الفهرس

آية الله السيد محمد رضا الشيرازي

الصفحة الرئيسية

 

شرائط تحقق الموضوع

يشترط في تحقق موضوع (الترتب) أمور:

وجود التضاد بين الأمرين

(الأول): وجود التضاد بين الأمرين، وإلا لم يكن محذور في الجمع بينهما.

ولا يخفى أنه ليس المراد (التضاد بالذات)، إذ لا يجري في الأحكام الشرعية لكونها أموراً اعتبارية، على ما تقرر في محله.

ولا (التضاد بالتبع) ـ بأن يكون الموصوف بالتضاد بالذات واسطة في ثبوت التضاد لها، كوسطية النار في ثبوت الحرارة للماء ـ إذ الوجدان قاض بأنه لا تضاد بين إنشاء الوجوب وإنشاء الحرمة على شيء معين لو قصر النظر عليهما، ولو بعد وسطية غيرهما.

بل المراد (التضاد بالعرض) ـ بأن يكون الموصوف به بالذات واسطة في العروض وهي ما كانت الواسطة مناطاً، لاتصاف ذيها بشيء بالعرض والمجاز، لعلاقة، كما في حركة السفينة وحركة جالسها ـ أما الأصالة فهي للتضاد الحاصل في (المنتهى) ـ أي ما يرتبط بمرحلة امتثال المكلف للحكم وجريه العملي على مقتضاه ـ وأما التضاد الحاصل في (المبدأ) ـ أي مبدأ الحكم من الإرادة ومقدماتها ـ فهو تضاد بالتبع على ما سيأتي إن شاء الله تعالى.

ثم لا يخفى أن المراد من التضاد هنا لا ينحصر في (الحقيقي منه)، وهو ما كان بين الذاتين المتضادتين غاية البعد والخلاف، كما في طرفي الإفراط والتفريط من الصفات، مثل الجبن والتهور، بل يعم التضاد المشهوري أيضاً، وهو ما يشمل غير ما كان كذلك كعمومه له، كالتضاد بين الجبن والشجاعة.

وما ذكر من التعميم إنما هو لعموم الملاك، فما يساق من الأدلة لإثبات إمكان الترتب أو امتناعه يشمل التضاد مطلقاً، حقيقياً كان أو مشهورياً.

نعم يستثنى من ذلك: التضاد بين الضدين اللذين لا ثالث لهما، وسيأتي البحث في ذلك إن شاء الله تعالى.

ثم: إن تخصيص (الضدين) بالذكر ـ من بين أقسام التقابل الأربعة ـ إنما هو لعدم إمكان جريان الترتب في البواقي، أما (النقيضان) فلأن عصيان أحدهما مساوق لتحقق الآخر، لاستحالة ارتفاع النقيضين، فيكون طلبه للحاصل، وأما (العدم والملكة) فلرجوعهما إلى (النقيضين) لكن مع لحاظ المحل القابل، سواء لوحظ المحل المقابل مقيداً بالوقت والشخص وهو (المشهوري) أو مطلقاً وهو (الحقيقي)، وأما (المتضايفان) فلوجوب وجود كل واحد منهما بالقياس إلى وجود الآخر، وامتناعه بالقياس إلى عدمه، فلا يعقل إناطة وجوب إيجاد أحدهما بعصيان إيجاد الآخر لأنه يؤول إلى إيجاب إيجاد الشيء في ظرف عدمه وهو تهافت.

هذا، ولكن يمكن أن يقال بعدم اختصاص الجريان بالضدين، إذ يمكن جريانه ـ ولو بملاكه ـ في الخلافين أيضاً، بأن يكون متعلق الأمر الأول: التطهير ـ مثلاً ـ ومتعلق الثاني: التعطير، معلقاً على عصيان الأمر الأول، وإنما لم يأمر المولى بهما معاً بأن يكون الأمران عرضيين مع قابلية المحل وقدرة المكلف على الجمع ـ بمقتضى كونها خلافين ـ لمفسدة في الأمر بالجمع أو نحو ذلك، وإنما لم يكن الأمران تخييريين لكون الأول أهم.

ومنشأ هذا التعميم استلزام الأمر كذلك لطلب الجمع ـ لعدم سقوط الأمر بالأهم بعصيانه ما لم يفت الموضوع ـ وقد فرضنا المحذور فيه، هذا على مبنى الامتناع، فتأمل.

وعليه: ينبغي أخذ (الغيرية) ـ التي هي مقسم للتماثل والتخالف والتقابل ـ في عنوان البحت لا تخصيصه بالتضاد ـ الذي هو أحد أنواع التقابل ـ ولعل التخصيص بـ (التضاد) في كلمات الأصوليين لمكان كونه محل الحاجة، وتعدد أمثلته في الأوامر الشرعية ـ على ما سيأتي إن شاء الله تعالى ـ.

وهل يختص الأمر في العنوان بالشرعي؟ أم يعم العقلي أيضاً؟

قد يقال: بالاختصاص، بناءً على إنكار وجود الأحكام العقلية أصلاً، فالعقل يرى الحسن والقبيح، وليست له باعثية نحو الحسن، ولا زاجرية عن القبيح.

وفيه: أن باعثية العقل وزاجريته من (الوجدانيات) ـ وهي من أقسام اليقينيات، كما ذكر في بحث (الصناعات الخمس) ـ والإنسان يحس من وجدانه الفرق بين (الرؤية المجردة للعقل) ـ كإدراكه بأن الواحد نصف الاثنين، أو قبح المنظر المشوّه ـ وبين (الرؤية المصحوبة بالتحريك) كما في البعث نحو العدل والزجر عن الظلم.

وتؤيده بعض الظواهر كقوله تعالى: (ونهى النفس عن الهوى)[1]، وقوله سبحانه: (أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون)[2].

لا يقال: الإدراك سنخ مغاير للبعث والزجر، إذ يشبه أن يكون من قبيل الانفعال وهما من قبيل الفعل، والواحد لا يصدر منه إلا الواحد.

فإنه يقال: إن في كون الإدراك من قبيل الانفعال نظراً، فقد ذهب جمع إلى كونه من مقولة (الفعل)، فالنفس تنشئ الصور الذهنية في صقع نفسها، لا أنها تنطبع فيها انطباع الصورة في المرآة، فلا يكون ثمة تعدد في السنخ، مع أن موضوع القاعدة ـ على فرض تسليمها ـ هو الواحد الحقيقي، لأن مناطها هو أن كل علة لابد أن يكون لها خصوصية بحسبها يصدر عنها المعلول المعين، فلو تعدد تعددت وانثلمت وحدة البسيط، وهذا المناط كما ترى مختص بالبسيط الحقيقي، ولذا ذكر أن القاعدة لا تجري في المركب ولو كانت كثرته اعتبارية، وهذا الشرط مفقود في المقام.

وتمام الكلام موكول إلى محله.

لا يقال: إن الحكم عبارة عن نسبة إنشائية متقوّمة بطرفين ـ الحاكم والمحكوم عليه ـ ولا اثنينية في المقام.

فإنه يقال: يكفي في الاثنينية لتعدد الاعتباري، ولا يفتقر إلى التعدد الخارجي ومثاله في الاعتباريات: تولي الولي والوصي والوكيل طرفي المعاملة كأن يبيع مال المولى عليه لنفسه، وماله له، كما ذكر في كتاب البيع والوكالة والنكاح، ومثاله في الأمور الخارجية: علم النفس بذاتها. هذا مضافاً إلى تحقق الاثنينية خارجاً، إذ النفس ـ على المعروف ـ حقيقة ذات مراتب فيمكن أن تكون مرتبة منها حاكمة على مرتبة أخرى منها، فتأمل.

