الفهرس

آية الله السيد محمد رضا الشيرازي

الصفحة الرئيسية

 

أدلة جواز الترتب

وقد استدل لجواز الترتب بأدلة:

(الدليل الأول)

ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) وهو يتألف من مقدمات، والعمدة منها ثلاث:

(المقدمة الأولى)

إن الواجب المشروط لا يخرج عما هو عليه بعد تحقق شرطه، لأن شرائط التكليف ترجع إلى قيود الموضوع، والموضوع لا ينسلخ عن الموضوعية بعد وجوده خارجاً، والسبب في ذلك أن الأحكام الشرعية مجعولة على نهج القضايا الحقيقية لا الخارجية.

ولعل القول بالانقلاب نشأ من جهة خلط موضوع الحكم بداعي الجعل بتوهم أن شرط التكليف خارج عن موضوعه ومن قبيل الداعي لجعل الحكم على موضوعه فبعد وجوده يتعلق الحكم بموضوعه ولا يبقى للاشتراط مجال، وذلك مبتنٍ على أن تكون القضايا المتكلفة لبيان الأحكام الشرعية من قبيل الإخبار عن إنشاء تكاليف عديدة يتعلق كل واحد منها بمكلف خاص عند تحقق شرطه وقد بيّنا بطلانه.

وهذا الخلط وقع في جملة من المباحث منها ما نحن فيه فإنه توهم أن الأمر بالمهم يصير مطلقاً أيضاً بعد عصيان الأمر بالأهم فيقع التزاحم بين الخطابين. انتهى.

هذه المقدمة أسست لبيان: عدم المطاردة بين الأمر بالمهم والأمر بالأهم.. باعتبار تأخره عنه في الرتبة، لا قبل تحقق الشرط فقط، بل بعده أيضاً..

أما الأول فلأخذ عصيان الأمر بالأهم في موضوع الأمر بالمهم، والعصيان متأخر عن الأمر بالأهم، كما أن المحمول متأخر عن الموضوع، فيتأخر الأمر بالمهم في الرتبة عن الأمر بالأهم.

وأما الثاني ـ وهو مصب البحث في هذه المقدمة ـ فلأن شرط الواجب المشروط يرجع للموضوع، وهو لا يتبدل بتحقق الشرط في الخارج وعدمه، فيظل الأمر بالمهم مشروطاً بعصيان الأمر بالأهم، فيظل التأخر الرتبي بين الأمرين، فتنتفي المطاردة من البين.

وفي هذه المقدمة مواقع للنظر:

أولاً: إن حديث الاحتفاظ بالهوية وعدم الانقلاب لا يختص بالموضوع، بل يعم كل ما يتعلق بالقضية الحكمية، فالموضوع يبقى على ما هو عليه، والحكم لا يتبدل، والشرط لا يخرج عن كونه شرطاً ـ ولو فرض القول بعدم رجوعه إلى الموضوع (إلا في حالات طرو النسخ ونحوه).

والسبب في ذلك: أن (القضية الحكمية) يتحقق لها وجود فعلي بإنشاء المولى الحكم على الموضوع المقدر الوجود، دون أن تكون لها حالة انتظارية، أو تبدل، أما الأول فلأنه يستحيل انفكاك (المنشأ) عن (الإنشاء)، استحالة انفكاك الانكسار عن الكسر، والوجود عن الإيجاد، وأما الثاني فلأنه يستحيل انقلاب المعلول عما هو عليه بدون تبدل في ناحية علله الوجودية ـ والمفروض في المقام عدمه.

وبتقرير آخر: الحكم المشروط له مراحل أربع: الملاك، والإرادة، والجعل، والمجعول...

أما المجعول فلا يوجد إلا بوجود موضوعه، وإلا لزم انفكاك المعلول عن علته.

وأما الجعل فتبدله من الاشتراط إلى الإطلاق يحتاج إلى علة، وليست إلا تبدل الملاك والإرادة، أو الإرادة وحدها ـ ولا يتصور الفرض الثاني إلا في المولى العرفي ـ والمفروض عدم التبدل فيما نحن فيه، فيبقى الحكم على ما كان عليه، لبقاء علته على ما كانت عليه.

ومنه يظهر عدم الفرق في ذلك بين القضايا الحقيقية، والقضايا الخارجية التي ينشأ الحكم فيها معلقاً على تحقق الشرط في الخارج، إذ جانب (الجعل) يمثل الثبات في كلتا القضيتين، وجانب (المجعول) و (الخارج) يمثل التغير في كلتيهما دون فرق بينهما أصلاً.

وعليه: فلا ملزم لإرجاع الشرط إلى الموضوع، لاشتراك الأمرين في الثبات وعدم الانسلاخ عما هما عليه.

ثانياً: إن (رجوع شرائط التكليف إلى قيود الموضوع):

(إن) أريد به (رجوع شرائط الجعل ـ أي علله ودواعيه التي يتوخى الحصول عليها ـ إليها) ففيه أنه يستحيل كون الداعي قيداً للموضوع لأنه يلزم منه خروج الواجب المطلق عن كونه واجباً مطلقاً أو تحصيل الحاصل أو الأمر بالشيء بلا ملاك يقتضيه، كما في قوله تعالى: (وأقم الصلاة لذكري)[1] فإنه لو جعل الموضوع (المكلف المتذكر) فقبل أداء الصلاة لا يكون لها وجوب ضرورة أن الحكم لا يدعو إلى موضوعه إذ أن وجوده متفرع على وجود موضوعه، فدعوته إليه تستلزم تقدم الشيء على نفسه، بل على علته، وحين أداء الصلاة يكون الأمر بأدائها تحصيلاً للحاصل، وبعد الأداء يكون الأمر بلا ملاك يقتضيه، لفرض استيفاء الملاك من قبل.

و (إن) أريد به (رجوع شرائط المجعول إليها) ففيه ما في (التهذيب) من أن القيود بحسب نفس الأمر على قسمين:

(قسم) يرجع إلى المادة والمتعلق بحيث لا يعقل إرجاعه إلى الحكم والإرادة كما إذا تعلق بالصلاة في المسجد غرض مطلق، فالوجوب المطلق توجه إلى الصلاة في المسجد، فيجب على العبد بناء المسجد والصلاة فيه.

و (قسم) يرجع إلى الوجوب والحكم ولا يعقل عكسه كما إذا لم يتعلق بإكرام الضيف غرض معتد به إلا أنه إذا ألم به ونزل في بيته يتعلق به الغرض ويحكم على عبيده بأن يكرموه إذا نزل فالقيد حينئذ قيد لنفس التكليف لا يعقل إرجاعه إلى المادة لأنه يستلزم أن يتعلق بإكرامه إرادة مطلقة فيجب عليهم تحصيل الضيف وإنزاله في بيته.

