الإمام الشيرازي الراحل .. السلام قيمة دينية وضرورة إنسانية |
|
|
|
|
|
(الذكرى الرابعة والعشرون لرحيله قدس سره)
موقع الإمام الشيرازي
في الواقع المعاصر، شهدت عدة دول إسلامية، تصاعداً في الحركات المسلحة التي اتخذت من السلاح وسيلة لتحقيق أهدافها السياسية أو الاجتماعية. هذه الحركات، سواء كانت فصائل مقاومة أو مليشيات محلية، غالباً ما بررت مسارها المسلح بالدفاع عن الحقوق أو مواجهة الظلم. لكن النتيجة كانت كارثية على الشعوب المسلمة، حيث أدت هذه الصراعات إلى دمار واسع، وتشريد الملايين، وتفكك المجتمعات، فضلاً عن تعميق الانقسامات الطائفية والسياسية. تبرز أهمية رؤية الإمام الشيرازي، التي تقدم السلم كبديل استراتيجي ينطلق من موقع القوة لا الضعف. يؤكد (قدس سره) أن اللاعنف لا يعني الخنوع أو الاستسلام، بل هو أسلوب مقاومة فعّال يعتمد على الحوار والعقل والصبر.
------------------------------ يُعد المرجع الديني المجدد السيد محمد الحسيني الشيرازي (1347 – 1422هـ)، شخصية فكرية استثنائية، تميزت بغزارة إنتاجها العلمي وتنوعه، حيث تجاوزت مؤلفاته الألف كتاب، تناولت قضايا دينية واجتماعية وسياسية وتاريخية بأسلوب يجمع بين العمق الفقهي والحس الإنساني. من بين أبرز ما تركه الإمام الشيرازي، رؤيته المتكاملة حول السلم والسلام، التي تبلورت في كتبه مثل "فقه السلم والسلام" و"اللاعنف في الإسلام"، فضلاً عن العديد من الكتابات والمحاضرات التي عكست اهتمامه العميق بترسيخ ثقافة اللاعنف كبديل عن العنف والصراعات التي أنهكت الأمة الإسلامية وأيضاً البشرية عموماً. هذا المقال، يستعرض أهمية هذه الرؤية ودورها في مواجهة الواقع المعاصر الذي شهد تصاعد المسارات المسلحة لدى بعض الحركات الإسلامية، وما ترتب على ذلك من مآسٍ للشعوب المسلمة. مفكر السلام واللاعنف ألَّف الإمام الشيرازي العديد من المؤلفات، منها موسوعته الفقهية التي تضم حوالي 160 مجلداً، وهي الأضخم من نوعها بجهد فردي. لكن ما يميزه ليس فقط كم إنتاجه، بل عمق رؤيته في معالجة قضايا الأمة، ومن أبرزها دعوته إلى السلم واللاعنف كمنهج حياة وسلوك اجتماعي وسياسي. في كتابه "فقه السلم والسلام"، الذي صدر في 816 صفحة، قدم دراسة فقهية شاملة تستند إلى القرآن الكريم وسيرة النبي الأعظم وأهل بيته الطيبين الطاهرين (عليهم السلام) لتأكيد أن الإسلام دين سلام في جوهره، وأن العنف ليس إلا استثناء مشروطاً بضوابط صارمة. يرى (قدس سره) أن السلم ليس مجرد غياب الحرب، بل هو ثقافة شاملة تشمل العلاقات بين الأفراد والمجتمعات والدول، وتتطلب بناءً فكرياً وأخلاقياً يقوم على التسامح والحوار والعدالة. السلام في مواجهة العنف في الواقع المعاصر، شهدت عدة دول إسلامية، تصاعداً في الحركات المسلحة التي اتخذت من السلاح وسيلة لتحقيق أهدافها السياسية أو الاجتماعية. هذه الحركات، سواء كانت فصائل مقاومة أو مليشيات محلية، غالباً ما بررت مسارها المسلح بالدفاع عن الحقوق أو مواجهة الظلم. لكن النتيجة كانت كارثية على الشعوب المسلمة، حيث أدت هذه الصراعات إلى دمار واسع، وتشريد الملايين، وتفكك المجتمعات، فضلاً عن تعميق الانقسامات الطائفية والسياسية. في فلسطين، على سبيل المثال، أدى استمرار الصراع المسلح إلى معاناة إنسانية هائلة للشعب الفلسطيني، رغم المقاومة، حيث تحولت القضية من هدف تحرير إلى دوامة من العنف المتبادل. وفي لبنان، أسهمت الحروب الأهلية والصراعات المسلحة بين الفصائل في إضعاف البلاد اقتصادياً واجتماعياً. أما في اليمن والعراق، فقد أدت الحروب الداخلية والتدخلات الخارجية إلى انهيار الدولة وتفاقم الأزمات الإنسانية، مما جعل الشعوب