ثم إنه لو فرض إنكار جريان الترتب في مرحلة (الحكم العقلي) أمكن تصور الجريان في مرحلة (الرؤية العقلية) بأن يرى العقل أحد الشيئين حسناً على كل تقدير، والآخر حسناً على تقدير ترك الأول، نعم يمكن أن يقال:

بأن ذلك خروج عن المولوية إلى الإرشادية، وقد أخذت الأولى في موضوع الترتب.

وبه أيضاً يمكن أن يورد على الترتب في مرحلة (الحكم العقلي) ـ على فرض تسليمه ـ بأن يقال: بأن الحكم إرشادي، فلا يتحقق موضوع (الترتب) إذ لا إشكال في جواز الأمر الترتبي الإرشادي حتى عند القائل بامتناع الترتب وما وقع محلاً للخلاف هو الأمر المولوي.

ثم إنه لا وجه لتخصيص موضوع الترتب بـ (الأمرين)، إذ الترتب كما يجري في الأمرين كذلك يجري في النهيين والمختلفين، فتكون الأقسام أربعة، وتعلم الأمثلة بقلب أحد الأمرين أو كليهما إلى النهي عن الضد العام للمتعلق كقول الآمر: (لا تترك الدرس فإن عصيت فلا تترك التجارة).

ودعوى: كون النهي حينئذ صورياً، وواقع الأمر هو الأمر، مدفوعة نقضاً: بإمكان ادعاء العكس، ولا أولوية لها عليه.

وحلاً: بأنه كما يمكن كون المصلحة في الفعل كذلك يمكن كون المفسدة في الترك فللمولى أن يصب الحكم في قالب الأمر بالفعل في الأول، والنهي عن النقيض في الثاني.

ويمكن أن يمثل لذلك أيضاً بقلب الأمر بأحد الضدين الذين لا ثالث لهما إلى النهي عن ضده الخاص، فالأمر لوجود المصلحة في الفعل، والنهي لقيام المفسدة بالضد الخاص..

ولا يرد هنا ما قد يرد على سابقه من استحالة قيام الوصف الوجودي بالترك العدمي، لكون الضدين وجوديين.

هذا كله لو بني على أن الاختلاف بين الأمر والنهي اختلاف في السنخ والطبيعة، وأما لو قيل بإمكان كون الاختلاف بينهما في اللفظ والصياغة ـ ولو في الجملة ـ فالأمر أوضح، إذ عليه يكون للمولى أن يصوغ طلبه في قالب الأمر أو النهي بلا فرق بينهما..

وذلك لتحقق الغرض في كلتا الصورتين.. ونظير ذلك يجري في الوجوب النفسي والغيري، إذ يكون للمولى تحديد مركز حق الطاعة في الشيء سواء كانت المصلحة قائمة به أو قائمة بما يؤدي إليه.

كون التكليفين إلزاميين

(الثاني) كون التكليفين إلزاميين.

وفيه نظر: لجريان (الترتب) أيضاً في غير هذه الصورة.

وتقريبه: أن الواجب والمستحب ـ وكذا الحرام والمكروه ـ وإن كانا حقيقتين متباينتين بلحاظ مرتبة (الحكم)، فإنهما أمران انتزاعيان، والتفاوت التشكيكي لا مجرى له في الأمور الانتزاعية، لا عقلاً، ولا عرفاً، لكنهما بلحاظ المبادئ حقيقة واحدة ذات مراتب، تختلف من حيث الغنى والفقر والشدة والضعف، كالمرتبة الضعيفة والشديدة من السواد مثلاً، فتكون مبادئ الحكم غير الإلزامي مسانخة لمبادئ الحكم الإلزامي وإن اختلفت في الشدة والضعف.

ومن الواضح أن البحث في إمكان الترتب وامتناعه ليس بلحاظ مرحلة (الحكم) ليقال باختلاف الحقيقتين، لما قد سبق من عدم التضاد بين الأحكام لا بالذات ولا بالتبع، وإنما هو بلحاظ مرحلة (المبادئ) التي قد عرفت أنها متماثلة في الأحكام الإلزامية وغير الإلزامية.

ثم لو فرض ان المبادئ حقائق متباينة بتمام الذات لم يضر في المقام، وذلك لتوقف الحكم غير الإلزامي ـ كالإلزامي ـ على الملاك والإرادة ونحوهما من المبادئ ـ وإن فرض تحقق الاختلاف فيما بينها ـ فيجري بلحاظها بحث الإمكان والامتناع.

هذا، ولكن في المسألة احتمالان آخران:

أحدهما: الجواز مطلقاً، وذلك لأن مجرد اشتراك غير الإلزامي مع الإلزامي في وجود المبادئ لا يكفي، بعد وجود الاختلاف السنخي بينهما فيها، إذ الإرادة في الإلزامي من الأحكام قوية إلى حد لا يرضى المولى فيه بالترك، ومع بلوغ الإرادة إلى هذه الدرجة من الشدة لا يبقى هناك مجال لإرادة شيء آخر ـ بناءً على الامتناع ـ أما الإرادة في غير الإلزامي فليست بتلك المثابة، فيمكن وجود إرادة أخرى متعلقة بشيء آخر في عرضها، فيكون وزان الإرادة الإلزامية ـ من بعض الوجوه ـ وزان العلم الذي لا يدع مجالاً للاحتمال المعاكس، ووزان الإرادة غير الإلزامية وزان الظن الذي يكون معه للاحتمال المعاكس مجال، وعليه:

فيصح الأمر بالمهم في عرض الأمر بالأهم ولو على مبنى الامتناع.

وعليه: فتختص أدلة الامتناع بالإلزاميين.

ثانيهما: التفصيل بين ما كان الأهم إلزامياً والمهم غير إلزامي وبين ما كانا غير إلزاميين فيجري بحث الترتب بلحاظ الأول، فالقائل بالإمكان يرى الجواز، لما سيأتي، والقائل بالامتناع يرى عدمه لأن إرادة الإلزامي لا تدع مجالاً لإرادة غيره بل المنع هنا أولى، إذ لو كانت إرادة الأهم لا تدع مجالاً للمهم الإلزامي فكيف تدع مجالاً للمهم غير الإلزامي؟

وهذا بخلاف ما لو كانا غير إلزاميين إذ لا ينبغي أن يختلف في جواز الأمر بهما، على نحو الترتب لعدم وصول الإرادة في الأهم إلى حد المنع من النقيض ولعدم جريان المحاذير المتصورة في الترتب فيه، وسيأتي بعض ما يناسب المقام في الشرط السابع إن شاء الله تعالى.

كون المهم عبادياً

(الثالث): كون المتعلقين عباديين، أو كون المهم عبادياً.

ولعل اشتراط ذلك من أجل أن تكون المسألة ذات أثر عملي، إذ على الإمكان تترتب صحة العبادة المأمور بها على نحو الأمر الترتبي، وعلى الامتناع الفساد ـ لو لم تصحح بالملاك ـ أما في غير العباديات: فلا أثر لوجود الأمر وعدمه، لكونها توصلية يترتب عليها أثرها ولو مع عدم وجود الأمر.

وهذا الشرط محل تأمل، إذ المأخوذ في تعريف المسألة الأصولية يشمل ما يعرف به نفس وجود الأمر وعدمه، ولو لم تترتب عليه ثمرة عملية أصلاً.

قال صاحب الكفاية (قده): (الأصول صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام أو التي ينتهي إليها في مقام العمل).

وقال المحقق الأصفهاني (قده) في (الأصول على النهج الحديث): (علم الأصول فن يعرف به ما يفيد في إقامة الحجة على حكم العمل).

وقال في (النهاية): (علم الأصول ما يبحث فيه عن القواعد الممهدة لتحصيل الحجة على الحكم الشرعي).

وقال المحقق النائيني (قده): (علم الأصول عبارة عن العلم بالكبريات التي لو انضمت إليها صغرياتها يستنتج منها حكم فرعي كلي).