فإرجاع جميع الشروط إلى الموضوع يستلزم إلغاء ما هو الدائر بين العقلاء من إنشاء الحكم على قسمين بل ظهور الإرادة على ضربين، وقد عرفت أن اختلاف الواجب المشروط والمطلق لبّي واقعي، فلا يجوز الإرجاع بعد كون كل واحد معتبر لدى العرف، بل بينهما اختلاف في الآثار المطلوبة منهما في باب الأحكام. انتهى.

وهذا الإشكال بشقيه لا يرد على ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره).

أما الأول: فلانصراف كلامه عن شرائط الجعل.

وأما الثاني: فلأن المراد بـ (الموضوع) في الاصطلاح هو (المكلف) ـ كما صرح به المحقق النائيني في مواضع من كلامه وكما ذكره المورد نفسه ـ ورجوع شرائط التكليف إلى الموضوع لا يلغي الواجب المشروط فقولنا: (المكلف يجب عليه الحج إذا استطاع) لو رجع إلى (المكلف المستطيع يجب عليه الحج) لم يضر بكون وجوبه مشروطاً لبّاً، وإن اختلف التعبيران لفظاً، لعدم داعوية الحكم إلى إيجاد موضوعه، فيبقى الوجوب مشروطاً ومنوطاً بتحقق الموضوع، وأما قيد المادة وحدها فليس من شرائط التكليف، بل هو من شرائط المتعلق، فهو أجنبي عن كلامه، فلا يرد عليه: أن رجوعه إلى الموضوع يخرج الواجب المطلق عن كونه كذلك كما في قولنا: (صل عن طهارة) إذا رجع إلى (المكلف المتطهر يجب عليه الصلاة) إذ يكون وجوبها ـ حينئذ ـ ثابتاً على تقدير اتفاق التطهر، وهو خلف.

ثالثاً: لو رجعت الشرائط إلى القيود ـ في الموضوع أو المتعلق لم يصح الاستصحاب في مثل (الماء نجس إذا تغير) ـ فيما لم يعلم كون المناط التلبس بالتغير ولو آناً ما ليشمل الحكم حالة انقضاء التلبس، أو أن المناط هو التلبس بالفعل ـ وذلك لعدم إحراز وحدة موضوع القضيتين، وهي شرط جريانه.

وفيه: أنه ليس المناط في بقاء الموضوع: البقاء الحقيقي العقلي، ولا بقاء ما أخذ موضوعاً في لسان الدليل، بل البقاء العرفي ـ على ما فصل في مباحث الاستصحاب ـ ولا فرق فيه بين كون الوصف مأخوذاً في الشرط أو الموضوع، فرجوعه إليه ليس بضائر.

رابعاً: إن ما ذكره (قدس سره) إنما يتم لو كان الأمر بالمهم مشروطاً، وأما لو كان معلقاً فلا ـ على ما سبق في أدلة القول بالامتناع ـ.

لا يقال: لو لم تقيد الهيئة كان الوجوب فعلياً، فيترشح على المقدمة من ذيها ـ ولو عقلاً ـ لتبعيتها له في الإطلاق والاشتراط، وخصوصية الشرط في المقام تمنع عن وجوبه، وإلا لزم اجتماع الضدين.

لأنه يقال: ينتفي الترشح في حالات ثلاث:

أحدها: كون المصلحة مقتضية لأخذ الشرط بوجوده الاتفاقي مناطاً للتنجز كالاستطاعة بالنسبة إلى الحج مثلاً.

ثانيها: وجود المانع العقلي كخروج المقدمة عن حيز القدرة مثل شرطية الدلوك لوجوب الصلاة.

ثالثها: وجود المانع الشرعي فإنه كالعقلي، مثل ما نحن فيه حيث أخذ الوجوب فيه على نحو لا يترشح على هذه المقدمة، حذراً من اجتماع الضدين، ولذا يترشح على غيرها من المقدمات ـ ولو عقلاً ـ لو فرض معلقاً، فتأمل.

هذا ولا يخفى أن ذلك لا يرد على مسلك من أنكر وجود الواجب المعلق، بل إمكانه، كما هو مسلك المحقق النائيني (قدس سره).

خامساً: ما في (آراء الأصول) من أن الشرائط غالباً تصرمية، وبوجودها التصرمي تكون عللا لتعلق الحكم بالموضوع، فكيف ترجع للموضوع.

ويرد عليه: أنه لو فرض رجوع الشرط إلى الموضوع فإنما يؤخذ فيه بنفس مفهومه حين كان شرطاً، فلا يكون هناك فرق بين أخذه في الشرط أو الموضوع من هذه الجهة، وهكذا الأمر بالنسبة إلى المتعلق، ففي قولنا: (الماء إذا تغير ينجس) إن كان التلبس بالتغير فعلاً، شرطاً، أخذ في المتعلق كذلك، فلا محالة ينتفي بانتفاء التلبس الفعلي، وإن كان التلبس آناً ما شرطاً فلا محالة يستمر الحكم ولو بعد انتفاء التلبس، وفي كلتا الحالتين لا فرق بين أخذ التغير شرطاً خارجاً عن المتعلق أو شرطاً داخلاً فيه.

سادساً: إن التأخر الرتبي لا ينافي التقارن الزمني، بل قد يجب معه، فإن المعلول وإن تأخر بلحاظ الرتبة عن العلة إلا أنه يقارنها في الزمان ـ وإلا لزم انفكاك العلة التامة عن معلولها، وجواز الانفكاك في كل آن لأن حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد، وهو مساوق لإنكار العلية رأساً ـ.

وعليه: فإن الأمر بالمهم وإن تأخر عن الأمر بالأهم في الرتبة ـ لأخذ عصيانه في موضوعه ـ إلا أنهما يتقارنان في الزمان بعد تحقق شرط الأمر بالمهم، فيلزم منه اجتماع الحكمين، ويعود المحذور، وقد سبق الكلام في ذلك في أدلة القول بالامتناع.

سابعاً: إنه لو فرض انتفاء التضاد بين الخطابين بافتراض طوليتهما إلا أنه سيظل التضاد في الحكم العقلي بعد تحقق شرط الأمر بالمهم.

وبعبارة أخرى: سيكون هناك تنجيزان عقليان يتعلق أحدهما بالأمر بالأهم لمكان إطلاقه والآخر بالأمر بالمهم لتحقق شرطه فيلزم التهافت في حكم العقل وهو كاف في المحذور.

