|
الوجه الثاني: تعدد الاستحقاق |
|
(الوجه الثاني) ـ مما أورد به على الترتب ـ: إن استحقاق العقوبة على مخالفة الأمر المولوي لازم عقلي للمخالفة وهو غير قابل للوضع بالذات، ولا للرفع كذلك. أما الأول فلأنه تحصيل للحاصل. وأما الثاني فلأنه تفكيك بين اللازم وملزومه. نعم للشارع وضع الاستحقاق بالعرض بوضع منشأ انتزاعه وله رفعه كذلك برفع منشأ انتزاعه، كما في كل أمر انتزاعي. وعليه نقول: لو كان هناك أمران فعليان مولويان فيما نحن فيه لزم استحقاق المكلف عقابين لو خالف الأمرين، وهو بمعنى استحقاق العقاب على ترك ما لا يكون داخلاً تحت قدرة المكلف ـ أعني أحد الفعلين ـ مع أن مناط حسن العقوبة هو: القدرة على الامتثال، بل يلزم منه استحقاق عقوبات غير محصورة للمكلف التارك لمجموع الأوامر الترتبية المتكثرة مع عدم القدرة إلا على امتثال أحدها. فعدم تعدد الاستحقاق كاشف إنّي عن عدم تعدد الأمر. وقد قرر هذا الوجه المحقق النائيني (قدس سره) على نحو مانعة الجمع بقوله: (القائل بالترتب لا يخلو من أحد أمرين أما الالتزام بتعدد العقاب على تقدير عصيانهما معاً والاشتغال بفعل آخر، أو الالتزام بعدم استحقاق العقاب على ترك الواجب المهم. أما الأول فلا سبيل له إليه، فإنه كما لا يمكن تعلق التكليف بغير المقدور كذلك لا يمكن العقاب عليه أيضاً، وبما أن المفروض هو استحالة الجمع بين المتعلقين يستحيل العقاب على تركهما معاً. وأما الثاني فهو يستلزم إنكار الترتب وانحصار الأمر المولولي بخطاب الأهم وكون الأمر بالمهم إرشاداً محضاً إلى كونه واجداً للملاك حينئذ، ضرورة أنه لا معنى لوجود الأمر المولوي الإلزامي وعدم ترتب استحقاق العقاب على مخالفته). |
|
النقض بموارد الواجبات الكفائية |
|
ويرد على هذا الوجه أمور: (الأول): ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) من النقض بموارد الأوامر الكفائية التي لا يمكن صدور الواجب فيها إلا من بعض المكلفين على البدل، مع أن جميع المخاطبين يستحقون العقاب على مخالفته، فكما أن استحالة صدور الواجب عن جميع المخاطبين دفعة واحدة ـ لفرض امتناع الواجب بطبعه عن الاشتراك فيه ـ وتدريجاً ـ لفرض سقوط الأمر بامتثال بعض المكلفين وعدم بقاء الموضوع لامتثال الباقين ـ لا تنافي توجه الخطاب إلى الجميع وصحة عقابهم على تقدير العصيان كذلك الحال في المقام، فلو كان تعدد العقاب عند تعدد العصيان مع عدم إمكان أزيد من الإطاعة الواحدة مستلزماً لأن يكون العقاب على غير المقدور لامتنع تعدد العقاب في التكاليف الكفائية أيضاً. وقد يورد عليه: أولاً: بما في (المباحث) من إبراز الفرق بين المقامين فإنه توجد قدرات متعددة بعدد المكلفين في الواجب الكفائي، إذ القدرة عرض متقوم بالمحل، فمحلها إن كان أحد المكلفين تعييناً فهو ترجيح بلا مرجح، وإن كان الجامع فلا وجود له بحده الجامعي في الخارج، ومثله الفرد المردد، فلا محيص من أن يقال بقيام القدرة بكل واحد منهم غاية الأمر أن إعمال كل منهم لقدرته فرع عدم المزاحم الخارجي الذي منه سبق غيره إلى الامتثال، وهذا بخلاف المقام إذا ادعي وجود قدرة واحدة قائمة بالمكلف الواحد على الجامع بين الضدين أي أحدهما. وفيه: جريان نظيره ـ لو سلم ـ في المقام أيضاً، إذ المفروض توفر القدرة لدى المكلف الموجه إليه الخطاب الترتبي، فمصب القدرة إن كان واحداً من متعلقي الخطابين تعييناً فهو ترجيح بلا مرجح ـ وهو آيل إلى الترجح بلا مرجح المساوق لوجود المعلول بدون وجود علته ـ وإن كان الجامع فلا تحقق له في الأعيان، وإن كان الفرد المردد فلا وجود له لا خارجاً، لأن الشيء ما لم يتشخص لم يوجد، فكل شيء هو هو، لا هو أو غيره، ولا ذهناً لأن الذهن مرتبة من مراتب الخارج، والتقابل بين الذهن والخارج إنما يحصل بقياس أحدهما إلى الآخر وإلا فالوجود مساوق للخارجية والموجود في الذهن إنما هو المردد بالحمل الأولي، لا المردد بالحمل الشائع، ولذا لا يوجب صدقه عليه واندراجه فيه، لأن ملاكهما الشائع لا الأولي كما لا يخفى. فلا محيص عن