وقال المحقق العراقي (قده): (إنه القواعد الخاصة الواقعة في طريق استكشاف الوظائف الكلية العملية شرعية كانت أم عقلية).

وعن الشيخ الأعظم (قده): (تعريف المسألة الأصولية بما يكون أمر تطبيقه مخصوصاً بالمجتهد ولا يشترك فيه المقلد).

وعن الحائري (قده): (إنه العلم بالقواعد الممهدة لكشف حال الأحكام الواقعية المتعلقة بأفعال المكلفين سواء وقعت في طريق العلم بها أو كانت موجبة للعلم بتنجزها على تقدير الثبوت، أو كانت موجبة للعلم بسقوط العقاب).

وعرفه السيد الوالد (دام ظله) في (الأصول): بـ (أنه العلم بكيفية الاستنباط مما يستنبط منه العلم).

وفي (المحاضرات): (إنه العلم بالقواعد التي تقع بنفسها في طريق استنباط الأحكام الشرعية الكلية الإلهية من دون حاجة إلى ضميمة كبرى أو صغرى أصولية أخرى إليها).

وفي (التهذيب): (إنه هو القواعد الآلية التي يمكن أن تقع في كبرى استنتاج الأحكام الكلية الفرعية الإلهية أو الوظيفة العملية).

إلى غيرها من العبارات التي تشعر بعدم اشتراط وجود ثمرة عملية للمسألة الأصولية.

ومن هنا أدرج المحقق النائيني (قده) مبحث المقدمة ضمن المبحث الأصولي مع اعترافه بعدم وجود ثمرة عملية لها حيث قال (قده): (إنه لا يترتب على البحث في وجود المقدمة ثمرة عملية أصلاً، بل كان البحث علمياً صرفاً).

وقال السيد الوالد (دام ظله) في مبحث المقدمة: (إن ثمرة هذا البحث هو الوجوب وعدمه بالنسبة إلى مقدمات الواجب، لما تقدم من أنها ـ أي المسائل الأصولية ـ تجعل كبرى لصغريات وجدانية).

نعم: يمكن أن يقال: بأن العلم تابع للغرض، ولا فائدة في ما لا تترتب عليه ثمرة عملية أصلاً، فيكون كالبحث في زمان انكشاف تمام الأحكام عن جريان البراءة في الشبهات الحكمية.

اللهم إلا أن يقال: إن نفس العلم بالحكم فائدة، وقد تعارف لدى الفقهاء العظام (قدس الله أسرارهم) تدوين الأحكام الشرعية ولو لم تكن محل الابتلاء فعلاً لئلا تندرس الأحكام، فتأمل.

ثم إنه لو فرض اشتراط وجود ثمرة عملية للمسألة الأصولية لم يقدح فيما ذكر، إذ يترتب على وجوب المهم غير التعبدي وعدمه ـ المستنبط من نتيجة البحث في هذه المسألة وهي إمكان الأمر الترتبي وامتناعه ـ أمور تتعلق بالجري العملي:

منها: برّ النذر بإتيانه، لو نذر أن يأتي بواجب، مع قصده مطلق ما يكون واجباً شرعاً حقيقة، فلا يرد كون النذر تابعاً للقصد أو الارتكاز.

ومثله: ما لو نذر التصدّق على من أنى بواجب، فتصدق عليه.

ومنها: حرمة أخذ الأجرة عليه، على تفصيل مقرر في المكاسب المحرمة.

ومنها: جواز الإسناد إلى الشارع.

ومنها: جواز الاستناد والإتيان به بداعي الأمر، وعدم استلزام ذلك التشريع.

ومنها: حصول الفسق بترك الأهم والمهم معاً، مع كونهما من الصغائر، بناءً على تحقق الإصرار بذلك.

وهذه وإن لم تكن ثمرات للمسألة الأصولية ـ لما قرر في محله ـ إلا أنها مصححة للثمرة لو فرض اشتراط وجود نتيجة عملية للمسألة الأصولية، فكما أن صحة الضد العبادي وفساده مترتبة على وجود الأمر بالمهم وعدمه المترتب على إمكان الترتب وامتناعه كذلك الآثار المذكورة مترتبة على وجود الأمر بالمهم وعدمه المترتب على إمكان الترتب وامتناعه وكما أن تلك النتيجة مصححة للثمرة كذلك هذه الآثار مصححة لها، فتأمل.

ثم إنه قد يجعل من الثمرة: فساد الضد العبادي للمهم ـ ولو كان توصلياً ـ بناءً على اقتضاء الأمر بالشيء: النهي عن ضده الخاص واقتضاء النهي عن العبادة للفساد. فلو قيل بوجوب المهم واقتضاء الأمر النهي عن الضد واقتضاء النهي الفساد أنتج ذلك فساد الضد، وإلا فلا.

أن لا يكون المهم مشروطاً بالقدرة الشرعية

(الرابع): أن لا يكون المهم مشروطاً بالقدرة الشرعية.

قال المحقق النائيني (قده):

(إن الخطاب المترتب على عصيان خطاب الأهم يتوقف على كون متعلقه حال المزاحمة واجداً للملاك، والكاشف عن ذلك هو إطلاق المتعلق، فإذا كان المتعلق مقيداً بالقدوة شرعاً ـ سواء كان التقييد مستفاداً من القرينة المتصلة أو المنفصلة ـ لم يبق للخطاب بالمهم محل أصلاً.

ومنه يظهر أنه لا يمكن تصحيح الأمر بالوضوء في موارد الأمر بالتيمم بالملاك أو بالخطاب الترتبي، فإن الأمر بالوضوء مقيد شرعاً بحال التمكن من استعمال الماء بقرينة تقييد وجوب التيمم بحال عدمه ففي حال عدم التمكن لا ملاك للوضوء كي يمكن القول بصحته، ولأجل ذلك لم يذهب العلامة المحقق الشيخ الأنصاري ولا العلامة المحقق تلميذه أستاذ أساتيذنا (قدهما) إلى الصحة في الفرض المزبور، مع أن الأول منهما يرى كفاية الملاك في صحة العبادة، والثاني يرى جواز الخطاب الترتبي).

وما ذكره (قده) وإن كان متيناً بلحاظ الكبرى، إذ اشتراط الشيء بالقدرة الشرعية معناه تقييد الملاك بحال أو وقت خاصين، كما صرح به (قده) حيث قال في بحث المقدمات المفوّتة: (إن القدرة قد تكون شرطاً عقلياً للتكليف وغير دخيلة في ملاك الفعل أصلاً فيكون اعتبارها في فعلية التكليف من جهة حكم العقل بقبح خطاب العاجز، وقد تكون شرطاً شرعياً ودخيلة في ملاكه..) فانتفاء القيد ـ في هذه الصورة ـ مساوق لانتفاء الملاك المستلزم لانتفاء الأمر، إذ الأمر معلول له، وكما يستحيل وجود الأمر بلا ملاك ابتداءً كذلك يستحيل بقاؤه بعد ارتفاعه لارتهان وجود المعلول بوجود علته في الحدوث والبقاء، تبعاً للااقتضاء والليسية الذاتية الكامنة في وجود المعلول.. إلا أنه ينبغي البحث في الصغرى وإن صرف تقييد الأمر الشرعي بقيد هل يكشف عن كون القدرة الشرعية مأخوذة فيه أم لا؟

يمكن أن يقال:

إن القيد على ثلاثة أقسام:

الأول: أن لا يكون مأخوذاً في أصل الحكم ولا في الملاك[3] والمراد بهذا التعبير أن تكون في الدليل عناية خاصة تدل على أنه بعد ارتفاع الحصة المعينة من الطلب ـ كالطلب اللزومي ـ لا يرتفع طبيعي الطلب بل يظل ضمن حصة أخرى ـ كالطلب غير اللزومي ـ.