اللهم إلا أن يقال: أن التنجيز في حالاته فرع الأمر في طواريه قضاءً لحق الظلية فلو تكفلت الطولية برفع التضاد عنه لتكفلت برفعه عنه أيضاً.

وفيه أنه يصح في الحكم الكلي العقلي الذي يتبع الأمر الشرعي لا في الحكم الجزئي المتعلق بالجري العملي، فتأمل.

المقدمة الثانية

انحفاظ الخطاب في تقدير ما يكون بوجوه:

الأول: أن يكون الخطاب مشروطاً بوجوده أو مطلقاً بالنسبة إليه وهذا إنما يكون في موارد الانقسامات السابقة على الخطاب، كانحفاظ خطاب الحج والصلاة في ظرف الاستطاعة لاشتراطه وإطلاقها، ولابد من لحاظ أحدهما عند الالتفات للانقسامات، والإطلاق فيه كالتقييد يكون لحاظياً.

الثاني: أن يكون مطلقاً أو مقيداً بالنسبة إليه بنتيجة الإطلاق أو التقييد وإنما يكون في الانقسامات اللاحقة للخطاب، والموجب لكل منهما تقيد الغرض به أو إطلاقه والكاشف عنهما متمم الجعل كما في مسألة اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل واختصاص وجوب الجهر أو الإخفات بالعالم، والإطلاق فيه ـ كالتقييد ـ يكون ملاكياً لاستحالة اللحاظي.

الثالث: أن يكون مقتضياً بنفسه لوضع ذلك التقدير أو رفعه، وهو مختص بباب الطاعة والمعصية، ويستحيل فيه الإطلاق والتقييد بقسميهما، لأن وجوب فعل لو كان مشروطاً بوجوده لزم طلب الحاصل، ولو كان مشروطاً بعدمه لزم طلب الجمع بين النقيضين، ومنه يظهر استحالة الإطلاق لأنه في قوة التصريح بكلا التقديرين، فيلزم منه كلا المحذورين مضافاً إلى أن تقابل الإطلاق والتقييد إنما هو تقابل العدم والملكة فامتناع التقييد يساوق امتناع الإطلاق.

وكون انقسام المكلف إلى المطيع والعاصي لاحقاً للخطاب فيكون انحفاظ الخطاب فيهما بنتيجة الإطلاق مدفوع بكون محل الكلام منشأ انتزاع هذين العنوانين وهو الفعل والترك، ولابد من ملاحظتهما حين الخطاب عند الحاكم ليكون خطابه بعثاً إلى أحدهما وزجراً عن الآخر.

فظهر أن حال الخطاب بالإضافة إلى تقديري الفعل والترك كحال حمل الوجود أو العدم على الماهية، إذ ليست المقيدة بالوجود أو بالعدم أو المطلقة موضوعاً بل نفس الماهية المعراة عن لحاظ الإطلاق والتقييد.

وفرق هذا القسم عن سابقيه: كون انحفاظ الخطاب من لوازم ذاته فيه لأن تعلق الخطاب بشيء يقتضي وضع تقدير وهدم آخر، بخلافه فيهما فإنه من جهة التقييد بذلك التقدير أو الإطلاق، ويترتب على هذا الفرق أمران:

(الأول): إن نسبة التقدير المحفوظ فيه الخطاب في الأولين بالإضافة إليه نسبة العلة إلى معلولها، أما في موارد التقييد فلرجوع الشرائط إلى الموضوع المتقدم رتبة على الحكم، وأما في موارد الإطلاق فلاتحاد مرتبة الإطلاق والتقييد، وهذا عكس الأخير لأن للخطاب نحو علية للامتثال، وكذا العصيان لكون مرتبته عين مرتبة الامتثال.

(الثاني): إن الخطاب في الأولين لا يكون متعرضاً لحال التقدير المحفوظ فيه الخطاب، لعدم تعرض الحكم لموضوعه، فلا يقتضي وجوده ولا عدمه، بخلاف الأخير فإنه بنفسه متعرض لحال ذلك التقدير وضعاً ورفعاً إذ المفروض أنه المقتضي لوضع أحد التقديرين ورفع الآخر.

ومنه يظهر أن انحفاظ خطاب الأهم حال العصيان من جهة اقتضائه لرفع هذا التقدير، بخلاف خطاب المهم فإنه لا نظر له إلى وضع هذا التقدير ورفعه لأنه موضوعه، وإنما يقتضي إيجاد متعلقه على تقدير العصيان، فلا خطاب المهم يرتفع لمرتبة الأهم ليقتضي موضوع نفسه، ولا خطاب المهم يتنزل ويقتضي شيئاً غير رفع موضوع خطاب المهم، فالخطابان في مرتبتين طوليتين وإن اتحدا زماناً. انتهى.

وهذه المقدمة منظور فيها من وجوه:

الأول: إن ما ذكر من خروج الأمرين عن التزاحم، للطولية والاختلاف الرتبي فيما بينهما إنما يتم لو كان الأمر بالمهم مشروطاً، أما لو فرض كونه معلقاً فلا.

الثاني: إن ملاك التزاحم والتضاد ليس المعية الرتبية بل المعية الوجودية الزمانية، فانتفاء الأولى لا يرفع المزاحمة بعد وجود الثانية.

الثالث: لو كان الاختلاف الرتبي مجدياً في دفع التطارد لأجدى في أخذ العلم بالحكم موضوعاً لحكم ضده.

الرابع: النقض بما إذا قيد الأمر بالمهم بفعلية الأمر بالأهم.

الخامس: النقض بما إذا قيد الأمر بالمهم بامتثال الأمر بالأهم.

السادس: إن عدم صعود الأمر بالمهم إلى مرتبة الأمر بالأهم لا يكفي بعد نزوله إلى مرتبته.

وقد مضى الكلام في هذه الوجوه في أدلة القول بالامتناع.

السابع: إن اتصاف أحد المتلازمين أو البديلين بالتقدم الرتبي على شيء لا يستلزم اتصاف ملازمه أو بديله بالتقدم الرتبي عليه.. وكذا التأخر.. فإن مصاحب العلة ليس بعلة، ومصاحب المعلول ليس بمعلول فلا يكون متقدماً في الأول، ولا متأخراً في الثاني، لعدم توفر ملاك التأخر الرتبي فيهما.