تعلق القدرة بالاثنين. وبتقرير آخر: القدرة يمكن أن تطلق على معنيين: أحدهما: صرف المقتضي ـ كوجود القوة العضلية على العمل، في قبال من أصيب بالشلل مثلاً ـ. وثانيهما: المقتضي منضماً إلى عدم المانع. وعلى كل تقدير فلا فرق بين الوجوب الكفائي والترتبي، إذ لو أريد المعنى الأول فالقدرة متوفرة في المقامين، لوجود القوة العضلية عند كل واحد من المكلفين في الواجب الكفائي، وعند المكلف على كل واحد من المتعلقين في الواجب الترتبي، ولو أريد المعنى الثاني فالقدرة مشروطة في كلا المقامين، إذ قدرة كل مكلف على أداء الواجب الكفائي الذي لا يتحمل التكرار مشروطة بعدم سبق غيره إليه، كما أن قدرة المكلف على أحد الضدين مشروطة بعدم تلبسه بالضد الآخر واشتغاله به. وكأن المجيب لاحظ القدرة بمعناها الأول في الواجب الكفائي، وبمعناها الثاني في الواجب الترتبي، مع أن الأمور لا تقاس بميزانين. وثانياً: بعدم تسليم تعدد العقاب في الواجبات الكفائية، بتقريب: أن التكليف واحد في الواجبات الكفائية ـ لوحدة الملاك أو الغرض، على اختلاف المبنيين ـ وليس في مخالفة التكليف الواحد إلا عقاب واحد. فوحدة الملاك ـ أو الغرض ـ تستلزم وحدة التكليف، ووحدته تستلزم وحدة الطاعة أو العصيان، ووحدتهما تستلزم وحدة الثواب أو العقاب. وعليه: فلم يعص للمولى إلا تكليف واحد، ولم يفوت عليه إلا غرض فارد، فلا يستحق المكلفون إلا عقوبة واحدة تتوزع عليهم، بمعنى أنه لو كان للعاصي الواحد عقوبة معينة فإنها تتوزع على مجموع العصاة في الواجب الكفائي. وهذا بخلاف مقام الترتب، إذ تتعدد فيه الأوامر، تبعاً لتعدد المبادئ، فقياس أحدهما على الآخر قياس مع الفارق. ويرد عليه: أولاً: عدم تسليم وحدة الملاك في الواجب الكفائي، إذ يحتمل ـ ثبوتاً ـ كون الملاك بسيطاً لا جزء له، وكونه مركباً من جزئين ـ أو أجزاء ـ على نحو الاستقلال في الباعثية ـ بأن كان كل واحد منهما ذا باعثية تامة لو فرض منفرداً ـ أو الانضمام ـ بأن كان كل واحد منهما علة ناقصة ـ أو الاختلاف. ثانياً ـ عدم تسليم وحدة التكليف في الواجب الكفائي، ولو مع تسليم وحدة الملاك، لإمكان تعدده فيه إما بأن يقال بوجود وجوبات عينية بعدد المكلفين ولكنها مشروطة بعدم إتيان الآخرين به. أو يقال: بأن الفعل واجب على جميع المكلفين، إلا أن هناك ترخيصاً في الترك لكل منهم، مشروطاً بفعل الآخر. أو يقال: بأن الفعل واجب على جميع المكلفين، إلا أن هناك ترخيصاً في الترك لكل منهم، مشروطاً بفعل الآخر. أو يقال: بتحريم ترك الفعل المنضم إلى ترك الآخرين، لا مطلق الترك، على كل واحد من المكلفين. أو يقال: بوجود وجوبات كثيرة بعدد المكلفين، ولكن الواجب بهذا الوجوب ليس هو صدور الفعل من كل واحد منهم، وإنما هو الجامع بين الفعل الصادر منه أو من غيره، فالواجب هو حصول الفعل خارجاً ـ بناءً على أن الجامع بين المقدور وغير المقدور مقدور ـ. وتفصيل الكلام في ذلك موكول إلى مباحث الوجوب الكفائي. ثالثاً ـ عدم تسليم الملازمة بين وحدة التكليف ووحدة العقاب، إذ للمولى أن يعاقب العبد عقاباً واحداً، وله أن يعاقبه عقوبات متعددة ـ مع اتحاد سنخ العقوبة أو اختلافه ـ ما لم يخرج عن دائرة العدل، كما قد يدعى ذلك في بعض العقوبات الأخروية، وفي بعض عقوبات الموالي العرفية، فتأمل. |
|
النقض بالتكليفين الطوليين |
|
(الثاني) ما في (المباحث) من النقض بتكليفين في زمانين يتضاد متعلقاهما في القدرة، مع كون المتأخر منوطاً بعدم امتثال المتقدم، وذلك أمر سائغ حتى عند القائل باستحالة الترتب لعدم تعاصر الفعليتين كي تحصل المطاردة بينهما، فلو فرض عصيان المكلف للأمرين لاستحق العقابين، مع عدم القدرة على الفعلين. انتهى. ويمكن التمثيل له بالأمر بصوم اليوم الثاني من شهر رمضان معلقاً على عصيان الأمر بصوم اليوم الأول، في صورة عجز المكلف عن صوم اليومين معاً، فإنه يجب على المكلف صوم اليوم الأول بناءً على ما قرر في باب التزاحم من الأصول وفي كتاب الصلاة من الفقه من لزوم تقديم ما هو أسبق زماناً، فلا