفضي إلى أن يكون التاريخ مقتطعاً بعيداً عن هويته التامة، وعرض قدوات غير واقعية. إذن فهو تزوير للتاريخ وتقوّل على الواقع المنصرم، الواقع الذي صنع الحضارة الإسلامية الحقة. ثم عرض عليه ركائز إسلامية من (القرآن، والسنة، والعقل) في الاقتصاد الإسلامي، ثم عرّج على مفاهيم ملحّة للواقع من قبيل الحرية والعدالة الاجتماعية. ونظام الحكم والطبقيات، إلا أن الدكتور عبد الحميد مع استملاحه الحديث واعترافه بذلك اعتبر هذه الأفاق المطروحة من قبل الإمام (دام ظله) في قوانين الإسلام.. آفاق مثالية غير قابلة للتطبيق. وللإمام (دام ظله) نقاشات ساخنة أكثر مع السيد الصدر أيام وزارته في موضوع منطق الدولة، آخذاً فضاءات توجيهية مهمة، كذلك كان هذا الوطر مع وزير الاقتصاد في حكومة عبد الكريم قاسم، واللطيف أنه قد تم في مقبرة والده في الحرم الحسيني، وهو مكان تدريس الإمام ولقاءاته وهذا قد يومئ إلينا أن اختيار الإمام الشيرازي المقبرة للتدريس وللقاء ليكون دائماً يعيش يقين الحقيقة والفلسفة الأعظم: أنك أيها الإنسان زائل لا محالة وهذا هو مكانك، فكين في دنياك من أجل تلك النهاية وشكلها، من هنا يكون كتاب تلك الأيام ـ لندرة تدشين الشهادات السياسية لعلماء الدين ـ ذو أهمية في معرفة الألوان السياسية والاجتماعية لتلك الحقب. |