فحمرة النار ليست علة للإحراق وإن صاحبت العلة، بالبداهة، وإمكان الممكن ليس معولا وإن لازم المعلول وإلا لزم الانقلاب ـ لو فرض واجباً أو ممتنعاً في حد ذاته ـ أو التسلسل ـ لو فرض ممكناً بإمكان آخر ـ أو تقدم الشيء على نفسه ـ لو فرض ممكناً بنفس الإمكان المعلول ـ أو خلو الشيء عن المواد الثلاث ـ لو فرض عدم كونه كذلك ـ والتوالي بأسرها باطلة.

ومنه ينقدح: أن كون الامتثال والعصيان بديلين لا ينهض دليلاً على تأخر العصيان عما تأخر عنه الامتثال ـ لو سلم ـ فلا يمكن إثبات الطولية بذلك.

نعم: لو لم يرد بالامتثال أو العصيان مجرد الفعل أو الترك، بل أريد بهما العنوان الانتزاعي أمكن إثبات تأخرهما عن الخطاب، ـ على ما سبق الكلام فيه ـ، لكن كلامه (قده) في منشأ الانتزاع لا في العنوان المنتزع كما صرح هو بذلك.

وكذا الأمر في الإطلاق والتقييد فإن كونهما بديلين لا يستلزم تقدم الإطلاق على ما تقدم عليه التقييد.

الثامن: إن ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) من استحالة الإطلاق في بابي الطاعة والمعصية فلا يكون للأمر بالأهم إطلاق يعمّ حال عصيانه حتى يرد الأمران على تقدير واحد ولو بالإطلاق، مستدلاً عليه بأنه يلزم منه الجمع بين كلا المحذورين منظور فيه.

إما نقضاً: فبورود نظيره في كل موطن استحال فيه تقييد الحكم بأحد التقديرين أو كان التقييد فيه لغواً، فمثلاً: في مسألة اشتراك الأحكام يقال: بأن تخصيص الحكم بتقدير العلم يستلزم الدور، وتخصيصه بتقدير الجهل يستلزم اللغوية، فاشتراك الأحكام بينهما ـ ولو بنتيجة الإطلاق ـ في قوة التصريح بكلا التقديرين، فيلزم منه كلا المحذورين.

وهكذا فيما لو كان تعيين إحدى الحصتين مستلزماً للترجيح بلا مرجح ـ فإن الترجيح كذلك لغو على المعروف، وإن كان محالاً على التحقيق، لا وله إلى الترجح بلا مرجح، وهو مساوق لوجود المعلول بدون وجود علته ـ.

وإما حلاً: فبما في (المباحث) من (أن المحذور تارة يكون في ثبوت الحكم على المقيد، وأخرى في التقييد، فالنحو الأول من المحذور يثبت في الإطلاق أيضاً، إذ المحذور قائم في ثبوت الحكم على الحصة المعينة سواء كان الثبوت بإطلاق أو بتخصيص، وأما النحو الثاني من المحذور فهو غير جار في المطلق، إذ مركزه نفس التقيد، والمفروض عدمه في المطلق، ومقامنا من الثاني لا الأول، إذ لا محذور في ثبوت الحكم في حالتي الامتثال والعصيان، وإنما المحذور في نفس تقييد الحكم بحالة العصيان أو حالة الامتثال فيرتفع بالإطلاق) انتهى.

وأما ما تمسك به من أن امتناع التقييد مساوق لامتناع الإطلاق فيرد عليه:

إن الإطلاق يمكن أن يطلق على معنيين:

أحدهما: عدم التقييد، في مورد إمكان التقييد، فيكون العدم فيه عدم ملكة.

وثانيهما: عدم التقييد، مطلقاً، بلا لحاظ إمكان التقييد أو عدمه، فيكون العدم فيه سلباً في قبال الإيجاب.

والإطلاق والتقييد بالمعنى الثاني متعاقبان لا يمكن ارتفاعهما معاً، لكونهما نقيضين، ففرض ارتفاع أحدهما فرض ثبوت الآخر، بخلاف المعنى الأول حيث يمكن فيه ارتفاعهما، وذلك في المحل غير القابل.

وحينئذ نقول: إن الأثر تارة يكون مرتباً على الإطلاق بالمعنى الأول، وفي هذه الحالة لا يمكن الإطلاق إذا لم يمكن التقييد، لانتفاء قابلية المحل.

وتارة يكون مرتباً على نفس عدم التقييد، ـ أي الإطلاق بالمعنى الثاني ـ وفي هذه الحالة يكون الإطلاق ضرورياً إذا لم يمكن التقييد.

والأثر فيما نحن فيه مرتب على الإطلاق بالمعنى الثاني، إذ يكفي فيه نفس عدم الاختصاص بإحدى الحالتين المستفاد من عدم معقولية التقييد، فمادام اختصاص الحكم بإحدى الحصتين محالاً يكون عمومه لهما ضرورياً، وهو المطلوب.

ومنه ينقدح عدم الحاجة إلى متمّم الجعل في مثل مسألة اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل، لعدم توقف إثباته على الإطلاق الملكي الممتنع حسب الفرض بل يكفي فيه: نفس عدم الاختصاص بالعالم المستفاد من نفس عدم معقولية التقييد فيكون التقابل تقابل السلب والإيجاب (أي الاختصاص وعدمه) واستحالة أحد النقيضين كافية في اتصاف البديل بالوجوب.

هذا كله مضافاً (إلى) أن الانقسامات اللاحقة للخطاب إنما تكون لاحقة في الوجود العيني، ولا مانع من لحاظها موضوعاً في الوجود الذهني.

فمثلاً: في مسألة (قصد امتثال الأمر): المتأخر عن الأمر وما يأتي من قبله هو القصد الخارجي، وأخذ القصد في موضوع الأمر لا يستلزم تقدم الشيء على نفسه بمرحلتين ـ إذ كيف يؤخذ ما يأتي من قبل الأمر في متعلقه؟ ـ لأن كون فرد مصداقاً للطبيعي منوط بأمرين:

أحدهما: أخذ الطبيعي في حد الفرد كأخذ الهيئة القارة التي لا تقبل القسمة والنسبة لذاتها في تعريف الكيف.

وثانيهما: ترتب الآثار المترقبة من الطبيعي على الفرد، كترتب تفريق نور البصر على البياض.

ومجرد تحقق الأمر لا يجدي في اندراج الفرد تحت الطبيعي ما لم ينضم إليه الأمر الثاني، نعم يكون هو هو بالحمل الأولي الذاتي، لا بالحمل الشائع الصناعي.