الثاني: أن يكون مأخوذاً في الحكم لا في الملاك.

الثالث: أن يكون مأخوذاً في الحكم والملاك معاً.

وأما أخذ القيد في الملاك دون الحكم ـ أي عكس الصورة الثانية ـ فهو غير معقول لاستلزامه وجود الحكم بلا ملاك، المساوق لوجود المعلول بدون وجود علته.

أما (القسم الأول) فهو كالقيد المسوق في مقام الامتنان ونحوه فانتفاؤه لا يكشف عن انتفاء الملاك، بل ولا طبيعي الطلب، إذ الامتنان ظاهر في رفع الإلزام فقط.

وقد يمثل له بالوضوء في مورد الأضرار المسوغة للتيمم شرعاً مع عدم وصولها إلى حد الحرمة، وهكذا في موارد الحرج ونحوه.

قال السيد الوالد (دام ظله) في الفقه:

(إن ظاهر أدلة نفي الحرج والضرر أنها رافعة للإلزام لا لأصل الحكم، وهذا الظاهر إنما استفيد من كونها في بيان الامتنان، والامتنان يقتضي أن لا يكون حرج في كل من الفعل والترك، إذ لو كان الترك إلزاماً كان حرجاً في الترك، فهي كما إذا قال المولى: لا أشق عليك، حيث يفهم منه جواز تكلف العبد المشقة، لا حرمتها، ولذا إذا قبل طرف المعاملة الضرر صحت المعاملة ولم يكن له حق الفسخ مع أنه مشمول للأضرار، حسب النظر البدائي، وسره أن لا ضرر في مقام الامتنان لا في مقام العزيمة...).

وعلى كلٍّ، فهذا القسم خارج ـ موضوعاً ـ عن الترتب.

وأما (القسم الثاني) فهو كالقيد المأخوذ في الشيء من باب حصول التزاحم بين الشيئين وترجيح أحدهما على الآخر ـ كما في صورة الأمر بالإنفاق على الوالدين إن فضلت النفقة عن الزوجة فإن الإنفاق عليهما ذو ملاك إلا أنه مزاحم بالملاك الأهم ـ ولا إشكال هنا في ثبوت الملاك في المهم، وعليه يمكن تصحيح العمل العبادي بناءً على كفاية الملاك في صحة العبادة كما ذهب إليه الشيخ الأعظم (قده) خلافاً لصاحب الجواهر (قده) حيث ذهب إلى توقف الصحة على الأمر وعدم كفاية الملاك على ما هو المحكي عنهما. وأما الأمر فلا إشكال في أخذ القيد في إطلاقه، إذ لا يشمل صورة الطاعة قطعاً، وأما أخذه فيه مطلقاً فمبني على إمكان الترتب وعدمه، فعلى الأول يثبت الأمر في الفاقد للقيد معلقاً على العصيان ونحوه، وعلى الثاني: لا أمر مطلقاً.

وأما (القسم الثالث) وهو ما كان القيد مأخوذاً في الحكم وملاكه معاً فينبغي أن ينظر في أن التقييد مطلق شامل لصورتي طاعة الأهم وعصيانه، أو مقيد بصورة طاعته فقط، بحيث ينتفي التقييد عند العصيان، ويتم عنده فيه الملاك والحكم أو الملاك وحده فإن من الممكن عقلاً أن يكون الفعل فاقداً للملاك في حال الطاعة للأهم، وواجداً له في صورة العصيان، كما لو فرض كون الأمر به حينئذ واجداً لملاك التأديب مثلاً ـ فإن كان التقييد مطلقاً فلا إشكال في انتفاء الأمر والملاك في حالة انتفاء القيد.

وأما لو كان التقييد مقيداً بحيث يكون عدم الأمر أو عدم الملاك مقيداً بعدم العصيان بحيث يرتفع التقييد عنده، فلا يصح هنا نفي الأمر ـ في الأول ـ، ونفي الملاك ـ في الثاني ـ فتأمل.

هذا كله بلحاظ عالم الثبوت.

وأما بلحاظ عالم الإثبات:

فظاهر القيد ـ إن لم تكن هناك قرينة خارجية ككونه في مقام الامتنان ونحوه ـ هو تقييد الحكم مطلقاً ـ أي بلا فرق بين صورة طاعة الأمر بالأهم وعصيانه ـ ولكن تقييد الأمر لا يستلزم تقييد الملاك، لإمكان ارتفاع الأمر مع بقاء الملاك ـ لمزاحم أهم مثلاً ـ فإن الأمر وإن كان كاشفاً ـ إنّاً ـ عن ثبوت الملاك، إلا أن انتفاءه غير مستلزم لانتفائه إذ ليس الكلام في العلة التامة فهو نظير ما ذكره في استصحاب الحكم الشرعي المستكشف بالحكم العقلي.

إلا أن عدم استلزام الانتفاء للانتفاء لا يعني: ثبوت الملاك، بل يكون ـ بعد انتفاء الحكم ـ محتملاً للأمرين.

لكن، قد يستكشف بقاء الملاك بطرق:

منها: إطلاق الدلالة الالتزامية للأمر، إذ الأمر دال بالمطابقة على الحكم، وعلى الملاك بالالتزام، وارتفاع الحكم غير ملازم لارتفاع الملاك ـ المدلول عليه بالأمر ـ لعدم تبعية الدلالة الالتزامية المطابقية، واستقلال كل منهما في الحجية.

ويرد عليه: عدم تسليم المبنى، مع أن الأمر مسوق لبيان الحكم، لا لبيان الملاك، ومن الواضح: توقف ثبوت الإطلاق على تحقق مقدمات الحكمة، التي منها: كون المتكلم في مقام البيان من تلك الجهة، وهي مفقودة في المقام، فلا يكون ثمة إطلاق في دلالة الأمر على الملاك، كي يتمسك به في الاستدلال على ثبوته بعد ارتفاع القيد.

ومنها: استصحاب وجود الملاك بعد سقوط الأمر، وما اشترط في جريانه من ترتب الأثر الشرعي على المستصحب حاصل فإن بقاء الملاك مؤثر في صحة العبادة ونحوها ـ بناءً على كفاية وجود الملاك في أمثال ذلك ـ لكن هذا الطريق لا يخلو من تأمل.. وتفصيل الكلام في مباحث الاستصحاب.

ومنها: حكم العقل، كما في إنقاذ غريقين أحرزت أهمية أحدهما على الآخر.

ومنها: دلالة دليل خاص على ذلك ولعل منه قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك)[4].

ومنها: غير ذلك..

أن يكون التضاد بين المتعلقين اتفاقياً

(الخامس): أن يكون التضاد بين المتعلقين اتفاقياً. وذلك لأن التضاد بين المتعلقين إنما يوجب التزاحم بين الخطابين فيما إذا كان حاصلاً من باب الاتفاق وأما إذا كان دائمياً كان دليل وجوب كل منهما معارضاً لدليل وجوب الآخر، لأن التصادم حينئذ إنما يكون في مقام الجعل والإنشاء لا في مقام الطاعة والامتثال ضرورة أنه لا معنى لجعل حكمين لفعلين متضادين دائماً، فيخرج الدليلان بذلك عن موضوع الترتب لا محالة.

هذا ما أفاده المحقق النائيني (قده) وفرع عليه بطلان ما ذهب إليه كاشف الغطاء (قده) من أن صحة الجهر في موضع الإخفات جهلاً وبالعكس إنما هي من باب الخطاب الترتبي، وبه دفع الإشكال المعروف وهو ان صحة العبادة المأتي بها جهراً أو إخفاتاً كيف تجتمع مع استحقاق العقاب على ترك الآخر؟

ووجه البطلان: أن التضاد بين الجهر والإخفات دائمي وليس اتفاقياً فلا يجري فيه الخطاب الترتبي.

