الفهرس

آية الله السيد محمد رضا الشيرازي

الصفحة الرئيسية

 

هل المسألة أصولية؟

الظاهر من بعض العبارات: أن موضوع المسألة وجود الأمر بالضد المهم معلقاً على عصيان الأمر بالأهم ونحوه، وعدم وجوه.

وظاهر بعض آخر: كون الموضوع صحة الضد المهم، وفساده.

وقد يورد عليهما: ـ بناءً على استقلالية المسألة وعدم تبعيتها لغيرها لوجود ملاكها فيها ـ بأن البحث عن حكم فعل المكلف من حيث الاقتضاء والتخيير، والصحة والبطلان ونحوهما من المباحث الفقهية، إذ موضوع المسألة الفقهية هو فعل المكلف، ومحمولها هو عوارضه الحكمية، ومن الواضح: أن الضد المهم فعل من أفعال المكلف، وكونه مأموراً به وصحيحاً أو باطلاً عارض حكمي فتكون المسألة فقهية.

وفيه:

أولاً: ما ذكره المحقق النائيني (قده) ـ كما في (أجود التقريرات)[1] ـ وهو: (أن علم الفقه متكفل لبيان أحوال موضوعات خاصة كالصلاة ونحوها، وأما الكليات التي لا ينحصر صدقها بموضوع خاص فلا يتكفّله علم الفقه أصلاً).

ويرد عليه:

عدم اختصاص المباحث الفقهية بما يبحث فيه عن حكم موضوع من الموضوعات الخاصة فإن جملة من المباحث الفقهية كمباحث وجوب الوفاء بالنذر وأخويه ووجوب إطاعة الوالدين ووجوب الوفاء بالشرط ونحوها يبحث فيها عن أحكام العناوين العامة القابلة للصدق على الأفعال المختلفة في الماهية والعنوان ـ كما ذكره بعض الأعلام ـ.

(هذا) مضافاً إلى أن سعة حدود العلم وضيقها تابعان لسعة حدود الغرض وضيقها، فإن العمل تابع للغرض، وهو وإن كان آخر ما يتحقق في الخارج، إلا أنه أول ما ينقدح في الذهن، ولذا ذكروا أن الغاية علة فاعلية الفاعل بماهيتها، وإن كانت معلولة له بإنيّتها ومن هنا يعلم أنه وإن كان التشابه الذي يقع ـ في غالب الأحيان ـ بين مسائل العلم أمراً تكوينياً ذاتياً، إلا أن أفراد مركب اعتباري عن مركب اعتباري آخر وجعله علماً برأسه، وجعل محوره موضوعاً معيناً دون آخر مع كونه أعم منه أو أخص أو بينهما العموم من وجه ـ مما يتبعه سعة العلم وضيقه ـ إنما يتبع تمايز الغرض، ولذا قد لا نذكر بعض الأمور المتشابهة في العلم لأنها لا تخدم الغرض، وقد تذكر أمور فيها شيء من التباعد لدخلها جميعاً في الغرض، فالواضع غير مقيد بالتشابه التكويني، وإنما هو تابع لغرضه.

ومن المقرر: أن الغرض من المسألة الفقهية ـ قاعدة كانت أو حكماً ـ هو معرفة الأحكام الشرعية اللاحقة لفعل المكلف ـ تكليفاً ووضعاً ـ لأجل أن لا يشذ عمل المكلف عما أراده له الشارع.

وعلى هذا فلا فرق في موضوع المسألة الفقهية بين العموم والخصوص وانحصار الصدق وعدمه، وذلك لأن الموضوع العام ـ كالخاص ـ مما له مدخلية في غرض الفقيه.

ولعل ما ذكره السيد الوالد (دام ظله) من (أنه لا يشترط البحث عن أحوال موضوعات خاصة في كون المسألة فقهية، بعد كون الوجوب من عوارض فعل المكلف) إشارة إلى ذلك.

(مع) أنه لا ضابط لانحصار الصدق بموضوع خاص، إذ الانحصار قد يكون صنفياً وقد يكون نوعياً، وقد يكون جنسياً، كما أن لكل واحد منها مراتب مختلفة في القرب والبعد، وجعل الضابط أحدها دون الآخر مفتقر إلى الدليل، وهو مفقود في المقام.