ومن هنا كان انسلاخ معظم المفاهيم عن نفسها في مرحلة الحمل الشائع، وإن احتفظت بالهوهوية في مرحلة الحمل الأولي، فالجزئي جزئي بالحمل الأولي لصدق تعريفه عليه، وليس بجزئي بالحمل الشائع لإمكان فرض صدقه على كثيرين فليست فيه خاصية مصاديقه، وهكذا سائر المفاهيم، نعم يستثنى من التخالف في الحملين مفهوم (الكلي)، فإنه كلي بالحمل الأولي، وبالشائع معاً، لأخذ تعريفه في حده، ولإمكان فرض صدقه على كثيرين ـ من المفاهيم الكلية ـ ففيه خاصية مصاديقه وكذا مفهوم (الموجود) و (الشيء) ونحوهما.

ففيما نحن فيه: القصد المتأخر هو القصد بالحمل الشائع، وأما المأخوذ في موضوع الخطاب ـ فهو القصد بالحمل الأولي، أي أنه مفهوم القصد والصورة الذهنية له، وليس مفهوم الشيء فرداً له ولا هو هو بالحمل الشائع، فالمتقدم هو المفهوم الذهني، والمتأخر هو المصداق الخارجي، فلا يلزم تقدم الشيء على نفسه وعلى هذا فلا استحالة في أخذ مثل ذلك في موضوع الخطاب، بل قد يقال بأنه يستحيل عدم أخذه كذلك، لعدم قيام غرض المولى بالطبيعي، بل بالحصة، فكيف يكون موضوع الخطاب هو الطبيعي؟ فتأمل.

(إلى) غير ذلك مما لا نطيل المقام بذكره.

المقدمة الثالثة

إن الخطاب الترتبي لا يقتضي إيجاب الجمع، فلا وجه لاستحالته، لأن الجمع عبارة عن اجتماع كل منهما في زمن امتثال الآخر، بحيث يكون امتثال أحد الخطابين مجامعاً في الزمان لامتثال الآخر. والذي يوجبه: أما تقييد كل من المتعلقين ـ أو أحدهما ـ بحال فعل الآخر، وأما إطلاق كل من الخطابين لحال فعل الآخر والخطاب الترتبي لا يقتضي إيجاب الجمع، بل يقتضي نقيضه بحيث لا يكون الجمع مطلوباً لو فرض إمكانه، وإلا لزم المحال في كل من طرفي المطلوب والطلب.

أما الأول: فلأن مطلوبية المهم إنما تكون في ظرف عصيان الأهم، فلو وقع على صفة المطلوبية في حالة امتثال الأهم كما هو لازم إيجاب الجمع يلزم الجمع بين النقيضين إذ يلزم أن يعتبر في مطلوبية المهم وقوعه بعد العصيان، ويعتبر أيضاً في مطلوبيته وقوعه في حال عدم العصيان، بحيث يكون كل من حالتي وجود العصيان وعدمه قيداً في المهم، وهذا يستلزم الجمع بين النقيضين.

وأما الثاني: فلان خطاب الأهم يكون من علل عدم خطاب المهم، لاقتضائه رفع موضوعه، فلو اجتمعا ـ كما هو لازم إيجاب الجمع ـ لكان من اجتماع الشيء مع علة عدمه. وحينئذ إما أن نقول بخروج العلة من كونها علة للعدم، أو بخروج العدم عن كونه عدماً، أو باجتماعهما مع بقائهما على ما كانا عليه، والتوالي بأسرها باطلة.

مضافاً إلى أن البرهان المنطقي يقتضي أيضاً عدم إيجاب الجمع فإن الخطاب الترتبي بمنزلة منفصلة مانعة جمع صورتها هكذا (إما أن يكون الشخص فاعلاً للأهم وإما أن يجب عليه المهم) فهناك تناف بين وجوب المهم وفعل الأهم، ومع هذا التنافي كيف يعقل إيجاب الجمع؟ مع أن إيجاب الجمع يقتضي عدم التنافي بين كون الشخص فاعلاً للأهم وبين وجوب المهم عليه. انتهى.

ويرد عليه:

أولاً: إن المفروض محال ـ وإن لم يكن الفرض محالاً، لأن فرض المحال ليس بمحال ـ إذ يستحيل أن يجمع (العاصي للأهم) بين (المهم والأهم)، لأنه يؤول إلى اجتماع النقيضين، حيث يكون المكلف تاركاً للأهم ـ باعتبار كونه عاصياً له ـ وفاعلاً له ـ باعتبار كونه جامعاً بينه وبين ضده ـ.

وعلى فرض صدورهما معاً من المكلف فهما يقعان حينئذ معاً على صفة المطلوبية، إذ الأمر بالمهم إنما رتب على عصيان الأمر بالأهم لعدم قدرة المكلف على الجمع، ففي ظرف فرض إمكان صدروهما عن المكلف لا يكون هنالك تعليق، ويخرج الأمران عن كونهما ترتبيّين إلى أمرين عرضيين.

وبعبارة أخرى: تقييد خطاب المهم ـ مع إطلاقه في حد نفسه ـ إنما كان بحكم العقل حذراً من الأمر بما لا يطاق، فإذا فرض إمكان صدورهما معاً عن المكلف ارتفع المحذور، ولم يكن هناك دافع لتقييد المهم، وكان الأمران فعليين معاً.

ويؤيده ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) بقوله:

(إن مورد البحث في الأمر الترتبي إنما هو فيما إذا كان الملاك لكل من الأمرين ـ من المترتب والمترتب عليه ـ ثابتاً متحققاً عند التزاحم، بحيث لو منعنا عن الأمر الترتبي أمكن تصحيح العبادة بالملاك، بناءً على كفاية ذلك في صحة العبادة...) وقال أيضاً: (إن مسألة الترتب من فروع باب التزاحم)...

وقد يورد عليه: بأن هذا إنما يتم في صورة كون المهم واجداً للملاك في عرض الأهم، لا في صورة ترتبه عليه ملاكاً كترتبه عليه حكماً.

وفيه: أن نفس الإطلاق كاشف إنّي عن ثبوت الملاك، والمفروض حصوله لوجود المقتضي وعدم المانع في ظرف هذا الفرض.

ومنه ينقدح النظر فيما رتّبه (قده) من المحذور في طرفي الطلب والمطلوب.

وأما ما استدل به في (التهذيب) على وقوع كل من الأهم والمهم حينئذ على صفة المطلوبية بقوله: (إن الذي يعصي مع كونه عاصياً في ظرفه: يطلب منه الإتيان بالأهم، لعدم سقوط أمره بالضرورة ما لم يتحقق العصيان خارجاً، والفرض أن شرط المهم حاصل أيضاً فيكون مطلوباً) ففيه: أنه إن أراد ترتب (مطلوبية المهم) على (مقدم الجمع) على نحو (بشرط شيء) ـ أي مع ضميمة.