ويمكن المناقشة في هذا الشرط: ببيان مقتضى مرحلتي الثبوت والإثبات.

أما في مرحلة الثبوت: فكما يحتمل أن يكون الأمران بالضدين اللذين يكون التضاد بينهما دائمياً متعارضين بأن لا يكون الواجد للملاك إلا أحدهما، كذلك يحتمل أن يكونا متزاحمين، بأن يكونا واجدين للملاك معاً، ويكون التعاند بينهما في مقام الفعلية لا في مقام الجعل والتشريع.

ودوام التضاد لا يستلزم لغوية أحدهما، ما دام كل منهما واجداً للملاك، والأثر العملي وإلا لزم ذلك في موارد التضاد الاتفاقي، إذ لا فرق في قبح القبيح واستحالة المستحيل بين وجودهما دائماً ووجودهما اتفاقاً.

وما يذكر من الوجوه لإثبات إمكان الترتب في التضاد الاتفاقي ـ وهو ما أمكن الجري العملي وفق أحدهما دون مخالفة الآخر، في الجملة، كما لو كان بين عنواني المتعلقين عموم من وجه ـ ينهض ـ بعينه ـ لإثبات الإمكان في التضاد الدائمي ـ وهو ما لم يمكن الجري العملي وفق أحدهما دون مخالفة الآخر ـ.

ولذا لا يمتنع عقلاً أن يأمر المولى بتلوين الجدار ـ مثلاً ـ بأحد اللونين، معلقاً وجوب كل منهما على ترك الآخر، على نحو الوجوب التخييري، في صورة تساويهما في الملاك، ومعلقاً وجوب أحدهما على ترك الآخر، على نحو الوجوب الترتبي، في صورة أهمية أحدهما من الآخر، وكذا في الأمر بالذهاب إلى المدرسة أو المتجر، تخييراً أو ترتباً.

هذا في الضدين اللذين لهما ثالث ـ وأما في الضدين اللذين لا ثالث لهما، كالحركة والسكون، بناءً على بعض المباني فيهما، فالمحذور فيه إنما هو من جهة أخرى، وليس من جهة كون التضاد بينهما دائمياً، وإلا لعمّ، لأن العلة معممة، كما هي مخصصة.

وأما في مرحلة الإثبات: فقد يقال بأن التعارض ليس بين أصل وجود الدليلين بل هو بين إطلاق كل منهما مع نفس الآخر فلا موجب لرفع اليد عن أحدهما بل إما أن يقيد الإطلاق فيهما معاً، فيكون الوجوب تخييرياً أو يقيد إطلاق أحدهما ـ وهو المهم ـ ويعلق وجوبه على عصيان الآخر ـ وهو الأهم ـ فيكون الوجوب ترتبياً.

والأول إنما يكون في صورة إحراز عدم أهمية أحدهما على الآخر، أو عدم إحراز الأهمية ـ وفي كون الظن والاحتمال إحرازاً كلام مذكور في محله ـ والثاني إنما يكون في صورة إحراز الأهمية وذلك كله حسب ما تقتضيه قواعد الجمع بين الدليلين، فإن الضرورات تقدر بقدرها، ولا ضرورة تقتضي إلغاء أحد الدليلين بالمرة، فإما يلغى إطلاق أحدهما ـ لو أحرزت أهمية الآخر ـ أو يلغى إطلاق كل منهما ـ لو لم يكن كذلك ـ.

والأول: لقبح تفويت الأهم، أو ترجيح المرجوح على الراجح.

والثاني: لقبح ترجيح أحد المتساويين على الآخر من غير مرجح، بل استحالته لرجوعه إلى الترجّح بلا مرجح، وهو مساوق لوجود المعاول بدون وجود علّته على ما قرر في محله.

نعم يمكن أن يقال:

بأن الجمع بين الدليلين يجب أن يكون عرفياً، بحيث يكون أحد الدليلين ـ أو كلاهما ـ قرينة عرفية لتفسير الآخر وكشف المراد منه، فلا يشمل دليل الحجية الظهور الآخر، ولا يسري التعارض ـ لذلك ـ إلى دليل الحجية.

وهذا الشرط مفقود في المقام، إذ العرف يرى التعارض المستقر بين الدليلين الدالين على وجوب ما كان التعارض بينهما دائمياً ـ ولو كان لهما ثالث ـ بحيث يسري التعارض إلى دليل الحجية فيكون المرجع في ذلك هو ترجيح أحدهما بالمرجحات المنصوصة أو مطلق المرجحيات أو التخيير على الخلاف المذكور في مسألة التعادل والتراجيح ـ وهذا بخلاف ما كان التعارض فيه اتفاقياً. إذ الجمع فيه على نحو الوجوب التخييري أو الترتبي عرفي، فتأمل!

ولعل ما اشترطه المحقق النائيني (قده) ناظر إلى ذلك، لكن ينافيه قوله: (ضرورة أنه لا معنى لجعل حكمين لفعلين متضادين دائماً)، إلا أن يريد به عدم الظهور العرفي في عالم الإثبات، لا عدم الإمكان العقلي في عالم الثبوت، فتأمل.

هذا كله في صورة عدم التنصيص على التعليق، وأما لو علق وجوب أحدهما على عصيان الآخر كما لو أمره باستئجار الدار معلقاً الوجوب على عصيان الأمر بشرائها فلا يكون ثمة تعارض بين الدليلين في نظر العرف كما لا يخفى.

أن لا يكون المهم ضروري الوجود عند العصيان

(السادس): أن لا يكون المهم ضروري الوجود عند عصيان الأمر بالأهم، فلا يجري الترتب في الضدين اللذين لا ثالث لهما.

قال المحقق النائيني (قده): في رده الثاني على كاشف الغطاء (قده) الذي صحح الجهر في موضع الإخفات وبالعكس بالخطاب الترتبي:

(إن مورد الخطاب الترتبي هو ما إذا كان خطاب المهم مترتباً على عصيان الأمر بالأهم، وهذا لا يكون إلا فيما إذا لم يكن المهم ضروري الوجود عند عصيان الأمر بالأهم، كما هو الحال في الضدين اللذين لهما ثالث، وأما الضدان اللذان لا ثالث لهما ففرض عصيان الأمر بأحدهما هو فرض وجود الآخر، فيكون البعث نحوه طلباً للحاصل. وبالجملة: لو كان وجود الشيء على تقدير وجود موضوع الخطاب وشرطه ضرورياً لامتنع طلبه، لأنه قبل وجود موضوعه يستحيل كونه فعلياً وبعد وجوده يكون طلباً للحاصل، فتحصل: أن كل ما فرض وجوده في الخارج يستحيل طلبه في ظرف فرض وجوده سواء كان فرض وجوده مدلولاً مطابقياً للكلام كما إذا أمر بترك الشيء على تقدير عصيان الأمر المتعلق به أم كان مدلولاً التزامياً له كما في ما نحن فيه، فإن ترك أحد الضدين خارجاً ملازم لوجود الآخر لفرض عدم الثالث فيكون الأمر بأحدهما على تقدير ترك الآخر أمراً بما هو مفروض الوجود وهو مستحيل).

أقول: ينبغي هنا ذكر أمور:

(أحدها): إن البرهان المذكور ـ كما ترى ـ إنما يجري فيما لو أخذ نفس العصيان شرطاً للأمر بالمهم، وأما لو أخذ العزم على العصيان ـ أو عدم العزم على الامتثال ـ شرطاً فلا، إذ لا يلزم منهما حصول الشيء فعلاً حتى يكون الأمر به طلباً للحاصل.

نعم: قد يفرض فيه محذور آخر وهو لزوم اللغوية.. إذ العزم على عصيان الأهم إما أن لا يكون موصلاً إلى فعل المهم، أو يكون موصلاً إليه.

