الفهرس

آية الله السيد محمد رضا الشيرازي

الصفحة الرئيسية

 

الوجه الرابع

(الوجه الرابع) ـ مما أورد به على الترتب ـ أن الأمر بالشيء يقتضي حرمة ضده العام، فالأمر بالأهم يقتضي حرمة نقيضه، والمهم إن لم يكن مصداقاً للنقيض فهو ملازم له ـ ولو في الجملة ـ ولا يعقل اختلاف المتلازمين في الحكم وإن لم نقل بسراية حكم أحدهما إلى الآخر.

والجواب: أما عن مسلك (المصداقية) فبما مر من عدم معقولية مصداقية الوجود للعدم والعدم للوجود، لاختلاف مزاج الحيثيتين، فإن الوجود عين منشئية الآثار وحيثية ذاته حيثية طرد العدم والإباء عن العدم، ومن المعلوم أن فردية شيء لشيء متوقفة على الاتحاد بينهما، فإن الفرد هو مصداق الطبيعة بالحمل الشائع، وكل طبيعة تؤخذ ـ لا محالة ـ في فردها، فكيف يكون أحدهما فرداً للآخر؟

وأما عن مسلك (السراية) فبأنه إما أن يراد السراية في مرحلة الملاك، أو السراية في مرحلة الإرادة، أو السراية في مرحلة الجعل والاعتبار.

أما الملاك فهو صفة تكوينية في الشيء فلا يسري إلى غيره وإن كان ملازماً له، فإذا فرض قيام المصلحة بشرب المريض للدواء مثلاً فلا يستلزم ذلك سرايتها إلى الملازمات التكوينية للشرب، التي لا تدخل ـ لكثرتها ـ تحت العد والإحصاء.

ومن هنا يمكن أن يقال بتعلق الملاكات ـ كالأوامر ـ بالطبائع لا بالأفراد، حتى أنها لو فرضت مجردة عن الخصوصيات لكانت واجدة للملاك، وكفى الإتيان بها كذلك، إذ ما دام الملاك قائماً بالطبيعي فلا يسري منه إلى الخصوصيات الفردية، وإن لم يمكن التفكيك بينه وبينها بمقتضى أن الشيء ما لم يتشخّص لم يوجد.

ونظير ما نحن فيه ما ذكروه من أن مصاحب العلة ليس بعلة، ومصاحب المعلول ليس بمعلول، إذ لا تكون العلية والمعلولية إلا بملاك يقتضيهما، والمصاحبة الوجودية لا تستلزم المشاركة الملاكية.

ومنه ينقدح النظر في السراية في مرحلة الإرادة ومبادئها إذ الإرادة تابعة للملاك، فاختصاصه يستلزم اختصاصها.

وكذا السراية في مرحلة الجعل والاعتبار، وذلك لتبعية الجعل للإرادة، كما لا يخفى.

اللهم إلا أن يقال: بكفاية نفس (الملازمة) وعدم الحاجة إلى ملاك كامن في ذات الملازم. لكن هذا القدر يثبت إمكان تعلق الإرادة ومبادئها بالملازم، ولا يثبت كلية الملازمة، فتدبر.

وقد يقرر النظر في السراية في مرحلة الجعل بأنه إن أريد بها (الاستتباع القهري) ـ المتحقق بين جعل الحكم على أحد المتلازمين وجعله على الآخر ـ فهو غير معقول، إذ لا يكون الاستتباع إلا في الأعمال غير الاختيارية، أو الاختيارية غير المباشرية، أما الأفعال الاختيارية المباشرية فإنها لا تكون معلولة لأفعال مباشرية أخر، لتبعيتها في وجودها لمبادئ الاختيار ـ من التصور والتصديق ونحوهما ـ وإلا لم تكن اختيارية، والإنشاء فعل اختياري مباشري للجاعل، فلا يكون إنشاء الحرمة على النقيض مستتبعاً لإنشاء حكم مماثل على الملازمات.

وإن أريد بها (الداعوية الاختيارية) ففيه: أن العمل الاختياري لا يكون إلا لغاية يراد تحقيقها به، فإن وجود الشيء رهين بوجود علله الأربع: المادية والصورية والفاعلية والغائية، فمن دون وجود العلة الغائية لا يمكن وجود الشيء، إذ العلة الغائية علة فاعلية العلة الفاعلية، وإنشاء الحكم على الشيء إن كان كافياً في التحريك إليه أو الزجر عنه فلا تبقى حاجة إلى الأمر بالملازمات أو النهي عنها، لكونهما لغواً وعبثاً، وإن لم يكن كافياً في التحريك أو الردع فالأمر بالملازمات أو النهي عنها لا يكون مؤثراً في التحريك أو الردع، فيكون الأمر والنهي بلا غاية يقتضيانها، وهو محال.