ترتب (عدم المطلوبية) على (المقدم) ـ أو على نحو (لا بشرط) فهو صحيح إلا أنه لا يجديه، وان أراد ترتيبها عليه على نحو (بشرط لا) ـ أي بشرط عدم ضميمة ترتب النقيض على المقدم ـ فهو غير صحيح، وذلك لأنه لا يصح ترتيب كل تالٍ على كل مقدم، بل ما يكون بينهما علاقة ذاتية، بحيث لو قدر وجودهما يكون بينهما تعلق سببي ومسببي أو يكونان معلولين لعلة ثالثة ـ على التفصيل المقرر في محله ـ ومن هنا كانت إنسانية الجدار ـ لو فرضت ـ مستلزمة لناطقيته، لا لناهقيته، إذ التلازم هو كون الشيئين بحيث لا يمكن في نظر العقل وقوع الانفكاك فيما بينهما وهذا إنما يتحقق في الأول لا في الثاني، ولا فرق في ذلك بين كون المقدم واجباً أو ممكناً أو ممتنعاً.

ففي المقام: لو أخذ في المقدم اجتماع وجود الأهم وعدمه فلا محالة يؤخذ في التالي اجتماع مطلوبية المهم وعدمها، أما المطلوبية فلتحقق شرطها ـ وهو انتفاء الأهم بمقتضى كون المكلف عاصياً له ـ وأما عدهما فلانتفاء الشرط بتحقق الأهم ـ بمقتضى كونه جامعاً بينه وبين ضده ـ.

وعلى كل: فالذي ينفع المجيب هو (إثبات المطلوبية) فقط، وهو غير حاصل في المقام.

ومنه ينقدح: عدم استقامة الاستدلال المذكور في المقدمة الثالثة أيضاً، إذ الذي يجدي هو (إثبات عدم المطلوبية) محضاً، ولا يمكن إثباته بهذا البرهان.

ثانياً: إن ترتيب (بطلان كون الأمر الترتبي أمراً بالجمع) على ترتب هذه المحاذير ليس بأولى من ترتيب (بطلان وجود الأمر الترتبي) عليه، بل هو متعين إذ لا يلزم في الأمر بالجمع أن يكون بعنوانه ـ لكونه معنى انتزاعياً منوطاً بوجود منشأ انتزاعه ـ كما لا يلزم كونه أمراً بالجمع مطلقاً، بل يمكن كونه أمراً بالجمع مشروطاً، وذلك حاصل في المقام عند تحقق مقدم شرطية الأمر بالمهم.

وعليه يقال: لو كان هناك أمران ترتبيان لزم الأمر بالجمع بين المتعلقين، لكن التالي باطل ـ لعدم معقولية الأمر بالجمع باعتبار فرض ترتب المحاذير المذكورة في هذه المقدمة عليه ـ فالمقدم مثله، فتأمل.

ثالثاً: إن المحذور المتصور في الأمر بالترتب منوط بـ (معية الطلب) لا (طلب المعية). وذلك لأداء الطلبين المتزامنين كذلك إلى اجتماع إرادتين فعليتين في نفس المولى وهو محال بمقتضى سراية التضاد من المراد إلى الإرادة ولعدم وفاء قدرة المكلف على الجمع بين الضدين. فلا ينفع الدفع بارتفاع (طلب المعية) بالترتب.

وسيأتي الكلام في ذلك قريباً إن شاء الله تعالى.

الدليل الثاني

(الدليل الثاني) ـ مما استدل به لجواز الترتب ـ الوقوع، فإنه أدل دليل على الإمكان.

ولهذا الدليل شقان:

الشق الأول: الوقوع في الشرعيات.

وقد ذكر المحقق النائيني (قدس سره) وغيره أن في الفقه فروعاً لا محيص للفقيه عن الالتزام بها مع كونها من الخطاب الترتبي.

(منها) ما لو فرض حرمة الإقامة على المسافر من أول الفجر إلى الزوال، فعصى وأقام، فلا إشكال في وجوب الصوم عليه، فيكون قد توجه إليه في الآن الأول الحقيقي من الفجر كل من حرمة الإقامة ووجوب الصوم، لكن مترتباً، بمعنى أن وجوب الصوم يكون مترتباً على عصيان حرمة الإقامة، ففي حال الإقامة يجب عليه الصوم مع حرمة الإقامة.

و (منها) ما لو فرض وجوب الإقامة على المسافر من أول الزوال، إذ يكون وجوب القصر عليه مترتباً على عصيان وجوب الإقامة، وكذا لو فرض حرمة الإقامة فإن وجوب التمام يكون مترتباً على عصيان حرمة الإقامة.

و (منها) وجوب الخمس المترتب على عصيان خطاب أداء الدين إذا لم يكن الدين من عام الربح.

ولا فرق بين هذه الفروع وما نحن فيه سوى كون التضاد فيها شرعياً، وفيه ذاتياً ولكن إمكان الجمع بحسب ذاته وعدمه لا يوجب فرقاً فيما هو ملاك الاستحالة.

ويرد عليه:

إن دلالة الوقوع على الإمكان ـ باعتبار عدم وقوع المحال في الخارج ـ متوقفة على إحراز صغروية (الواقع) للكبرى المطلوبة، ولا يتم هذا الإحراز إلا بنفي جميع الاحتمالات الأخر، إذ مجيء الاحتمال مبطل للاستدلال في باب الأمور العقلية، وإن لم يكن مبطلاً له في باب الظواهر اللفظية، لابتنائها على الظنون النوعية، بخلاف الأولى فإنها تبتني على القطع، وهو لا يجامع احتمال الخلاف مطلقاً.. وما سيق من الأمثلة في هذا الباب لا يتعين كونه من الأمر الترتبي لاحتمال كونه من غيره، وتوضيح ذلك يتوقف على بيان مقدمات:

(الأولى): إن الملاك القائم بالشيء لا يزول بحصول التضاد بينه وبين ضده، إذ الملاك عبارة عن المصلحة ـ أو المفسدة ـ التكوينية الحاصلة في الشيء، ولا ينقلب الموصوف بصفة تكوينية عما هو عليه لعدم قدرة المكلف على الجمع بينه وبين ضده.. ولو نوقش في الكلية المزبورة كفت الموجبة الجزئية في إثبات المطلوب.

نعم قد لا يلحظ الملاك القائم بالشيء في مقام جعل الحكم بحيث يكون مؤثراً فيه، لحصول الكسر والانكسار بين المقتضيات المتزاحمة وترجيح الأهم منها.