ثم: إن المحقق العراقي (قده) في مقام الذبّ عن نظير الإشكال الوارد في المقام اشترط في كون المسألة فقهية مضافاً إلى وحدة الموضوع: وحدة المحمول ووحدة الملاك فما لم يكن واجداً للوحدات الثلاث لا يعد من المسائل الفقهية.

قال (ره): (إن الملاك في المسألة الفرعية على ما يقتضيه الاستقراء في مواردها إنما هو وحدة الملاك والحكم والموضوع، فكان المحمول فيها دائماً حكماً شخصياً متعلقاً بموضوع وحداني بملاك خاص، كما في مثل (الصلاة واجبة) في قبال (الصوم واجب) و (الحج واجب)، ومثل هذا الملاك غير موجود في المقام...) إلى آخر كلامه (ره).

ولعل ما ذكره (ره) هنا ينافي ما سبق منه من تبعية العلوم للأغراض قال (قده): (إن كل من قنّن قانوناً أو أسس فناً من الفنون لابد أن يلاحظ في نظره أولاً غرضاً ومقصداً خاصاً ثم يجمع شتاتاً من القواعد والمسائل الخاصة التي هي عبارة عن مجموع القضية من الموضوع والمحمول أو المحمولات المنتسبة إلى الموضوعات مما كانت وافية بذلك الغرض والمقصد المخصوص، كما عليه أيضاً قد جرى ديدن أرباب الفنون من الصدر الأول.. ومن المعلوم أنه لا يكاد يجمع من القضايا والقواعد في كل فن إلا ما كانت منها محصلة لذلك الغرض، دون غيرها من القضايا التي لا يكون لها دخل في ذلك الغرض، فمن كان غرضه مثلاً هو صيانة الفكر عن الخطأ لابد له من تدوين القضايا التي لها دخل في الغرض المزبور دون غيرها من القضايا غير المرتبطة به..).

(مع) أنه لم ينقدح المراد بالوحدة التي جعلها ملاكاً لكون المسألة فقهية، إذ الوحدة الحقيقية الحقة ـ وهي ما لم تكن الذات فيها مأخوذة في مفهوم الصفة المشتقة من الوحدة ـ منتفية في المقام مطلقاً، والوحدة الحقيقية غير الحقة ـ وهي التي أخذت الذات فيها لكن كانت الوحدة وصفاً لها بحال نفسها في مقابل الوحدة غير الحقيقية التي تكون الوحدة وصفاً لها بحال متعلقها كالوحدة بالجنس أو النوع ـ سارية في كل أقسام الواحد بالعموم المفهومي دون فرق بين كون الوحدة صنفية أو نوعية أو جنسية وبين كونها قريبة أو بعيدة، وتكثر المصاديق الخارجية مشترك بين الجميع، وصرف سعة حيطة مفهوم وضيق آخر لا يكون مائزاً فيما نحن بصدده، وإلا لزم الاقتصار في كون المسألة فقهية على ما يكون موضوعه هو الصنف القريب، وهو مقطوع الانتفاء.

(ثم) على ما ذكره (قده) تخرج كثير من المسائل والقواعد الفقهية عن دائرة البحث الفقهي مثل (العبادات مشروطة بالنية) و (العقود تابعة للقصود) و (ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده) و (ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده) و (أوفوا بالعقود)[2] و (إنما يحلل الكلام ويحرم الكلام) و (الاستصحاب) و (البراءة) الجاريتين في الشبهات الموضوعية ـ على مبنى القوم فيهما ـ ونحوها، لعدم وحدة الموضوع والمحمول فيها.

(مضافاً) إلى أنه لم يثبت كون الخطابات الوحدانية الموضوع والمحمول ـ مثل قوله تعالى: (أقيموا الصلاة)[3]، وقوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت)[4] ذات ملاك واحد، إذ يحتمل ـ ثبوتاً ـ وجود ملاكات متعددة يختص كل منها بصنف من أصناف موضوع الخطاب مثلاً: يكون ملاك تغسيل عامة الناس هو التطهير، وملاك تغسيل المعصوم (عليه السلام) جريان السنة، إلى غير ذلك، وتوحيد كل الأصناف في موضوع واحد وحمل محمول واحد عليها لا يدل على وحدة الملاك، كما يظهر بملاحظة القوانين العرفية والقواعد المذكورة في العلوم كالطب ونحوه.