يجب الصوم في اليوم الثاني إلا معلقاً على عصيان الأمر بالصوم في اليوم الأول. وكذا فيما لو فرضت هنالك أهمية أخرى غير مجرد السبق الزماني، كما لو دار الأمر بين الدفاع عن بلاد الإسلام ليلاً أو الصوم نهاراً ـ مثلاً ـ. ويرد عليه: أولاً: عدم تسليم اشتراط (العرضية) في تحقق موضوع الترتب، بل يجري بحث الاستحالة والإمكان وإن كان التكليفان طوليين، على ما سبق في الشرط العاشر من (شرائط تحقق الموضوع)، فجواز التعدد في المثال مبني على جوازه في كلي مسألة الترتب، فبناؤه عليه مستلزم للدور. ثانياً: مع تسليم الخروج الموضوعي لمورد النقض عن الترتب نقول: إن تعدد الاستحقاق في المقيس عليه غير مسلم لدى المستدل إذ أنه يرى مناط الاستحقاق (ترك الفعل المقدور) وليس المقدور من الأمرين إلا أحدهما في المقيس عليه ـ كالمقيس ـ فليس فيه إلا استحقاق واحد. ثالثاً: عدم تسليم القياس لوجود الفارق بين المقامين بتقريب: أنه ليس المطلوب في المقيس عليه: كلاهما على نحو الوجب التعييني لكونه تكليفاً بغير المقدور، ولا كلاهما على نحو الوجوب التخييري وإلا لكانا عدلين متكافئين يتخير المكلف بينهما، وليس المطلوب المتقدم وحده بحيث يكون التوقيت ركناً في المطلوبية مطلقاً، وإلا لما أمر بالفاقد، فإن الأمر به يكون حينئذ بلا ملاك، فمن نفس تعلق الأمر بالفاقد يستكشف عدم كون الوصف ركناً في أصل الغرض فلا يبقى في المقام سوى تعدد المطلوب، ووجوب طلبين يتعلق أحدهما بالجامع ويتعلق الآخر بإيجاد الجامع في الحصة المعينة، وعليه يكون تعدد الاستحقاق عند عصيان الأمرين بسبب مقدورية المطلوبين، فإن الجامع مقدور، والحصة مقدورة أيضاً فيكون العقاب على تركهما عقاباً على ترك أمرين مقدورين، بخلاف الأمر في الترتب. وفيه: أولاً ـ إن هذا إنما يتم بناءً على كون الجامع بين المقدور وغير المقدور مقدوراً ـ كما عليه المجيب وقد ذهب إليه المحقق الثاني (رحمه الله) وجماعة من الأعلام ـ وأما بناءً على كون الجامع غير مقدور ـ كما ذهب إليه المحقق النائيني (قدس سره) وغيره ـ فلا يتم الفرق بين المقامين. وثانياً ـ لا ينحصر تفسير الأمرين ـ ثبوتاً ـ بتعدد المطلوب، بل يمكن أن يكون المتقدم واجباً ارتباطياً واحداً والتوقيت ركن فيه، والمتأخر واجباً آخر مغايراً للواجب الأول في الملاك والهوية، لكن وجوده مشروط بعدم امتثال الواجب المتقدم. وثالثاً ـ إنه إما أن يراد بالجامع: الجامع المنصوص أو الجامع المنتزع، وعلى كل تقدير يمكن فرض وجوده وعدمه في كل من المقامين، فلا يتم الفرق المذكور بينهما. وقد تحصل من هذه الأجوبة إمكان أن لا يكون هناك جامع، وعلى فرض وجوده فهو غير مقدور، وعلى فرض كونه مقدوراً فهو مشترك بين المقامين فالإيراد الثالث لا يخلو من نظر، فتدبر. |
|
ملاحظة كل خطاب منفرداً |
|
(الثالث): ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) بقوله: (إن العبرة في استحقاق العقاب: ملاحظة كل خطاب بالنسبة إلى كل مكلف في حد نفسه، بمعنى أنه يلاحظ الخطاب وحده مع قطع النظر عن اجتماعه مع خطاب آخر، ويلاحظ كل مكلف وحده مع قطع النظر عن اجتماعه مع مكلف آخر، فإن كان متعلق ذلك الخطاب الملحوظ وحده مقدوراً بالنسبة إلى ذلك المكلف الملحوظ وحده فعنده العصيان يستحق العقاب وإلا فلا. ومن المعلوم تحقق القدرة في كل من متعلقي الخطابين المترتبين في حد نفسه، وكذا كل مكلف في الواجب الكفائي فعند ترك كلا المتعلقين يستحق عقابين، وعند ترك الكل للكفائي يستحق الجميع للعقاب لتحقق شرط الاستحقاق). انتهى. ويرد عليه: أنه مستلزم لجواز الأمر بالضدين مطلقاً والعقوبة على تركهما، كأن يأمره بالسير إلى المشرق والمغرب في زمان واحد بلا ترتب بينهما ـ لفرض تعلق القدرة بكل واحد منهما، لو قطع النظر عن اجتماعه مع الآخر فلا يقبح الخطاب بهما، ولا العقوبة عليهما. اللهم إلا أن يفرق بينهما بأن الأمر بالضدين مطلقاً محال في نفسه، أو قبيح على الحكيم، فلا يعقل صدوره ليبحث في استحقاق العقاب على تركه، بخلاف الأمر الترتبي، فإن