لكن عدم لحاظه في مقام التشريع لا يستلزم عدم ثبوته في الخارج، كما في إنقاذ الغريقين، فإن التضاد بينهما ـ بالنظر لقدرة المكلف ـ لا يمنع عن اتصاف كل منهما بالمصلحة في حد ذاته ـ وإن فرض عدم كونها محركة لجعل الحكم على طبق أحدهما لكون الآخر أهم ـ.

(الثانية): إن محبوبية الشيء لا تستلزم مبغوضية ضده الخاص لتوقف مبغوضية الشيء على وجود المفسدة فيه، وهي أما نفسية أو غيرية، ولا مفسدة نفسية في الضد على ما هو المفروض، كما لا مفسدة غيرية فيه إذ أنها إما أن تنشأ من (المقدمية) ـ بتقريب (إن وجود الشيء موقوف على عدم ضده ـ باعتبار كون الضد مانعاً، مع أن عدم المانع من المقدمات) و (إن مقدمة المحبوب محبوبة) و (إن محبوبية عدم الضد مستلزمة لمبغوضية وجود الضد).

أو من (التلازم) ـ بتقريب (أن وجود كل شيء ملازم مع عدم ضده) و (أن المتلازمين في الوجود متلازمان في المحبوبية والمبغوضية) و (أن محبوبية عدم الضد مستلزمة لمبغوضية وجود الضد).

وكلتاهما منتفيتان في المقام.

أما الأولى فلعدم حيلولة الضد، عن وجود المحبوب، إذ الحائل هو (الصارف) ـ أي إرادة الضد أو عدم إرادة الشيء وبعبارة أخرى: وجود المقتضي للضد أو عدم وجود المقتضي للشيء ـ فلو فرضت ثمة مبغوضية لكانت متعلقة به لا بالضد، مع إمكان المناقشة في مبغوضية ما يحول دون وجود المحبوب على ما قرر نظيره في مباحث استلزام إرادة الشيء لإرادة مقدماته الوجودية.

وأما الثانية: فلدلالة الوجدان على عدم التلازم عند تعلق الحب أو البغض بشيء حيث يمكن أن يقفا على نفس المتعلق دون سراية إلى ملازماته الوجودية أو العدمية ـ على ما سبق في أدلة القول بالامتناع ـ.

ثم إنه لو فرض اقتضاء محبوبية الشيء: مبغوضية ضده إلا أنها مبغوضية غيرية ـ لمكان الملازمة أو المقدمية ـ فلا تقتضي فساد العبادة بناءً على ما ذكره بعضهم من أن الغيري لا حكم له في نفسه إذ أن مبغوضية الضد ليست عن ملاك يقتضيها ـ كما في النهي عن العبادة ـ بل لمجرد المزاحمة لواجب أهم، فتكون العبادة على ما هي عليه من المحبوبية المقتضية لصحتها، فتأمل.

وما ذكرنا يظهر الكلام في الاستدلال على المدعى عن طريق الضد العام، وتفصيل الكلام في مباحث (الضد) فراجع.

(الثالثة): إن وجود الخطاب الشرعي كاشف عن وجود الملاك الواقعي، ـ وإن وقع الخلاف في انحصار الكشف عنه به، وعدمه، على ما فصل في مباحث (الضد) ـ.

وكشفه عنه إما أن يكون على نحو (الدلالة الالتزامية) بتقريب أن الخطاب معلول للملاك، فوجوده كاشف ـ إنّاً ـ عن وجوده، وإما أن يكون على نحو (الظهور السياقي) بدعوى أن الخطاب يتكفل الدلالة على مطلبين: أحدهما طلب المادة والآخر وجود الملاك غاية الأمر أن الأول مدلول لفظي لصيغة الأمر والثاني مدلول سياقي للخطاب، فتكون دلالته على الملاك في عرض الدلالة على الحكم لا مدلولاً التزامياً طولياً للخطاب على ما نسب إلى المحقق النائيني (قدس سره) ـ.

ولا فرق في ذلك بين كون الأمر مولوياً أو إرشادياً إذ على كلا التقديرين لابد من وجود الملاك لكي يصح الأمر.

نعم: الفرق بينهما هو أنه يتعين في الأمر الإرشادي كون الملاك في المتعلق أما في الأمر المولوي فكما يمكن أن يكون فيه كذلك يمكن أن يكون في نفس الأمر ـ خلافاً لما في (المحاضرات) من تعين كون ملاكه في المتعلق ـ.

(الرابعة): إن الأمر وإن كان ظاهراً في المولوية ـ كما يشهد له حكم العقل، وبناء العقلاء بالنسبة إلى أوامر الموالي على ما قرر في مبحث دلالة الأمر ـ مادة وصيغة ـ على الوجوب ـ إلا أنه يتعين صرفه إلى (الإرشاد) عند قيام المحذور العقلي من كونه مولوياً كما في قوله تعالى: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول)[2]، ونحوه من الأوامر المتعلقة بالطاعة.

ومما ذكر يظهر:

إن وجود الأمر بالمهم فيما سبق من الأمثلة لا ينهض دليلاً على إمكان (الترتب) في قبال القائلين بالاستحالة لجواز كون الأمر بالمهم إرشاداً إلى ما في المادة في الملاك والمحبوبية اللذين لا يزولان بوقوع التضاد بينه وبين الأهم.

ثم إنه قد تقرر في مباحث (التعبدي والتوصلي) عدم تقوم عبادية العبادة بقصد (الأمر المولوي) بل يكفي قصد الملاك المضاف إلى المولى ـ سبحانه ـ وإن لم يكف قصد معلقه، خلافاً لصاحب الجواهر (قدس سره) حيث اشترط قصد امتثال الأمر في العبادة وجعل سائر الدواعي في طول داعي امتثال الأمر بحيث لابد أن يأتي بالعبادة بداعي امتثال أمرها ويكون داعيه إلى ذلك هو دخول الجنة أو تجنب النار أو كونه سبحانه أهلاً للعبادة. وعلى فرض الاشتراط يمكن القول بأن الأمر الذي يجب قصد امتثاله في العبادة يعم المولوي والإرشادي، فلا إشكال من هذه الجهة.

هذا كله إن كان متعلق الأمر تعبدياً.

وأما إن كان توصلياً فالأمر فيه أوضح.

ومن هنا قال صاحب الكفاية (قدس سره) ـ بعد أن أورد على نفسه الإشكال الإنّي ـ (لا يخلو إما أن يكون الأمر بغير الأهم بعد التجاوز عن الأمر به وطلبه حقيقة، وإما أن يكون الأمر به إرشاداً إلى محبوبيته وبقائه على ما هو عليه من المصلحة والغرض لولا المزاحمة وإن الإتيان به يوجب استحقاق المثوبة، لا أنه أمر مولوي فعلي كالأمر به).