فعلى الأول: يكون المكلف ـ لا محالة ـ مشتغلاً بالأهم في ظرفه ـ لفرض عدم الثالث ـ فيكون الأمر بالمهم ـ حينئذ ـ أمراً بالمرجوح في ظرف تلبس المكلف بالراجح، وهو قبيح.

وعلى الثاني: يكون الأمر به لغواً، إذ لا يكون للأمر أي تأثير في حصول المهم، وما لا يترتب عليه أثر لا مبرر لوجوده.

(ثانيها): في الضدين اللذين لا ثالث لهما قد يلحظ قيد الدوام في المتعلق، فيخرجان بذلك ـ بلحاظ الزمان الممتد، وإن لم يخرجا بلحاظ كل آن من آنات الزمان ـ عن الضدين اللذين لا ثالث لهما، لوجود الثالث وهو التبعيض، ومن الممكن ترتب محاذير على التبعيض الواقع في عمود الزمان بين الضدين اللذين لا ثالث لهما، فيأمر المولى بالأهم منهما مطلقاً على سبيل الدوام، وبالمهم منهما معلقاً على عصيان الأمر بالأهم على ذلك النحو، في قبال الثالث الذي هو التبعيض وهذا لا مانع من جريان الترتب فيه.

(ثالثها): قد يكون هنالك ضدان لهما ثالث (أي حالة ثالثة)، لكن لحاظ موضوع خاص يجعلهما بالإضافة إليه من قبيل الضدين اللذين لا ثالث لهما، فالجهر والإخفات مثلاً بلحاظ ذاتهما ضدان لهما ثالث وهو السكوت مثلاً.. لكن بلحاظ حال القراءة لا ثالث لهما ـ في الآن الواحد من الزمان ـ وحينئذ يكون إمكان الترتب واستحالته منوطين بما يؤخذ في الدليل، فإن أخذ المتعلق بلا لحاظ الموضوع الخاص لم يكن بالأمر الترتبي بأس بأن يقول: (تجب عليك القراءة الجهرية، فإن عصيت فتجب عليك القراءة الإخفاتية) في قبال الثالث وهو الترك المطلق، وإن أخذ موضوع خاص في الدليل كان الأمر الترتبي محالاً كأن يقول: (القارئ إن لم يجهر بالقراءة فيجب عليه الإخفات) إذ يكون ذلك الأمر طلباً للحاصل وهكذا الأمر بالنسبة إلى القصر والإتمام في الصلاة.

ومنه يعلم: أن النزاع في مثل ذلك تابع لكيفية الاستظهار من الدليل.

(رابعها): إنه قد يظهر مما سبق عدم انحصار المحذور للمذكور في الضدين اللذين لا ثالث لهما، بل يجري أيضاً في الأمر بمجموع الأضداد الوجودية على سبيل الترتب، إذ يكون أحد هذه الخطابات لغواً، وإن أمكن كون الباقي مأموراً بها على سبيل الترتب وكذا في الأمر بالنقيضين، أو العدم والملكة، على نحو الترتب كما سبقت الإشارة إليه.

وأما الأمر بإيجاد (المتضايفين) على نحو الترتب فقد سبقت الإشارة ـ في الشرط الأول من شرائط تحقق الموضوع ـ إلى أنه يستلزم التهافت في الدليل، فراجع.

(خامسها): إنه تظهر نتيجة هذا الشرط في أنه لو ورد خطابان يثبتان الوجوب للضدين اللذين لا ثالث لهما ـ ونحوهما ـ فإنه لا يمكن إدراجهما في باب التزاحم وتصحيحهما بالخطاب الترتبي وذلك لحصول التنافي بين الدليلين في مرحلة الجعل، لا في مرحلة الطاعة، فيكونان متعارضين، وتجري عليهما قوانين باب التعارض.

ثم لا يخفى أن الشرط السابق أعم ـ مورداً ـ من هذا الشرط، لتحقق التضاد الدائمي في المقام أيضاً.

نعم: في المقام يلزم محذوران في الأمر الترتبي وهما (عدم إمكان الجمع العرفي بين الدليلي) و (لزوم طلب الحاصل) بخلاف المقام السابق، فلاحظ.

تنجز خطاب الأهم على المكلف

(السابع): أن يكون الخطاب بالأهم منجزاً على المكلف فلو لم يتنجز الخطاب بالأهم ـ كما في الموارد التي تجري فيها البراءة عن التكليف المجهول ـ لم يعقل الأمر بالمهم على نحو الترتب، لانتفاء موضوعه، وهو عصيان الأمر بالأهم بمقتضى جريان البراءة عنه، ومن المعلوم أن ثبوت المحمول فرع ثبوت الموضوع وإذ ليس فليس.

هذا هو المستفاد من كلام المحقق النائيني (قده) وأورد عليه في (المحاضرات): (بأن الالتزام بلزوم تقييد فعلية الخطاب المترتب بعنوان عصيان الخطاب المترتب عليه بلا ملزم، بل لابد من الالتزام بالتقييد بغيره، فهنا دعويان، أما الدعوى الأولى فلأن الترتب كما يمكن تصحيحه بتقييد الأمر بالمهم بعصيان الأمر بالأهم كذلك يمكن تقييده بعدم الإتيان بمتعلقه فإن مناط إمكان الترتب هو عدم لزوم طلب الجمع بين الضدين من اجتماع الأمرين في زمان واحد، ومن الواضح أنه لا يفرق في ذلك بين أن يكون الأمر بالمهم مشروطاً بعصيان الأمر بالأهم أو بترك متعلقه في الخارج.

وأما الدعوى الثانية: فلأن الملاك الرئيسي لإمكان الترتب هو أن فعل الواجب المهم في ظرف عدم الإتيان بالواجب الأهم وتركه في الخارج مقدوره للمكلف عقلاً وشرعاً، فلا يكون تعلق الأمر به على هذا التقدير قبيحاً، إذ ليس بغير المقدور، فيكون شرط تعلق الأمر بالمهم هو عدم الإتيان بالأهم خارجاً، لا عصيانه، ضرورة أن إمكان الترتب ينبثق من هذا الاشتراط سواءً أكان ترك الأهم معصية أم لم يكن، وسواء علم المكلف بانطباق عنوان العصيان عليه أم لم يعلم، فإن كل ذلك لا دخل له في إمكان الأمر بالمهم مع فعلية الأمر بالأهم أصلاً، ولذا لو فرضنا في مورد لم يكن ترك الأهم معصية لعدم كون الأمر وجوبياً لم يكن مانع من الالتزام بالترتب فيه).

أقول: (الترتب) قد يطلق ويراد به (مطلق التعليق) ـ وإن لم يلزم منه محذور ـ وقد يطلق ويراد به نوع خاص من التعليق، وهو الذي وقع ـ من حيث الإمكان والاستحالة ـ محلاً للخلاف بين الأعلام.

والمعنى الأول أعم من الثاني، لإمكان تعليق حكم على ترك امتثال حكم آخر دون وقوع الخلاف فيه، لإطباق الكل على الجواز.

فإن أريد في المقام (الترتب) بالمعنى الأولى أمكن أن يقال: بجواز تعليق الأمر بالمهم على مجرد ترك الأمر بالأهم بأن يكلف المولى عبيده بالأهم مطلقاً، وبالمهم في صورة عدم وصول التكليف بالأهم إليهم ـ مثلاً ـ ولعله لا يمانع في وقوع هذا الفرض حتى القائل باستحالة الترتب إذ التنافي بين الحكمين المتعلقين بأمرين متضادين إنما يتحقق ـ عنده ـ في صورة نشوئهما عن داعيين متماثلين، أما لو كان كل واحد منهما بداع غير الآخر فلا تنافي بينهما على ما سيأتي إن شاء الله تعالى في أدلة القول بالإمكان.