الوجدان شاهد على إمكان وقوعه ـ كما سيأتي إن شاء الله تعالى ـ والضابط المذكور في كلامه (قدس سره) لاستحقاق العقاب إنما هو بعد مفروغية إمكان التكليف. لكن هذا الجواب لا يخلو من شائبة الدور، إذ محل الكلام والنقض والإبرام هو الإمكان، فلو أخذ فيه دار. إلا أن يقال: ليس المراد إثبات الإمكان، بل دفع الإشكال عن التعدد بعد الفراغ عن الإمكان بحكم الوجدان، ولا برهان على كون القدرة المأخوذة شرطاً في استحقاق العقاب مصححة لتوجيه الخطاب، ليورد بالأمر بالضدين مطلقاً، فتأمل. وأما ما في (المباحث) من الإيراد على ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) باستلزامه لتعدد العقوبة فيما إذا فرض أمر المولى بالضدين مطلقاً بنحو القضية الخارجية غفلة عن التضاد بينهما مع عصيان العبد لكليهما، لكون كل منهما مقدوراً في نفسه، مع حكم الوجدان بخلافه، ففيه: أن الأمر الناشئ من الغفلة ليس بأمر حقيقة، إذ الأمر بما هو أمر لا موضوعية له بل هو طريق لكشف الملاكات الواقعية، أو أغراض المولى، فإذا علم بعدم ذي الطريق لم يكن الأمر منجزاً، ولم يستحق العبد العقاب على مخالفة مثل هذا الأمر، كما يشهد له بناء العقلاء. كما أنه في صورة العكس ـ أي صورة وجود الملاك الملزم بلا أمر ـ يمكن أن يقال بوجوب تحصيل ذلك الملاك أو الغرض، إذ الأمر طريق، فإذا حصل ما كان الأمر طريقاً إليه لم يكن حصول الطريق بمهم، كما هو الشأن في كل طريق وذي الطريق لدى العرف. ونظير المقام ما ذكره الفقهاء في بحث الغصب من أنه إذا أذن المالك في التصرف ولكن كانت هناك قرائن تدل على عدم رضاه لم يجز التصرف، كما أن العكس بالعكس، وقد علله السيد الوالد (دام ظله) في المسألة السادسة عشرة وفي المسألة الثانية والعشرين من بحث مكان المصلي من كتاب الصلاة من (الفقه) بنظير ما ذكرناه في المقام، فراجع. |
|
العقاب على ترك كل حال ترك الآخر |
|
(الرابع): ما ذكره (قدس سره) أيضاً بقوله: (إن العقاب ليس على ترك الجمع ـ ليكون على غير المقدور ـ ضرورة أن الطلب لم يتعلق إلا بذات كل من الواجبين فكيف يعاقب على ترك الجمع الذي لم يطالب المكلف به أصلاً، بل العقاب إنما هو على ترك كل منهما حال ترك الآخر ولا ريب في مقدوريته، وهكذا الحال في الواجبات الكفائية فإن العقاب هناك على عصيان كل واحد منهم على عصيان الباقين). انتهى. ويرد عليه: أولاً: النقض بالأمر بالضدين مطلقاً، لمقدورية ترك كل منهما حال ترك الآخر وهي شرط حسن الخطاب والعقاب. وسوق الكلام فيه كسوقه في الثالث. ثانياً: إن القيدين المأخوذين في سبب استحقاق العقاب ـ أعني قوله (حال ترك المهم) و (حال ترك الأهم) ـ وإن اختلفا بلحاظ المفهوم والعنوان إلا أنهما متحدان بلحاظ المصداق والزمان، إذ زمان ترك كل منهما هو زمان الاشتغال بالثالث، ومن الواضح أن ملاك رفع التضاد ليس هو التعدد العنواني بل التعدد الزماني، فتكون العقوبة على ترك كل من الأهم والمهم في هذه الحالة مستلزمة لفعلية الأمر بهما معاً فيها مع أن فعلهما معاً غير مقدور، فيكون ترك أحدهما مضطراً إليه، فتكون العقوبة عليه عقوبة على ما لا يدخل تحت الاختيار. نعم: لو لوحظ كل من التركين في حد نفسه كان مقدوراً، لكنه يرجع حينئذ إلى الجواب الثالث، فتأمل. ثم لا يخفى أن متعلق العقاب تابع في إطلاقه واشتراطه لمصب التكليف، والمفروض أن التكليف بالأهم مطلق شامل لحالتي فعل المهم وتركه، فكون العقاب على (ترك المأمور به حال ترك الآخر) وإن صح في المهم ـ لكونه مشروطاً ـ لكنه لا يصح في الأهم ـ لكونه مطلقاً ـ. ثم لا يخفى أن التكليف بالجمع لا يجب أن يكون بعنوانه، لإمكان انتزاعه من تكليف العبد بشيئين متزامنين، ولو بأمرين منفصلين ويكفي في صدق العنوان الانتزاعي صدق منشأ انتزاعه، فإنه مجعول بجعله، ومطلوب بطلبه، منتهى الأمر أن أحدهما مجعول بالذات، والآخر مجعول بالعرض، كما لا يجب أن يكون التكليف بالجمع مطلقاً، بل يمكن ـ أيضاً ـ كونه تكليفاً بالجمع مشروطاً. وعليه: فلا يشترط في كون التكليف تكليفاً