وفيه: أنه يكفي في دفع اللغوية: التأكيد، لإمكان توقف الباعثية على تعدد الأمر، وعدم كفاية الأمر الواحد في ذلك، ونظيره ـ من بعض الوجوه ما ذكروه من إمكان كون العمل مستحباً وتركه مكروهاً، كصلاة الليل، والسواك والزواج، والرداء للإمام، والتحنك للمصلي، وتزين المرأة في الصلاة، ونحو ذلك، ونظيره الحكم على الضدين اللذين لا ثالث لهما ونحوهما كتعدد الثياب التي ترتديها المرأة في الصلاة وموازاة العنق للظهر في الركوع، وكون الكفن قطعة واحدة غير مخيطة، وكبعض الفضائل الأخلاقية إلى غير ذلك.

هذا ولكن لا يخفى أن (الإمكان) أعم من (الوقوع) فلا يدل إمكان تعدد الحكم في أطراف التلازم على وقوعه، ومع احتمال الجعل وعدمه يكون الأصل العدم.

ثم إنه يرد أيضاً على مسلك (السراية) استلزامه لانحصار الأحكام في الواجب والحرام وانتفاء الثلاثة الأخر، وهذا نظير ما قرر في شبهة الكعبي، فتأمل.

وأما مسلك (عدم اختلاف المتلازمين في الحكم) فقد أجاب عنه المحقق الأصفهاني في (النهاية) بقوله:

(إن الكلام في الضدين اللذين لهما ثالث، وإلا فوجود أحدهما ملازم قهراً لعدم الآخر، وبالعكس، فلا معنى للحكم على ملازمه رأساً، وفيما كان لهما ثالث وإن سلمنا التلازم إلا أن المانع من اختلاف المتلازمين في الحكم اللزومي: لزوم التكليف بما لا يطاق، وهذا المحذور غير جار هنا، لأن الإتيان بالأهم رافع لموضوع امتثال الأمر بالمهم، وبعد اختيار عصيان الأمر بالأهم وثبوت العصيان ليس الحكم اللزومي بالمهم إلقاءً فيما لا يطاق، فاختلاف المتلازمين إنما يضر فيما إذا لم يكن هناك ترتب).

هذا ولكن للقائل بامتناع الترتب أن يقول: إنه لا فرق في تحقق محذور (التكليف بما لا يطاق) بين كونه مطلقاً أو على تقدير دون تقدير، وبين تعليقه على ما لا يستطيع المكلف هدمه وما يستطيع، فإذا كلف المولى عبده بالجمع بين الانتصاب والانتكاس ـ مثلاً ـ في حالة عصيان الأمر عُدّ لاغياً وموقعاً للمكلف فيما لا يطاق، وإن كان ذلك على تقدير اختياري، وقد مضى طرف من الكلام في ذلك في الدليل الأول مما استدل به للامتناع، فراجع.

مع أن ما ذكر في (النهاية) وإن فرض كونه وافياً بدفع هذا الإشكال إلا أنه لا يفي بدفع الإشكال في مرحلة (الإرادة) إذ لا يمكن تخالف إرادتين منتهيتين إلى الحكم بالنسبة إلى أمرين متلازمين، بأن يكون أحدهما مراد الوجود والآخر مراد العدم، لاستحالة تحقيق مراد المولى في هذه الصورة، وما يستحيل مراده تستحيل إرادته، للتلازم بين المراد والإرادة في الاستحالة والإمكان وسراية حكم أحدهما إلى الآخر ـ عند الالتفات ـ فإذا فرض أن استقبال الجنوب كان مراد العدم ومبغوضاً للمولى في بعض الحالات بحيث انشأ الحكم بالحرمة عليه فلازمه ـ وهو استدبار الشمال ـ لا يخلو من أن يكون مبغوضاً له أيضاً، أو لا تتعلق به إرادة ولا كراهة أبداً.. أما أن يكون اللازم مراداً للمولى بحيث يحكم عليه بالوجوب فهو غير معقول..

وعليه: فإذا كان (عدم الأهم) مبغوضاً للمولى ـ باعتبار أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن نقيضه ـ فكيف يكون ملازمه وهو (وجود المهم) محبوباً لديه ومراداً عنده، وتكون تلك الإرادة مبعثاً لإنشاء الحكم اللزومي الوجوبي على (وجود المهم)؟ فتأمل.

ونظير ذلك يجري في مرحلة (الملاك)، إذ أنه وإن أمكن أن توجد المصلحة في أحد المتلازمين والمفسدة في الآخر ـ كما يمكن أن توجدا في أمر واحد ـ إلا أن مآل ذلك إلى إباحة الفعل، إن تساوى الملاكان بعد الكسر والانكسار، وإلا كان الحكم مع الغالب منهما، على نحو الوجوب والتحريم، أو على نحو الاستحباب والكراهة، فلا يعقل أن يكون أحدهما ذا مفسدة مؤثرة في التحريم الفعلي ـ كالنقيض في المقام ـ والآخر ذا مصلحة مؤثرة في الوجوب الفعلي ـ كلازم النقيض فيما نحن فيه ـ.

وسيأتي تمام الكلام في ذلك في طي ما استدل به لجواز الترتب بإذن الله تعالى.

ثم إنه يرد على جميع ما تقدم من المسالك ـ من (المصداقية) و (السراية) و (عدم اختلاف المتلازمين في الحكم) ـ عدم تسليم المبنى إذ الأمر لا يقتضي النهي عن ضده ـ ولو كان عاماً ـ على ما قرر في محله.