الفهرس

   

الصفحة الرئيسية

 

ثالثاً: عَدَم فهم الأبعاد الحقيقية

(عدم فهم الأبعاد الحقيقية) للآيات القرآنية، ينشأ عن عاملين:

أولهما: عدم استيعاب المتغيرات الزمنية الجديدة وبعبارة أخرى (عدم الوعي بالعصر).

وثانيهما: عدم صبّ هذه الآيات في قوالب عصرية جديدة، مما سبب عدم فهم المغزى الحقيقي لتلك الآيات. والذي ترتب على ذلك هو ما يلي:

أولاً: ظلّت المفاهيم السلبية الخاطئة مكرسة في نفسية الأمة.

ثانياً: فقدت الأمة أساليب هامة للعمل والتحرك.

وفيما يلي نستعرض نموذجين لـ (عدم فهم الأبعاد الحقيقية) للآيات القرآنية.

(ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى)

(وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي)

(اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي)

(اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى)

(.. فَأْتِيَاهُ فَقُولاَ إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ)

(قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلاَمُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى)

(إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى)[1].

ما الذي تدل عليه هذه الآيات الكريمة؟!

1 - إن هنالك حاكماً، طغى وتجبر، وتعدى كل الحدود المعقولة.

هذا الحاكم كان يعيش مع فئة معينة في القمة، بينما كانت طبقات الشعب من بني إسرائيل تعيش في الحضيض.

وليس ذلك فقط، بل إن هذا الحاكم صادر كذلك حرية هذا الشعب، وجعله يرزح تحت سياط التعذيب.

2 - وفي مثل هذا الواقع الخانق، أرسل الله من قِبَله رسولاً هو موسى (عليه السلام). فماذا كانت مهمة هذا الرسول؟!

القرآن الكريم يؤكد أن (العمل السياسي) من أجل تحرير الجماهير المستضعفة، كان في طليعة المهمات التي ألقيت على عاتق الرسول.

ومن هنا فإن الخطاب الأول من قبل موسى لفرعون كان دعوة صريحة إلى إطلاق حريات الشعب الإسرائيلي ورفع أغلال الكبت والإرهاب عنهم: (فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ)!

وهل (العمل السياسي) غير هذا؟

فما بال تلك الحفنة التي تتظاهر بـ (الدين) و (التقدس) تصرخ في كل مكان: بأن الدين لا شأن له بالسياسة؟!

ما بالهم يرددون: بأن على رجل الدين أن ينتقل بين البيت والمسجد، وإذا تجاوز هذا النطاق فإنما ينبغي أن يكون ذلك لعيادة مريض، أو تشييع جنازة!! وليس أكثر من ذلك!

ما بالهم يقولون: إن مهمة رجل الدين تنحصر في صلاة الجماعة، وبيان بعض مسائل الطهارة والنجاسة، أما السياسة فهي كفر، وشر، ونفاق، وأن على رجل الدين أن لا يلوث نفسه بأعتابها الدنسة[2].

ألم يكن موسى رجل دين؟ ألم تكن أول كلمة قالها (دعوة تحرير سياسية)؟!

فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً؟![3].

(2)

يقول القرآن الكريم: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَة)[4].

قال في الميزان: (والقبلة في الأصل: بناء نوع من المصدر كجلسة، أي: الحالة التي يحصل بها التقابل بين الشيء وغيره فهو مصدر بمعنى الفاعل. أي: اجعلوا بيوتكم متقابلة يقابل بعضها بعضاً وفي وجهة واحدة)[5].

وعلى هذا، فإننا نستفيد من هذه الآية الكريمة درساً عظيماً في أسلوب العمل، وهو:

إن على (الفئة الرسالية) أن تقوم في مراحلها الأولى بـ (الانغلاق الموقت) من المجتمع الجاهلي الذي تعيش فيه، وأن تزيد من (التلاحم الداخلي) فيما بين أعضائها، حتى لا تتسرب إليها سلبيات المجتمع الجاهلي الكبير، وحتى تستطيع أن تبني نفسها بشكل قوي، ورصين، تماماً كما تنغلق البذرة على ذاتها في التربة، وتمتص كل الأملاح والعناصر الضرورية للحياة، وبعدئذ تخرج من التربة عالية الرأس، جميلة القوام.

وهذا هو ما مارسته الحركات الناجحة على امتداد التاريخ البشري.

وهذا هو أيضاً ما مارسه بنو إسرائيل بأمر من موسى (عليه السلام)، في خلال مراحل نموهم الأولى[6] وكما يبدو لنا من خلال هذه الآية الكريمة.

[1]سورة طه: 40 - 48.

[2]من الطريف أن نذكر هنا المنطق السقيم الذي كان يواجه به بعضهم الممارسات السياسية للإمام الخميني. كانوا يقولون له: (إنك تتحدث عن العامل والفلاح، وتدافع عن حقوقهما، والأحزاب الشيوعية هي الأخرى تمارس ذلك، فما هو الفرق بينك وبينها)؟!! وكأن المفروض أن يسكت رجال الدين عن الطبقات المهضومة، حتى يبتلعها الشيوعيون!

[3]للمزيد من التفاصيل راجع (الحكومة الإسلامية) للإمام الخميني.

[4]سورة يونس: 87.

[5]الميزان: ج10، ص114، ط3.

[6]لقد تعرض القرآن قبل بضع آيات إلى أن بني إسرائيل كانوا في تلك الحالة فئة قليلة في طور التكوين حين قال: (فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ) (يونس: 83).