والأمر في المقام كذلك، إذ الأمر بالمهم إنما سيق بداعي إيجاد الداعي للمكلف نحو المطلوب، وأما الأمر بالأهم فقد سيق بدواع أخر.

أما الدعوى الأولى فواضحة، وسيأتي بعض الكلام فيها.

وأما الدعوى الثانية: فلأن صدور الأهم بداعي الانبعاث عن الأمر المولوي عمن لم يتنجز عليه التكليف ـ لجهل أو نسيان ونحوهما ـ محال لفرض الجهل بوجود الأمر ونحوه، فيمتنع تعلق التكليف به بداعي جعل الداعي، إذ ما يعلم عدم ترتبه على الشيء لا يمكن أن يكون غرضاً منه. مضافاً إلى أنه كثيراً ما يمتنع صدور نفس الأهم ولو بدواع أخر من المكلف، خاصة إذا كان من الأمور التعبدية لعدم حصول مبادئ الاختيار ـ من التصور والتصديق بالفائدة ونحوهما ـ في نفس المكلف ـ فيستحيل صدوره عنه على نحو الاختيار، لاستحالة وجود المعلول بدون وجود علته، وما يمتنع صدوره عن المكلف يمتنع تعلق التكليف به بداعي جعل الداعي.

وهذا بخلاف ما لو تنجز التكليف بالأهم ـ كالمهم ـ على المكلف، إذ يمكن منع الأمر الترتبي بالمهم في هذه الصورة، لاستحالة اجتماع حكمين بعثيين على المكلف ـ عند القائل بامتناع الترتب ـ ومنه ينقدح عدم جريان بحث (الترتب) بالمعنى الثاني في المقام، لإطباق الكل على الجواز.

وعلى هذا يمكن أن يقال بكون الخلاف لفظياً في المقام، فالقائل بالجريان نظر إلى أنه لا مانع من تعليق الأمر بالمهم على مجرد ترك الأهم.

والقائل بعدمه نظر إلى أن هذا النوع من التعليق خارج عن محل الخلاف.

ويؤيده كلام المحقق النائيني (قده) حيث علل خروج الفرض عن مسألة الترتب بعدم التزاحم بين الحكمين، فتأمل.

وصول التكليف بنفسه

(الثامن): وصول التكليف بالأهم بنفسه إلى المكلف، إذ لو لم يصل بنفسه لم يتحقق العصيان بالنسبة إليه، ولو فرض وصوله إليه بطريقه، ومع عدم تحقق العصيان ينتفي موضوع الأمر بالمهم، فلا يعقل الأمر به على نحو الترتب.

ويرد عليه:

أولاً: أنه لا فرق في تحقق عصيان التكليف الواقعي بين وصوله بنفسه أو بطريقه، كما في موارد الشبهات الحكمية قبل الفحص والشبهات الموضوعية المهمة التي أمر فيها بالفحص والاحتياط، إذ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

ثانياً: مع التسليم يمكن تعميم العصيان المأخوذ موضوعاً للأمر بالمهم لعصيان الأمر النفسي الواقعي وعصيان الأمر المقدمي الطريقي، والثاني متحقق في المقام، لعصيان المكلف أوامر التعلم والاحتياط ونحوهما. هذا ـ مضافاً إلى بعض ما مر في الشرط السابع.

عدم أخذ الجهل في موضوع الأمر الترتبي

(التاسع): عدم أخذ الجهل في موضوع الأمر الترتبي.

قال المحقق النائيني (قده) ـ في بيان عدم جريان الترتب في مسألة الجهر والإخفات ـ:

(المكلف بالإخفات في الواقع إذا جهر بالقراءة فإما أن يكون عالماً بوجوب الإخفات عليه أو لا. أما الأول فهو خارج عن محل الكلام، إذ المفروض فيه توقف صحة الجهر على الجهل بوجوب الإخفات، وأما الثاني فعصيان وجوب الإخفات وإن كان متحققاً في الواقع إلا أنه يستحيل جعله موضوعاً لوجوب الجهر في ظرف الجهل لاستحالة جعل حكم يمتنع إحرازه فيستحيل تصحيح عبادة الجاهل حينئذ بنحو الترتب).

إلى أن قال: (وبالجملة: إن لم يكن المكلف محرزاً للعصيان المترتب عليه خطاب آخر لم يتنجز عليه ذلك الخطاب لعدم إحراز موضوعه وشرطه. وإن كان محرزاً له فجعل الخطاب المترتب في مورده وإن كان صحيحاً إلا أنه خارج عن محل الكلام من جعل الخطاب مرتباً على العصيان الواقعي في ظرف جهل المكلف به. فتحصل أن كل خطاب يستحيل وصوله إلى المكلف يستحيل جعله من المولى الحكيم). إلى آخر كلامه (قده) حسبما ورد في (أجود التقريرات).

وعلله في (فوائد الأصول): (بأنه لا يصح التكليف إلا فيما إذا أمكن الانبعاث عنه، ولا يمكن الانبعاث عن التكليف إلا بعد الالتفات إلى ما هو موضوع التكليف والعنوان الذي رتب التكليف عليه. وفي المقام لا يعقل الالتفات إلى ما هو موضوع التكليف بالإخفات الذي هو كون الشخص عاصياً للتكليف الجهري) انتهى.

ويرد عليه:

أنه إنما يتم لو سيق الأمر بالمهم بداعي التحريك، وأما لو سيق بلحاظ آخر ـ كسقوط القضاء ونحوه لإتيانه بما هو مأمور به ـ فلا.

وبتقرير آخر: التحريك الذي أخذ في التكليف أعم من أن يكون تحريكاً نحو الشيء نفسه أو نحو آثاره، فلا موجب لاختصاصه بالأول.

هذا مضافاً إلى جريان بعض ما ذكر في الجواب عن استحالة أخذ النسيان في موضوع الحكم في المقام أيضاً، وقد فصل الكلام فيه في أواخر مباحث البراءة والاشتغال فراجع.

كون المتزاحمين عرضيين

(العاشر): كون المتزاحمين عرضيين ـ أي متعاصرين بلحاظ الزمان ـ فلا يجري الترتب في الواجبين الطوليين إذا فرض عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما من باب الاتفاق، كما لو فرض عدم قدرة المكلف على القيام في صلاتين كصلاة الظهر والعصر مثلاً.

ولهذه المسألة صورتان:

(الصورة الأولى): أن يكون الواجب الأهم متأخراً، والمهم متقدماً بلحاظ الزمان. وقد علل عدم جريان الترتب في هذه الصورة بأن الخطاب الترتبي إما أن يلاحظ بالنسبة إلى نفس الخطاب المتأخر وأخذ عصيانه شرطاً للأمر بالمتقدم، وإما أن يلاحظ بالنسبة إلى الخطاب المتولد منه، وهو وجوب حفظ القدرة له، فيكون عصيان هذا الخطاب شرطاً للأمر بصرف القدرة إلى المتقدم.

فإن كان الأول فيرد عليه ـ مضافاً إلى استلزامه للشرط المتأخر ـ: أن ذلك لا يجدي في رفع المزاحمة فإن المزاحم للمتقدم ليس نفس خطاب المتأخر، لعدم اجتماعهما في الزمان، بل المزاحم هو الخطاب المتولد منه، ومعلوم أن فرض عصيان المتأخر في زمانه لا يسقط خطاب وجوب حفظ القدرة، لعدم سقوط خطاب المتأخر بعد ما لم يتحقق عصيانه، ففرض عصيان المتأخر في موطنه لا يوجب سقوط خطاب (احفظ قدرتك)، فإذا لم يسقط فالمزاحمة بعد على حالها، وخطاب (احفظ قدرتك) موجب للتعجيز عن المتقدم، ولا يعقل الأمر بالمتقدم في مرتبة وجوب حفظ القدرة للمتأخر.