بالجمع: الإطلاق، ولا عدم تعلقه بذات كل من الواجبين فالتفكيك بينهما لا يخلو من نظر، فتأمل. ويؤيده ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) في طي ما استدل به لإمكان الترتب حيث قال: (والحاصل أنه لا إشكال في أن الموجب لإيجاب الجمع في غير باب الضدين إنما هو إطلاق الخطابين لحالتي فعل متعلق الآخر وعدمه، كالصلاة والصوم، فإن الموجب لإيجاب الجمع بينهما إنما هو إطلاق خطاب الصلاة وشموله لحالتي فعل الصوم وعدمه، وإطلاق خطاب الصوم وشموله لحالتي فعل الصلاة وعدمه. ونتيجة الإطلاقين إيجاب الجمع بين الصلاة والصوم على المكلف...). |
|
العقاب على الجمع في الترك |
|
(الخامس): ما في منتهى الدراية من أن مناط استحقاق تعدد العقوبة ليس مخالفة الأمر بالجمع بين المتعلقين، ليورد بعدم القدرة، بل مناطه (الجمع في الترك)، وهو أمر مقدور للعبد، فالمؤاخذة على الجمع في الترك حينئذ لا قبح فيها عقلاً. ويرد عليه: أولاً: إنه ليس للهيئة المجموعية وجود متأصل وراء وجود الأفراد، بل هي أمر ينتزع من فعل هذا وفعل ذاك أو من ترك هذا وترك ذاك، وإلا لزم التسلسل، بتقريب أنه لو كان هناك أمران، وكانت الهيئة الاجتماعية أمراً ثالثاً متأصلاً في الأعيان، لكانت الهيئة الاجتماعية للثلاثة أمراً عينياً أيضاً لأن حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد، فتصبح الثلاثة أربعة، ولهذه الأربعة هيئة اجتماعية عينية.. وهكذا.. فيلزم التسلسل. ففي المقام: ليس (الجمع في الترك) إلا عنواناً منتزعاً من هذا الترك وذاك الترك، وليس له وجود مستقل في قبالهما، وحيث إن (الفعلين) معاً غير مقدورين لذا يكون أحد التركين هو المقدور، وأما الترك الآخر فهو ضروري، والقدرة لا تجامع الضرورة، فيكون العنوان المنتزع منهما غير مقدور، لأن النتيجة تابعة لأخس المقدمتين، وهذا نظير ما ذكروه في أن الجامع بين المقدور وغير المقدور غير مقدور، فتأمل. ثانياً: لو فرض أن الهيئة المنتزعة مقدورة لم يجد ذلك فيما رامه من التعدد، لكونها أمراً واحداً بسيطاً، فلا تستتبع أكثر من استحقاق واحد. هذا مع ورود بعض ما تقدم عليه أيضاً. |
|
المناط إمكان التخلص من المخالفة |
|
(السادس): ما في (المباحث) من أن الميزان في صحة العقاب أن يكون التخلص من المخالفة مقدوراً للمكلف ـ لا أن يكون الامتثال مقدوراً ـ وفي المقام يمكن التخلص من مخالفة التكليفين وإن لم يمكن امتثالهما معاً فيكون تعدد العقاب في محله. وهذا بخلاف ما لو أمر المولى بالضدين مطلقاً ـ غفلة ـ فإن لا يستحق عقوبتين مما يبرهن على أن ميزان صحة العقاب إمكان التخلص، والمكلف في المثال لا يمكنه التخلص إلا عن إحدى المعصيتين فلا يستحق إلا عقاباً واحداً. ويرد عليه: أنه مستلزم لجواز الأمر بجميع المحالات الوقوعية، بل الذاتية معلقاً على عصيان تكليف مولوي أو ارتكاب فعل اختياري ـ وإن كان مباحاً ـ وجواز العقاب على تركها كقوله (ان ظاهرت زوجتك فطر في السماء)، أو: (إن دخلت دار زيد فاجمع بين النقيضين) وذلك لوجود الملاك المذكور وهو إمكان التخلص من المخالفة فيها، بعدم إيجاد مقدم الشرطية، فلا يقبح الخطاب بها ولا العقاب عليها، وهو خلاف الوجدان. وكون الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً ـ وإن نافاه خطاباً ـ لا ينافيه لكون مجراه الممكنات بالإمكان الذاتي والوقوعي التي طرأ عليها (الامتناع الغيري) بسوء الاختيار لا (الممتنعات الذاتية) ولا (الوقوعية) ولا (الغيرية)[1] التي لم يكن لسوء الاختيار دخل في امتناعها، لخروج هذه القاعدة على نحو الخروج الموضوعي إذ ليس لامتناع فيها ناشئاً من سوء الاختيار، وما نحن فيه من هذا القبيل، فتدبر. وأما ما ذكره من الأمر بالضدين غفلة فقد سبق الكلام فيه في (الثالث)، فراجع. |
|
لا قبح في العقاب على غير المقدور |
|
(السابع): ما في (حقائق الأصول) من أن قبح العقاب على ما لا يقدر عليه لا أصل له ما لم يرجع إلى قبح العقاب على ما لا تكليف به، فلا يكون العقاب عليه عقاباً على المعصية، وقد عرفت سابقاً إمكان التكليف بكل من الأهم والمهم. انتهى. وهذا الجواب كما ترى متفرع على ثبوت الإمكان، فلا يرد عليه إشكال الدور المتقدم. |