هذا مضافاً إلى المناقشات الفقهية فيما سبق من الأمثلة كما يظهر من مراجعة المطولات.

الشق الثاني: الوقوع في العرفيات.

والأمثلة عليه كثيرة، وقد مثل له السيد الحكيم (رحمه الله) في (الحقائق) بقول الأب لولده: اذهب هذا اليوم إلى المعلم، فإن عصيت فاكتب في الدار ولا تلعب مع الصبيان.

ودعوى كون الأمر بالمهم إرشادياً يردها: الوجدان، إذ لا نجد من أنفسنا حين توجيه الأمر الترتبي إلا ما نجده منها حين توجيه الأمر المولوي.

وبعبارة أخرى: الحاكم هنا هو الشاهد فلا مساغ فيه لاحتمال الإرشادية. بخلاف الوقوع في الشرعيات فتدبر.

ويدل عليه ما ذكرناه سابقاً من تعدد الاستحقاق في صورة عصيان الأمرين.

وقد مر بعض ما يرتبط بالمقام من الكلام في أواخر الوجه الثاني مما أورد به على الترتب، فراجع.

الدليل الثالث

(الدليل الثالث): ما في (المباحث) من أن الإرادة المشروطة مرجعها لباً إلى إرادة مطلقة متعلقة بالجامع بين الجزاء على تقدير الشرط، وعدم الشرط، فإرادة الماء على تقدير العطش مرجعها إلى إرادة فعلية للجامع بين أن لا يعطش وأن يشرب الماء على تقدير العطش.

وعليه: يبتني رفع الاستحالة في المقام، لأن الأمر بالمهم المشروط بترك الأهم يرجع إلى إرادة الجامع بين إتيان المهم على تقدير عدم الأهم أو إتيان الأهم، ومن الواضح أن الأمر الجامع بين المهم والأهم ليس مضاداً أصلاً مع الأمر بالأهم وإنما التضاد بين الأهم تعييناً والمهم تعييناً.

وأورد عليه:

بأن إرادة الجامع تتولد منها إرادة تعيينية للجزاء على تقدير تحقق الشرط، فيحصل التضاد بينها وبين الإرادة التعيينية المتعلقة بالأهم.

هذا مضافاً إلى أن إحدى حصتي الجامع ـ وهي الإتيان بالجزاء على تقدير تحقق الشرط ـ غير مقدورة ـ لمضادتها للأهم المقتضي لاستنفاد قدرة المكلف في صرفها نحوه ـ وقد سبق أن الجامع بين المقدور وغير المقدور غير مقدور، فلا يعقل أن يكون متعلقاً للإرادة، فتأمل.

الدليل الرابع

(الدليل الرابع): إن المحذور المترتب على الأمر الترتبي إما أن يفرض في (نفس الحكم) أو في (مبدأه) أو في (منتهاه).

أما (نفس الحكم): فقد مر أن لا تضاد في نفس الأحكام عند قصر النظر على ذاتها، لا بالذات، ولا بالتبع، فالتضاد فيها إنما يكون بعرض غيرها.

وأما (المبدأ) ـ أي الإرادة ومقدماتها ـ فتوضيح انتفاء المحذور فيه يتوقف على بيان أمور: أحدها: إن التكليف كما يمكن أن يساق بداعي إيجاد الداعي في المكلف نحو المطلوب، كذلك يمكن أن يساق بداع آخر ـ كما في الأوامر الاختبارية والاعتذارية ونحوها ـ.

ثانيها: إن حق الطاعة للمولى على العبد كما يشمل ما يساق بداعي البعث والتحريك كذلك يشمل ما يساق بداع آخر.. ويدل عليه بناء العقلاء.

ثالثها: ما يعلم عدم ترتبه على الشيء لا يعقل أن يكون غرضاً منه، وتستوي في ذلك الأمور التكوينية والتشريعية، فإذا علم الشخص بأن هذه النار لا يمكن أن تحرق الخشب ـ لعدم المحاذاة أو لرطوبة الخشب أو غيرهما ـ فلا يعقل أن يكون الغرض من إيقادها هو الإحراق، وكذا لو علم المولى علماً يقينياً بعدم انبعاث العبد نحو المطلوب فلا يعقل أن يكون طلبه منه بغرض تحريكه نحوه.

رابعها: إنه يستحيل تعلق إرادتين حقيقيتين بغرض التحريك بأمرين متضادين لعدم إمكان ترتب أحدهما عليه، وقد سبق أن ما لا يمكن ترتبه على الشيء لا يعقل أن يكون غرضاً منه أما لو كانت الإرادتان بداع آخر، أو كانت إحداهما بداعي التحريك والأخرى بداع آخر ـ كالاختبار أو التعذير ـ فلا استحالة.

وبناءً على ذلك نقول: إن الأمر بالأهم ـ بالنسبة إلى من يعلم المولى عصيانه ـ لم يسق بداعي جعل الداعي ـ بمقتضى الأمر الثالث ـ لكن هذا لا يخرجه من دائرة حق الطاعة ـ بمقتضى الأمر الثاني ولكونه ممتنعاً بالغير، لا ممتنعاً ذاتياً أو وقوعياً وهو لا ينافي الإمكان الذاتي والوقوعي للمتعلق وإلا لم يكن ممكن أبداً إذ الشيء لا يخلو من الوجوب بالغير أو الامتناع بالغير فمتى يكون ممكناً؟ كما لا ينافي إمكان التكليف، وإلا لزم انتفاء التكليف في حق الكفار والعصاة.

والأمر بالمهم إنما سيق بداعي التحريك ـ في حق من يمتثله ـ وبداع آخر ـ في حق من لا يمتثله ويعدل منه إلى الثالث ـ وقد قرر في الأمر الرابع أن لا استحالة في اجتماع مثل هاتين الإرادتين، فتأمل.

وأما (المنتهى) فالمحذور إنما يتولد في صورة استلزام الأمر المولوي لتحير المكلف، وإن فرض كونه منقاداً للمولى، كما في الأمر بالضدين مطلقاً، وأما الأمران المسوقان على نحو الترتب فلا يوجبان وقوع المكلف في الحيرة، فلا يكون هناك محذور في مرحلة الجري العملي، فتأمل.

ثم إن هنالك أدلة أخرى على الإمكان تعلم مما قرر في أدلة الامتناع فراجع.

[1] سورة طه، آية: 14.

[2] سورة النساء، آية: 59.