وإن كان الثاني فيرد عليه: أن عدم حفظ القدرة للمتأخر لا يكون إلا بفعل وجودي يوجب صرف القدرة إليه، وهو أما نفس المتقدم أو فعل آخر، فإن كان الأول يلزم طلب الحاصل. وإن كان الثاني يلزم تعلق الطلب بالممتنع. وإن كان المراد من عدم حفظ القدرة في المتأخر المعنى الجامع بين صرف القدرة إلى المتقدم أو فعل وجودي آخر مضاد لذلك يلزم كلا المحذورين.

أقول: البحث تارة يدور حول (شرط وجوب المهم) وأخرى في (ظرف وجوب الأهم) وثالثة في (وجوب حفظ القدرة) أما بالنسبة إلى البحث الأول فيرد على ما ذكره (قده):

أولاً: معقولية الشرط المتأخر على ما قرر في محله.

وثانياً: جواز استبدال (العزم على عصيان الأهم) أو (عدم العزم على الامتثال) بالعصيان فيكون الشرط مقارناً.

وثالثاً: إمكان أخذ (التعقب) بالعصيان شرطاً، فلا يكون متأخراً. ولا يرد عليه بأن الالتزام بكون عنوان التعقب شرطاً يدور مدار قيام الدليل عليه وهو مفقود في المقام لما ذكره بعض الأعلام من أن ملاك القول بالترتب في الواجبين الفعليين هو إمكان الأمر بكل منهما على نحو الترتب واشتراط أحدهما بعدم الإتيان بمتعلق الآخر بلا موجب لرفع اليد عن إطلاق دليله بالإضافة إلى هذا الحال. وإنما اللازم هو رفع اليد عن إطلاقه بمقدار يرتفع به محذور التزاحم أي إطلاقه بالإضافة إلى حال امتثال الواجب المتأخر في ظرفه، وبتقريب آخر: المفروض في المقام هو اشتمال الواجب المهم على الملاك الملزم في نفسه وأنه لا مانع من طلبه مشروطاً بتعقبه بالعصيان المتأخر فلا موجب لرفع المولى يده عن طلبه كذلك وتفويته الملاك الملزم، وعليه فلا حاجة إلى دليل بالخصوص على كون عنوان التعقب بالعصيان شرطاً لوجوب الواجب المتقدم أصلاً.

وأما بالنسبة إلى البحث الثاني فيرد عليه إمكان تعاصر الأمرين، وذلك بكون وجوب الأهم معلقاً، أو مشروطاً بالوقت المتأخر على نحو الشرط المتأخر، لكن هذا الإيراد مبنائي كما لا يخفى.

وأما بالنسبة إلى البحث الثالث فيرد عليه:

أولاً: إمكان أخذ (العزم) على عصيان خطاب حفظ القدرة شرطاً فلا يلزم طلب الحاصل أو الممتنع أو كلاهما معاً.

ثانياً: جواز اشتراط وجوب المهم بعصيان خطاب حفظ القدرة على نحو الشرط المتأخر أو كون وجوبه معلقاً فلا يرد المحذور المذكور.

ثالثاً: النقض بجميع الأوامر الترتبية التي تعلق وجوب المهم فيها بترك الأهم، كما في قوله: (إن تركت الإزالة فصلِّ) حيث لا يصح أن يقال: (إن تركت الإزالة واشتغلت بالصلاة فصلِّ) لاستلزامه طلب الحاصل ولا (إن تركتها واشتغلت بغيرها) لاستلزامه طلب الممتنع، ولا الأعم لاستلزامه كلا المحذورين.

فإن قيل: لا يصح القياس، لأن ترك الإزالة لا يلازم الصلاة، ولا فعلاً آخر مضاداً لها، بل كل فعل وجودي يفرض فإنما هو مقارن لترك الإزالة إذ الوجود لا يكون مصداقاً للعدم، فمع تركه للإزالة يمكنه أن لا يشتغل بفعل وجودي ـ فلا مانع من أمره بالصلاة حينئذ عند ترك الإزالة ولا يكون من طلب الحاصل أو الطلب للممتنع ولو فرض أنه اشتغل بفعل وجودي آخر، لأنه لم يقيد الأمر الصلاتي بصورة الاشتغال بالصلاة أو صورة الاشتغال بفعل وجودي آخر حتى يلزم ذلك، بل الأمر الصلاتي كان مقيداً بترك الإزالة فقط ـ وهذا بخلاف المقام فإن ترك حفظ قدرته للمتأخر لا يكون إلا بالاشتغال بفعل وجودي يوجب سلب القدرة عن المتأخر، وإلا لكانت قدرته إلى المتأخر محفوظة، فالفعل الوجودي يكون ملازماً لعدم انحفاظ القدرة ولا يكون مقارناً، وحينئذ يرد المحذور.

قيل: إنه لا محيص عن ملازمة (المهم) أو (فعل وجودي آخر مضاد للمهم) أو (عدم الاشتغال بفعل وجودي أصلاً) ـ لو فرض إمكانه ـ لـ (ترك الأهم) فإن علق وجوب المهم على ترك الأهم الحاصل بالأول لزم طلب الحاصل، أو الثاني لزم طلب الممتنع ـ لاستحالة الإتيان بالمهم حال الاشتغال بضده ـ وكذا الثالث ـ لاستحالة الإتيان به حال عدم الاشتغال بفعل وجودي أصلاً ـ وإن أريد المعنى الجامع بين الثلاثة ترتب المحذوران معاً.

وعليه فلا فرق بين المقامين من هذه الجهة.

رابعاً: إن المحذور ليس مترتباً على ثبوت الحكم على المقيد، لعدم محذور في وجوب الشيء حال عدم الاشتغال بفعل وجودي أصلاً أو حال الاشتغال بضده والامتناع في المقام ليس ذاتياً ولا وقوعياً، بل هو امتناع بالغير، وهو لا ينافي الإمكان الذاتي والوقوعي، ولا جواز التكليف، بل المحذور مترتب على التقييد وهو يرتفع بالإطلاق، فلا يكون محالاً، بل يكون ضرورياً ـ وسيأتي توضيحه في أدلة القول بالإمكان إن شاء الله تعالى ـ.

ثم إنه لا دليل على وجود خطاب شرعي متعلق بحفظ القدرة، لعدم وجوب مقدمة الواجب، اللهم إلا أن يراد الخطاب العقلي، فتأمل.

(الصورة الثانية): أن يكون الواجب الأهم متقدماً، والمهم متأخراً بلحاظ الزمان.

وقد يعلل عدم جريان الترتب في هذه الصورة بأن الأمر بأحد الضدين ـ كالطهارة الترابية ـ بعد سقوط الأمر بالضد الآخر ـ كالطهارة المائية ـ لا محذور فيه، لعدم اجتماع الفعليتين، فلا يجري فيه بحث الاستحالة والإمكان.

ويرد عليه: إمكان تعاصر الفعليتين ـ بتعليق وجوب المهم أو كونه مشروطاً بالوقت المتأخر على نحو الشرط المتأخر، وذلك بغرض التحريك نحو مقدمات المفوتة ـ مثلاً ـ فيجتمع في وقت واحد تحريكان متضادان نحو الأهم والمهم ـ ولو بالتحريك نحو مقدماتهما ـ ويتحقق بذلك موضوع الترتب، فتأمل.

... هذه بعض الشروط المأخوذة في (الترتب) وهنالك شروط أخرى تطلب من المفصلات، والله الموفق.

[1] سورة النازعات، آية: 40.

[2] سورة الطور، آية: 32.

[3] المراد بالملاك هنا المقتضي لا العلة التامة.

[4] الكافي: ج3، ص22/ باب السواك.