|
الهتك هو الملاك |
|
(الثامن): إنه يمكن أن يتخذ (الهتك) ملاكاً للاستحقاق، لا (الترك) وعليه يبنى استحقاق المتجري للعقاب لهتكه حرمة مولاه، وجرأته عليه، وخروجه عن رسوم العبودية، وخلعه لزي الرقية ولا شك في تحقق الانتهاكين في عصيان الأمرين، لخروج العبد عن رسوم العبودية مرتين، ومن الواضح قدرة العبد على ترك الانتهاكين فيكون ارتكابه لهما ارتكاباً لما هو داخل في حيز القدرة، فيستحق العقابين. ويرد عليه: أنه إن أريد بالهتك العنوان المتحد مع الترك الخارجي فقد مر أن أحد التركين هو المقدور. وإن أريد به العنوان المنتزع منه ففيه: أن العنوان الانتزاعي متحد الحكم مع منشأ الانتزاع. وقد يناقش فيه: بأنه إنما يتم لو قيل بكون استحقاق العقاب على نفس الإتيان بالفعل ـ أو الترك ـ المتجرى به، كما اختاره في (النهاية) و (مصباح الأصول) ـ وأما لو قيل بكونه على قصد العصيان والعزم على الطغيان، لا على الفعل الصادر بهذا العنوان ـ كما اختاره في (الكفاية) ـ فلا، لتعدد القصد. وفيه: أنه لا مناص من أحد القصدين (قصد ترك الأهم أو المهم) لسراية اللابدية من المقصود إلى القصد فما دام ترك أحدهما مضطراً إليه ـ على ما سبق ـ يكون قصد ذلك الترك كذلك، فتأمل. |
|
تفويت الملاك |
|
(التاسع): إن تفويت الملاك المولوي سبب لاستحقاق العقوبة.. وحيث إن العبد في المقام فوت على المولى ملاكين لذا يستحق عقوبتين. وقد يقرب هذا الوجه بأن الملاك في طرف الأهم مركب من جزئين (أصل الوجود) ـ المشترك بين الأهم والمهم ـ و (شدة الوجود) ـ المختصة بالأهم ـ فيكون في مقدور المكلف الحصول على كلا الملاكين، بفعل الأهم، كما يمكنه تفويت أحدهما، بفعل المهم، وتفويت كليهما، بترك الاثنين. مثلاً: لو أمر المولى عبده بسقي الزرع بالماء الأجاج معلقاً على عصيانه الأمر بسقيه بالماء العذب فسقى الزرع بالماء العذب حصل ملاكين: ملاك أصل السقي، وملاك السقي بالماء العذب، ولو سقاه بالماء الأجاج فاتته الحصة وإن لم يفته الطبيعي، ولو ترك الاثنين فاته الملاكان. ولكن هذا المبنى لا يخلو من نظر، إذ ليست المرتبة القوية من الوجود مركبة من (أصل الوجود) و (شدة الوجود) ولا المرتبة الضعيفة تفقد من حقيقة الوجود شيئاً أو تختلط بالعدم، بل لا تزيد كل واحدة من مراتب الوجود المختلفة على حقيقة الوجود المشتركة شيئاً، ولا تفقد منها شيئاً، وإنما هي الوجود في مرتبة خاصة بسيطة، لم تتألف من أجزاء ولم تنضم إليها ضميمة، وتمتاز عن غيرها بنفس ذاتها التي هي الوجود المشترك ـ على ما قرر في محله ـ. فالملاك القوي والضعيف حقيقتان بسيطتان، وأحدهما فائت لا محالة، لأن المكلف إن فعل الأهم فات عليه ملاك المهم (لو كان ذا ملاك فعلي في عرض الأهم أما لو كانت فعلية ملاكه مترتبة على عصيان الأمر بالأهم فالسالبة بانتفاء الموضوع) ولو فعل المهم فات عليه ملاك الأهم، وعلى هذا فلم يفوت المكلف بعصيانه للأمرين إلا أحد الملاكين. ولو سلم التركيب لم يقدح في المرام أيضاً، إذ ليست نسبة الطبيعي إلى أفراده نسبة الأب الواحد إلى الأبناء المتعددين، بل نسبة الآباء المتعددين إلى الأبناء المتعددين، بل الطبيعي وجوده عين وجود أشخاصه، ففرض عدم مقدورية الفردين معاً مساوق لفرض عدم مقدورية الطبيعيين، فأحد الطبيعيين فائت على المكلف لا محالة، إذ يدور أمره بين تفويت الطبيعي الكائن في ضمن الأهم، أو تفويت الطبيعي الكائن في ضمن المهم، فيكون العقاب إما على تفويت الأهم أو المهم، لا على تفويت الاثنين. |
|
الوقوع |
|