ثانياً: أن ملاك كون المسألة أصولية لا ينحصر في وقوعها في طريق استنباط الأحكام الكلية من أدلتها وإلا لزم اختلال الطرد والعكس، وذلك لوقوع كثير من القواعد في طريق استنباط الأحكام الكلية مع عدم إدراج القوم لها في المسائل الأصولية كأصالة الطهارة ـ بناءً على عمومها للشبهات الحكمية كعمومها للشبهات الموضوعية ـ وكقاعدة نفي الحرج، التي بها ينفى ـ مثلاً ـ وجوب الفحص عن المعارض حتى يقطع بعدمه على ما ذكره الشيخ الأعظم (ره) في الاستصحاب، وكقاعدة الفراغ، على ما ذكره المشكيني (قده) في مسألة النهي في العبادة، وكقاعدة نفي الضرر بناءً على جريانها في الشبهات الحكمية، كما هو أحد القولين في المسألة ـ كما في (المحاضرات) و (المصباح) ـ وكالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة ورأي الصحابي ونحوها، إذ لا يشترط في أصولية المسألة ثبوت الدليلية أو الدلالة أو الاستلزام، إذ قد يثبت في الأصول عدم دليلية شيء كالشهرة الفتوائية وقول اللغوي أو عدم دلالة شيء على شيء كما يقال: لا دلالة للأمر على الوجوب ولا للنهي على الحرمة، أو عدم استلزام شيء لشيء كعدم استلزام وجوب الشيء لوجوب مقدماته، وعدم استلزام حرمة الشيء لفساد ضده، والتزام الاستطراد في ذلك كله فيه ما لا يخفى.

ومن هنا أبدل صاحب الفصول (قده) تعريف صاحب القوانين (قده) لموضوع الأصول بأنه: (ما يبحث فيه عن حال الدليل بعد الفراغ عن كونه دليلاً) بقوله:

(إن موضوع الأصول ذوات الأدلة من حيث يبحث عن دليليتها أو عما يعرض لها بعد الدليلية).

وأيضاً: نجد هنالك مسائل لا تقع في طريق استنباط الأحكام الكلية وقد أدرجها القوم في ضمن المباحث الأصولية، كوجوب الفحص في الشبهات الموضوعية وكسريان إجمال المخصص إلى العام في الشبهات المصداقية، وكمبحث مخالفة العلم الإجمالي في الشبهة الموضوعية، وكمسائل دوران الأمر بين الحرمة وغير الوجوب مع الشك في الواقعة الجزئية، ودوران الأمر بين الوجوب وغير الحرمة من جهة الاشتباه في موضوع الحكم، ودوران الأمر بين الوجوب والحرمة من جهة اشتباه الموضوع ـ كل هذه الثلاثة في صورة كون الشك في نفس التكليف، ويجري نظيرها في كون الشك في المكلف به مما يشمل شطراً من مباحث الشبهة المحصورة والشبهة غير المحصورة والأقل والأكثر، والمتباينين ـ وكاستصحاب الكلي في باب الموضوعات، إلى غير ذلك.

والتزام الاستطراد في ذلك كله لا وجه له، بعد إمكان عدها من المسائل الأصولية. فانقدح بذلك عدم انحصار الملاك في وقوع المسألة في طريق استنباط الأحكام الكلية من أدلتها، بل الملاك يتكون من أمور مختلفة.

منها: ما ذكر.

ومنها: عمومها لجميع الأبواب أو أكثرها أو كثير منها.

ومنها: عدم البحث عنها في فن آخر.

ومنها: احتياج المسألة إلى مزيد نقض وإبرام.

ومنها: قرب مدخليتها في عملية الاستنباط.

ومنها: شرائط الزمان والمكان.

ومنها: غير ذلك..

