في ذكرى رحيله .. السيد محمد رضا الشيرازي في الوجدان العراقي




 

 

موقع الإمام الشيرازي

25/جمادى الأولى/1447

 

 

في السادس والعشرين من جمادى الأولى 1429هـ، فقدت الحوزات العلمية وأوساط واسعة من المؤمنين واحداً من أبرز وجوه الزهد والعلم والتقوى والعمل الإيماني والإنساني النقي، آية الله السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي (قدس سره)، الذي رحل في ظروف بقيت غامضة، تاركاً إرثاً علمياً وأخلاقياً وقيمياً عميقاً.

وبعد أن ودّعته قم المقدسة، عاد السيد الفقيد إلى العراق الذي ظلّ يسكن قلبه، فعبّرت القرى والمدن واحدة تلو الأخرى عن حزنها وتقديرها باستقبال يليق بعالِمٍ حملَ همومه العراق طويلاً. فنُكِّسَتْ الأعلام عند حدود الوطن، وقُرِعَتْ طبول العسكر حزناً، وسار موكب الجثمان بخطى ثقيلة محمّلة بذكريات وآلام وتضحيات.

رغم أنهم تعرفوا عليه منذ سنوات قليلة، وجد العراقيون في السيد الفقيد صورة لما قاله عنه سماحة المرجع السيد صادق الشيرازي يوم رحيله: "كان مَثَلاً للإيمان والعمل الصالح".

فإن مَنْ عرفه عن قرب يدرك حجم محبته للعراق وشعبه، وحجم الألم الذي سبّبته له سنوات الاستبداد والتهجير والشتات التي أبعدت آلاف العوائل، ومنها آل الشيرازي.

صوت الحكمة في زمن الفوضى

مع سقوط النظام السابق عام 2003 وبداية مخاض التحوّل السياسي، كانت الساحة العراقية غارقة في الفوضى، وصعود قوى إقليمية، وتغلغل جماعات إرهابية، وانفجار تحديات الأمن والفساد. في تلك اللحظة القاتمة، برز صوت السيد الفقيد ليقدّم خطاباً مختلفاً، خطاباً يميّز التدين الحقيقي عن التدين الشكلي، ويوازن بين الإيمان والواقعية، وبين الثبات الروحي والحكمة السياسية.

كان يقول:

"إن الحرب على العراق بلا حدود… وتحتاج إلى صبر بلا حدود".

ولذلك لم يكتف بالتحذير، بل رسم ملامح منهج إصلاحي قائم على الوعي والتفكير السليم. فالقرار، كما كان يشدد، يبدأ من نمط التفكير. ويقول في واحدة من عباراته العميقة:

"الملاحظة الدقيقة والتفكير العميق هما الخطوة الأولى لأي مسيرة حضارية".

وفي مواجهة اليأس الذي ضرب المجتمع بعد انهيار الدولة وتفكك الأمن، وانتشار الفشل والفساد، وتفاقم الخيبة بفشل عارم لسياسيين زعموا أنهم إسلاميين، كان يؤكد:

"الإنسان المؤمن يمتلئ قلبه أملاً حتى في أشد الأزمات

مذكّراً بأن التغيير كان دائماً ثمرة لحركات صغيرة بدأت في أشد اللحظات التاريخية ظلمة.

كان هذا الصوت يصل إلى العراقيين عبر الفضائيات الجديدة يومذاك، وعبر مواقع التواصل الاجتماعي وزيارات العراقيين إلى قم. وخلال تلك السنوات، تكوّنت حوله دائرة واسعة من الشباب والمثقفين والعائلات الباحثة عن بوصلة أخلاقية وروحية وسط الخراب العميم.

رحلة الجثمان… وذاكرة الألم

حين عاد جسده الطاهر إلى العراق، لم يكن ذلك مجرد تشييع، بل كان استعادة لذاكرة طويلة من الألم المشترك بين العراقيين وآل الشيرازي. فالعراقيون الذين استقبلوا جثمانه في المدن والقرى كانوا يستحضرون معه محن أبيه المرجع الديني المجدد، السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره)، الذي لاقى ما لاقى حتى رحل في ظروف مؤلمة، ويستذكرون كذلك اغتيال عمّه الشهيد المفكر السيد حسن الحسيني الشيرازي (قدس سره).

وفي النجف الأشرف، مدينة الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، اصطف علماء وأساتذة ومسؤولون حكوميون وحزبيون وممثلو عن المسيحيين والصابئة الأعزاء، وحشد من المؤمنين والمؤمنات، بعضٌ حمل صورة السيد الفقيد، وبعضٌ آخر حمل أكاليل الورد لاستقبال جثمان السيد الفقيد.

وفي كربلاء المقدسة، حيث عاش السيد الفقيد طفولته وصباه، كان المشهد أكثر وجداناً؛ إذ احتشدت المدينة بأسرها لتوديع أحد أبنائها البررة. وانتهت الرحلة بالصلاة على جثمانه الطاهر، عند ضريح أبي الأحرار وسيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام)، حيث ووري الثرى في حضرة جدّه الإمام السِبط الذي استلهم منه مسيرته.

إرث لا ينطفئ

إن بقاء ذكرى آية الله، السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي(قده)، حيّة نضرة بهية ومؤثرة يعود إلى أمرين أساسيين: سمو الفكر ونبل السلوك؛

فقد كان(قده) يرى أن القيم لا تُبنى بالمواعظ وحدها، بل بـ"النموذج الواقعي" الذي يجسدها. ولذلك كانت شخصيته الهادئة جداً والمتواضعة جداً والعميقة جداً والمؤثرة جداً، ومحبته الغامرة للناس، وميله للإصلاح بالحكمة، حاضرة في كل مَنْ عرفه.

وهكذا، فإن خمسة عقود من العمل العلمي والتربوي والفكري والأخلاقي والإنساني تحولت إلى تراث مجيد، فقد كان(قده) يؤمن بأن الإصلاح "منهج" يتوارثه العاملون، وأن بلاء الأيام قد يطوي أسماء العلماء إن لم تُصن تجاربهم.

واليوم، في ذكرى رحيله، يتجدد السؤال:

كيف يمكن أن نحفظ هذا الإرث؟

والجواب، كما كان الفقيد يكرر، يبدأ بالعمل والمثابرة والوعي واستثمار تجارب القادة الأفذاذ. فالأمم لا تنهض إلا حين تبني من حيث انتهى السابقون.

وقال: "علينا بالقناعة في علاقاتنا مع الآخرين، وألاّ نتوقع الكثير منهم، وعلينا أن نقاوم حالة افتقاد الأمل أو حالة العيش بلا هدف، فإن لدينا من الكنوز ما يفتقدها الآخرون، كالمعارف الموجودة في نهج البلاغة والصحيفة السجادية."

وقال: "يجب أن نستثمر هذه الأعوام القليلة، المتبقية من أعمارنا، في هذه الدنيا، والتي لا تشكل إلاّ جزء ضئيلاً من أعمارنا الحقيقية، فما أقصر الفترة القصيرة التي نقضيها في هذه الحياة. ولا حول ولا قوة إلا بالله."