ثم إنه لو فرض عدم وفاء هذه الأجوبة بحل إشكال عدم المقدورية لم يقدح ذلك في تعدد الاستحقاق، بعد رؤية العقل ثبوت الاستحقاق المتعدد في الخارج فإن الوقوع أدل دليل على الإمكان، إذ الشيء ما لم (يتقرر) لم (يمكن) وما لم يمكن لم (يحتج) وما لم يحتج لم (يوجب) وما لم يوجب لم (يجب) وما لم يجب لم (يعط الوجود) وما لم يعط الوجود لم (يوجد). ومن هنا قالوا: (الشيء قُرّر، فأمكن، فاحتاج، فأوجب، فوجب، فأوجد، فوجد).. فالوجود يقع في مرحلة متأخرة عن الإمكان، وما لم يمر الشيء بمرحلة (الإمكان) لا يمكن أن يصل إلى مرحلة (الوجود) لاستحالة (الطفرة) في المراتب، كاستحالتها في الزمان والمكان، فالوجود اللاحق كاشف عن الإمكان السابق. ومما يؤيده ما ذكرناه من تعدد الاستحقاق عقلاً أن المولى لو أمر عبده بإنقاذ جمع من الغرقى على سبيل الترتب، فلم يمتثل، فعاقبه المولى أضعاف ما يعاقب به العبد المأمور بإنقاذ غريق واحد، لما كان عند العقلاء ملوماً، وكان العبد عندهم به جديراً. |
|
قلب الإشكال |
|
ثم إنه يمكن أن يقلب هذا الإشكال (أي إشكال تعدد الاستحقاق الذي أورد به على القائل بإمكان الترتب) على القائل بعدم الإمكان، إذ تعدد الاستحقاق ـ في صورة عصيان الأمرين ـ لا شك فيه عند العقلاء، وإلا لزم تساوي العاصي للأمر المولوي الواحد، والعاصي للأمرين المسوقين على نحو الترتب، في العقوبة، وهو خلاف حكم العقل بالتعدد، وخلاف ما جرت عليه سيرة العقلاء، ومن المعلوم أن العقوبة على الهيئة لا تصح في مخالفة الأمر الإرشادي، فيتعين كون الأمر بالمهم ـ كالأهم ـ مولوياً، وهو المطلوب، فتأمل. |
|
الالتزام بوحدة الاستحقاق |
|
ثم إنه قد يلتزم بوحدة الاستحقاق في صورة عصيان الأمرين ـ مع كونهما مولويين ـ بتقريب أن ملاك الاستحقاق تفويت الغرض الداعي للأمر، فلو فرض اشتمال المهم على بعض مصلحة الأهم فالمكلف إما أن يأتي بالأهم فيدرك تمامها أو بالمهم فيتدارك بعضها فلا عقوبة إلا بقدر البعض الآخر، وإذا تركهما فلا يستحق من العقوبة إلا بمقدار مصلحة الأهم، لأن مصلحة المهم إنما أمر بتحصيلها لتدارك مصلحة الأهم لا لنفسها، فالعقوبة على تقدير ترك كليهما مثلها لو لم يؤمر بالمهم وعصى الأهم. ويرد عليه: أولاً: إن استحقاق العقوبة لازم لا ينفك بالنسبة إلى مخالفة الأمر المولوي. (لا) لما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) بقوله: (لا يصح الخطاب المولوي الشرعي إلا إذا أمكن أن يكون داعياً نحو الفعل، وباعثاً إليه، وداعوية الخطاب بالنسبة إلى غالب نفوس البشر إنما هي باعتبار ما يستتبعه من الثواب والعقاب، إذ قلّما يكون نفس الخطاب بما هو خطاب داعياً نحو الامتثال إلا بالنسبة للأوحدي فلابد أن يكون كل خطاب إلزامي مولوي مستتبعاً لاستحقاق العقاب ليصلح أن يكون داعياً، وإلا خرج عن المولوية إلى الإرشادية). (بل) لما سبق في تقرير الوجه الثاني مما أورد به على الترتب. (وذلك) لرجوع ما ذكره (قدس سره) إلى لغوية الأمر المولوي لو جرى تفكيك الاستحقاق عنه، مع أن مجرى صدق اللغوية متحد مع مجرى الجعل التأليفي، وهو لا يعقل بين الشيء ونفسه، ولا بينه وبين ذاتياته، ولا بينه وبين عوارضه اللازمة وذلك لأن مناط الحاجة هو الإمكان، والضرورة ملاك الاستغناء، والنسبة بين الذات ونفسها وذاتياتها وأعراضها اللازمة من سنخ النسب الضرورية فلا تقبل الوضع ولا الرفع، وقد سبق أن النسبة بين الأمر المولوي والاستحقاق نسبة ضرورية فلا مجرى فيها للجعل التأليفي، فلا مجال فيها للقول: بأن تفكيك هذا اللازم عن ملزومه سبب للغوية الملزوم، وذلك لكون هذا التفكيك محالاً، ولا معنى لتعليل عدم التسبيب للمحال باللغوية. وعليه: كيف يمكن افتراض كون الأمر بالمهم مولوياً مع عدم استحقاق العقوبة على تركه ـ في حالة عصيان الأمرين ـ وفرضه إرشادياً خروج عن موضوع الترتب واندكاك العقوبتين مستلزم لتوارد علتين مستقلتين على معلول واحد ـ إن أريد به الاندكاك الحقيقي ـ وللخلف ـ إن أريد به غيره ـ. ثانياً: ما ذكره المشكيني (رحمه الله) من (منع كون ملاك الاستحقاق هو التفويت، بل هو الهتك)، انتهى. ويرد عليه: أن العقل هو الحاكم على الإطلاق في باب الاستحقاق، وهو كما يرى الهتك سبباً، كذلك يرى التفويت سبباً. لا يقال: أنه يلزم منه تعدد الاستحقاق عند اجتماع السببين، وإلا لزم توارد العلتين المستقلتين على معلول شخصي واحد، وهو