في ذكراه الثامنة عشرة .. فقيهٌ مصلح وعالمٌ عامل




 

 

موقع الإمام الشيرازي

27/جمادى الأولى/1447

 

 

تمرّ الذكرى الثامنة عشرة لرحيل الفقيه والعابد، والعالم المصلح، آية الله الفقيه السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي (قدس سره)، اليوم، فيما لا يزال اسمه حاضراً في الذاكرة العلمية والدينية والثقافية، وحيّاً في ضمير محبيه وتلامذته. فقد تميز الفقيه الراحل بسعة علمٍ استثنائية، وباطلاعٍ واسع على الأديان وثقافات الأمم وتاريخ الحضارات، وبقدرة لافتة على مواكبة قضايا العصر ومستجدات الفكر والمعرفة.

كان مجلس درسه، في الفقه والأصول والأخلاق والمجتمع، ملتقى لعلماء وفضلاء وباحثين وحشد واسع من الناس، ينهلون من عمقه ودقته وإحاطته. لم تكن محاضراته مجرد عرض للمسائل، بل كانت رحلة فكرية ذات بناء محكم، يغور فيها في التفاصيل دون أن يفقد صلته بالمحور الأساس، ودون أن يربك شغف السامعين الذين اعتادوا الاستزادة من بيانه الهادئ ومنهجه المتين.

لم يكن الفقيه الراحل عالماً فحسب، بل كان نموذجاً في الورع ومثالاً في الأخلاق والتواضع والتقوى. عُرِفَ مربّياً بصيراً، وخطيباً قادراً على مخاطبة العقول والقلوب معاً، يجمع بين صفاء الروح، ووضوح الفكر، ودقة التحليل، وعمق التأمل والنظر. وله مؤلفات ومحاضرات تُعَد جزء مهماً من الفكر الإسلامي المعاصر.

دعوة دائمة إلى التفقّه والإصلاح

كان الفقيه الراحل يضع التفقّه في الدين — ولا سيما في العقائد — في منزلة الأصل والأساس، مؤكداً أنّ استقامة الفكر هي التي تؤدي إلى استقامة العمل. وكان يحثّ المؤمنين على تخصيص وقت يومي للتعلم: "ولو كان مقدارا قليلاً جداً"، لأن المعرفة — في نظره — هي طريق البناء الروحي والإنساني والحضاري.

كما شدّد(قده) على المسؤولية الاجتماعية، داعياً إلى تشكيل لجان تعنى بخدمة المجتمع دينياً وثقافياً وإنسانياً، منسجماً في ذلك مع فهم عميق لقول الله تعالى: (وأمرهم شورى بينهم)(الشورى: 38). وكان يعتبر خدمة الناس وقضاء حوائجهم من أفضل الأعمال، ومن أوسع أبواب التقرب إلى الله.

وعي بالزمن واستثمار للعمر

كان الفقيه الراحل يستذكر دائماً هشاشة العمر وسرعة انقضائه، مذكّراً بقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): "اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل" (نهج البلاغة: خطبة 84). وكان يوصي بعدم الاكتفاء بما مضى من أعمال، لأن الإنسان — مهما عمل — يبقى مقصّراً أمام عظمة الله، وأن الواجب هو المسارعة إلى العلم والعمل الصالح قبل فوات الأوان.

إرثٌ حاضر

إنّ ما خلّفه الفقيه الراحل من علمٍ وفكر ورؤى إصلاحية يمثل ذاكرة حية، وزاداً للباحثين عن الحقيقة. فقد كان يؤمن بأن الإصلاح مسيرة طويلة، تُكتَب بالمداد حيناً وبالدموع والتضحيات حيناً آخر، وأن هذه المسيرة تحتاج إلى وعي وعزم وحكمة وصبر. وكان يقول إن كل قيمة نبيلة لا تُبنى إلا بنموذج واقعي يجسّدها على الأرض، ولهذا بقي أثره ممتداً، إذ صنع في محبيه وتلامذته نماذج تسعى للعمل بما علّم وأرشد.

آية الله، الفقيه، السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي، قضى نحبه، ووفد إلى رب رحيم كريم، غير أنّ ساحات العمل ما تزال مفتوحة تنتظر العاملين، وحَملُ الرسالة ما يزال ثقيلاً يحتاج إلى مَنْ يواصل الطريق. أمّا هو فقد ترك أثر عالم عامل، وفقيه مصلح، ونموذج نادر في الجمع بين المعرفة والورع والإصلاح.