فالمزيج من هذه الأمور ـ كلاً أو بعضاً ـ هو الملاك في أصولية المسألة. ويؤيد ذلك ـ ولو في الجملة ـ ما ذكره صاحب الكفاية (قده) في مبحث الأصول العملية قال:

(والمهم منها أربعة فإن مثل قاعدة الطهارة فيما اشتبه طهارته بالشبهة الحكمية وإن كان مما ينتهي إليها فيما لا حجة على طهارته ولا على نجاسته إلا أن البحث عنها ليس بمهم حيث إنها ثابتة بلا كلام من دون حاجة إلى نقض وإبرام، وبخلاف الأربعة وهي البراءة والاحتياط والتخيير والاستصحاب فإنها محل الخلاف بين الأصحاب ويحتاج تنقيح مجاريها وتوضيح ما هو حكم العقل أو مقتضى عموم النقل فيها إلى مزيد بحث وبيان ومؤنة حجة وبرهان، هذا مع جريانها في كل الأبواب، واختصاص تلك القاعدة ببعضها).

وما في (المحاضرات) في تقسيم القواعد الأصولية حيث قال:

(الضرب الأول ما يكون البحث فيه عن الصغرى بعد إحراز الكبرى والفراغ عنها، وهي مباحث الألفاظ بأجمعها، فإن كبرى هذه المباحث وهي مسألة حجية الظهور محرزة ومفروغ عنها وثابتة من جهة بناء العقلاء وقيام السيرة القطعية عليها، ولم يختلف فيها اثنان، ولم يقع البحث عنها في أي علم، ومن هنا قلنا أنها خارجة عن المسائل الأصولية).

وقريب منه ما في (مصباح الأصول) وهو وإن كان محل تأمل، إلا أنه لا يخلو من تأييد لما ذكرنا.

ويؤيده أيضاً: اختلاف كتب الأصول في المسائل المبحوثة فيها، فهناك مسائل كثيرة أدرجت في كتب الأصول السابقة، ثم هجرت في كتب الأصول الحديثة، خصوصاً بعد الشيخ الأعظم (قده).

ويكفي: أن يعلم أن قسماً من مباحث الدراية كانت ضمن الأصول ثم فصلت عنه وكذا ملاحظة تاريخ تطور علم الأصول والتفاعل المتبادل بين علم الأصول وعلم الفقه.

ثالثاً: مع التسليم يمكن القول:

إن البحث في هذه المسألة ليس عن نفس الوجوب، بل عن الملازمة العقلية بين الأمر بالأهم وانتفاء الأمر بالمهم، أو بين وجوبه وانتفاء وجوبه ومن المعلوم أن الملازمة من عوارض نفس الطلب، لا من عوارض فعل المكلف، وإن كان العلم بالملازمة مستلزماً للعلم بحكم فعل المكلف وهو وجوب الإتيان بالضد المهم أو عدم وجوبه، وبذلك ينطبق ما ذكروه في ضابط المسألة الأصولية من وقوعها في طريق استنباط الحكم الكلي على محل البحث، فإنه على الملازمة يستنبط عدم وجوب المهم، وعلى عدمها يستنبط الوجوب، ولا يعنى بالمسألة الأصولية إلا ما يصح أن تقع كبرى لقياس ينتج الحكم الكلي، ومع انطباق ضابط المسألة الأصولية على مبحث (الترتب) لا وجه للالتزام بكون البحث فيها استطرادياً، ولا بجعلها مسألة فقهية، وإن كانت فيها جهتها، وذلك لما تقرر في محله من إمكان تداخل علمين أو أزيد في بعض المسائل، وكون التمايز بينها بالأغراض أو نحوها.

وعلى ذلك فتندرج المسألة في الملازمات العقلية غير المستقلة، نظير مسألة الضد والمقدمة والأجزاء ونحوها، فلا تكون حينئذ من المسائل الفرعية، فتأمل.

[1] العبادات المنقولة في هذه الرسالة عن الأساطين (قدس سرهم) لوحظ فيها عادة: أداء المعنى لا اللفظ.

[2] سورة المائدة، آية: 1.

[3] سورة الأنعام، آية: 72.

[4] سورة آل عمران، آية: 97.