محال (للزوم احتياجه إلى كل واحدة منهما ـ لكونهما علة له ـ واستغنائه عن كل واحدة منهما ـ لاستقلال الأخرى في العلية ـ فيكون حال حاجته إليهما مستغنياً عنهما، وللزوم تحصيل الحاصل) مع أنه ليس في المعصية الواحدة إلا عقوبة واحدة، فوحدة المسبب كاشفة ـ إنّاً ـ عن وحدة السبب. لأنه يقال: بجريان الكسر والانكسار في تأثير العلتين إذا اجتمعتا، إذ لا يخلو الأمر عند اجتماعهما من (عدم تأثيرهما أصلاً) أو (تأثير أحدهما المعين)، أو (المردد)، أو (كليهما على نحو الاستقلال في العلية)، أو (التشارك غير المتكافئ) أو (المتكافئ). والأول خلاف وجدان المعلول خارجاً. والثاني ترجيح بلا مرجح. والفرد المردد لا وجود له، فكيف يكون علة للوجود مع أن فاقد الشيء لا يعطيه. والرابع مستلزم للتوارد. والخامس كالثاني. فيتعين الأخير. وهذا يجري فيما نحن فيه من تعدد سبب الاستحقاق. مع إمكان أن يقال: أنه لا استحالة في تعدد الاستحقاق عند انطباق عناوين مختلفة على الفعل، بل مطلقاً على ما مر، فتأمل. لا يقال: ليس تفويت غرض المولى بما هو هو سبباً للاستحقاق، بل لانطباق عنوان الهتك عليه، بدليل الدوران والترديد، فالتفويت بلا هتك ـ كما في صورة التجري ـ سبب لذلك... فينحصر الأمر ـ بالنتيجة ـ في سببية الهتك. وهذا نظير ما أورد على استحقاق المتجري للعقاب بما حاصله أن المعصية سبب للعقاب، فلو كان التجري سبباً أيضاً لزم التعدد أو التداخل، في المعصية الحقيقية. وفيه: عدم تسليم كونها سبباً، بالدليل المزبور، بل انطباق عنوان الهتك يمنحها السببية. فإنه يقال: لا ملازمة بين العنوانين إذ أن من الممكن صدق التفويت دون انطباق عنوان الهتك عليه.. كما لو سقط ابن المولى في البئر في حال غيبته ـ مثلاً ـ فإنه إن لم ينقذ الابن استحق العقوبة ـ على ما بيّناه في موضع آخر ـ مع عدم انطباق عنوان الهتك عليه، مع أنه لا مانع في مورد التصادق من استحقاق العبد عقوبتين، كما سبقت الإشارة إليه، فتأمل. ثالثاً: مع تسليم كون ملاك الاستحقاق هو تفويت غرض المولى نقول: إن المستدل إن أراد نفي كلية الملازمة بين تعدد الأمر وتعدد العقوبة لا نفي الملازمة كلية، فيه أن ذلك لا يجديه لعدم توقف استدلال نافي الترتب على كلية تعدد العقاب، لينقض من قبل المثبت بالسالبة الجزئية، وإنما تكفيه الموجبة الجزئية التي لا يمكن نقضها بالسالبة الجزئية، بل لا يتوقف استدلال النافي على إثبات وجود الموجبة الجزئية، وإنما يكفيه احتمال وجودها، لأن احتمال استلزام الشيء للازم الباطل كاف في إثبات بطلان الملزوم، وذلك لأن اللازم المحال أو الباطل مقطوع العدم، فلا يمكن إحراز وجود شيء إلا مع القطع بعدم استلزامه له، لأن الشيء لا يحرز وجوده إلا مع القطع بسد جميع أبواب العدم عليه، ومن هنا قيل في العقليات: (إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال). وإن أراد نفي الملازمة كلية ففيه: أن الأمر بالمهم كاشف عن إنيّة الملاك لا ماهيته، فلا معين لافتراض كون ملاك الأمر بالمهم هو التدارك لينفي به تعدد العقاب، وذلك لما ذكره المشكيني (رحمه الله) من أنه يتجه إذا كانت المصلحة في المهم من سنخ مصلحة الأهم، وفي غيره لا معنى لتداركها لها، وعلى فرض السنخية فإنما يتم لو كان الغرض المترتب على المهم مطلوباً لتدارك الغرض الأهم لا في عرضه، كما في إنقاذ العالم والجاهل ـ مثلاً ـ. |
|
[1] الإمكان الذاتي عبارة عن تساوي نسبة الشيء إلى الوجود والعدم بحيث لا يقتضى بذاته أحدهما. ـ والإمكان الوقوعي عبارة عن كون الشيء بحيث لا يستلزم وجوده ولا عدمه محذوراً عقلياً. ـ والامتناع الغيري عبارة عن عدم تحقق علة الشيء، فكل شيء لم توجد علته التامة يطلق عليه أنه ممتنع غيري. ـ والامتناع الذاتي عبارة عن كون الشيء بحيث يقتضى بذاته العدم اقتضاءً حتمياً ويحكم العقل بمجرد تصور أنه ممتنع الوجود كاجتماع النقيضين أو ارتفاعهما. ـ والامتناع الوقوعي عبارة عن كون الشيء بحيث يلزم من وقوعه الباطل والمحال وإن لم يكن بمحال ذاتاً. كذا ذكره بعضهم. |