تدفع ثمناً باهظاً لخيارات العنف. هنا تبرز أهمية رؤية الإمام الشيرازي، التي تقدم السلم كبديل استراتيجي ينطلق من موقع القوة لا الضعف. يؤكد (قدس سره) أن اللاعنف لا يعني الخنوع أو الاستسلام، بل هو أسلوب مقاومة فعّال يعتمد على الحوار والعقل والصبر. في كتابه "اللاعنف في الإسلام"، يستحضر (قدس سره) السيرة النبوية، مشيراً إلى أن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) استخدم اللاعنف في مكة لمواجهة اضطهاد قريش، مما أتاح له كسب القلوب قبل الأرض. وحتى عندما تحول المسلمون إلى استخدام السلاح في المدينة، كان ذلك دفاعاً مشروطاً ولرد الاعتداء فقط، وليس كنهج دائم. السلم كقيمة إنسانية ودينية يرى الإمام الشيرازي أن السلم قيمة إنسانية ودينية متأصلة في الإسلام، مستنداً إلى قوله تعالى: "وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ" (الأنفال: 61). في نظره، السلم ليس مجرد تكتيك سياسي، بل هو منهج حياة يبدأ من الفرد وينتهي بالمجتمع. في كتاب "فقه السلم والسلام"، يصنف الإمام الشيرازي العنف إلى أنواع، منها العنف النفسي (المتعلق بالإنسان نفسه)، والعنف الغيري (انتهاك حقوق الآخرين)، والعنف السياسي (استخدام القوة للسيطرة على السلطة)، داعياً إلى نبذ كل أشكاله والتمسك باللاعنف كشعار واقعي يترجم في القول والعمل. في سياق الواقع المعاصر، يمكن أن تكون هذه الرؤية حلاً للخروج من دوامة العنف. فبدلاً من اللجوء إلى السلاح، يدعو (قدس سره) إلى تعزيز ثقافة الحوار والتسامح، وفتح المجال للتعددية الفكرية والسياسية، معتبراً أن قمع الأصوات المختلفة هو أحد أسباب تفشي العنف. كما يشدد على أهمية دور الإعلام والتعليم في نشر هذه الثقافة، مقترحاً برامج توعوية تبرز مزايا السلم ومخاطر العنف. اللاعنف كاستراتيجية مقاومة من أبرز ما يقدمه الإمام الشيرازي هو تحويل اللاعنف إلى استراتيجية مقاومة فعّالة. في كتابه "اللاعنف منهج وسلوك"، يشير إلى أن الأنبياء والمصلحين نجحوا في دعواتهم بفضل اعتمادهم على هذا النهج. على سبيل المثال، يستذكر موقف الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي قال في أمر الخلافة: "والله لأُسلِّمنَّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جورٌ إلاَّ عليَّ خاصة" (نهج البلاغة)، معبراً عن زهده في السلطة من أجل حفظ استقرار الدولة وسلامة الشعب. هذا الموقف يعكس كيف يمكن للاعنف أن يكون أداة قوة تحافظ على المجتمع وتمنع الفتن. في السياق المعاصر، يمكن تطبيق هذه الاستراتيجية في مناطق الصراع عبر تعزيز المقاومة السلمية، مثل التظاهرات والعصيان المدني، التي أثبتت فعاليتها في العديد من التجارب العالمية. كما يمكن أن يسهم الحوار بين الأطراف المتصارعة في إنهاء الحروب الداخلية وإعادة بناء الدولة. دعوة لإحياء ثقافة السلام في زمن تتصاعد فيه الصراعات المسلحة وتتفاقم معاناة الشعوب المسلمة، تظل رؤية المرجع الديني المجدد السيد محمد الحسيني الشيرازي (1928-2001) حول السلم والسلام منارة فكرية ودينية تُنير الطريق نحو مستقبل أفضل. إن دعوته إلى اللاعنف ليست مجرد نظرية مثالية، بل هي منهج عملي يمكن أن يُحدث تغييراً حقيقياً إذا ما تم تبنيه من قبل الأفراد والمجتمعات والقادة. في واقع معاصر يعاني من ويلات الحروب والانقسامات، يصبح تعزيز ثقافة السلام أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى، ليس فقط كقيمة دينية، بل كضرورة إنسانية تحمي الأمة من المزيد من المآسي وتفتح أبواب الأمل لأجيال قادمة. إن إرث الإمام الشيرازي في هذا المجال يدعونا جميعاً للتأمل والعمل. 11 / شوال / 1446هـ |
|
|
|
|
|
|
|