|
ثانياً: الفهم التاريخي |
|
(الفهم التاريخي) للقرآن الكريم يعني أحد أمرين: الأول: تلقّي قصص القرآن الكريم كمجرد قصص تاريخية، الهدف منها ذاتها، من دون النفوذ إلى العبر الكامنة وراءها. هذا القسم يفهم التاريخ كأحداث مضت، ويفهم قصص القرآن كقصص أفراد غابرين، ويكتفي بهذا القدر من فهم التاريخ، دون أن يمارس مع ذلك فهماً آخر هو (الفهم العبروي). الثاني: تلقي (القصص القرآنية) كقصص مرتبطة بـ (ذوات خاصة) و (أفراد معينين)، من دون اعتبار هذه القصص (رمزاً) و (نموذجاً حياً يتكرر في كل زمان ومكان). فالقرآن، ذكر قصة الحاكم الطاغية (فرعون)، والوزير المداهن (هامان)، والعالم الذي كان في القمة، ثم هوى إلى الحضيض (بلعم بن باعوراء)، والشجرة الطيبة (أهل البيت)، والشجرة الخبيثة (بني أمية)، و.. كل ذلك مفهوم لدى هذا القسم، إنه يعرف التاريخ الذي مضى تماماً، ولكنه يجهل أو يتجاهل التطبيقات الحية (الواقعية) لهذه (الرموز). إنه لا يريد أن يعرف: (فرعون) و (هامان) و (بلعم) و (أهل البيت) و (بني أمية) و..، الذين يعيشون في عصره، لأن ذلك يعني ضرب كثير من قيمه، وعلاقاته الاجتماعية، ومصالحه، ولذلك فهو يعوض عن جهله بحاضره، وبمعرفته، وبتاريخه الذي مضى، وراح. والدين يرفض كلا النوعين من (الفهم). 1 - فالقرآن يؤكد أن ما ورد فيه من قصص هي (للعبرة) فيقول: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ.. إلى أن يقول: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ)[1]. (قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأبْصَارِ)[2]. (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ - أي: الرسل - عِبْرَةٌ لأُولِي الألْبَابِ)[3]. (فَأَخَذَهُ اللَّهُ - أي: فرعون - نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى)[4]. وماذا يعني الاعتبار؟! إنه لغوياً يعني العبور من شيء إلى شيء آخر، ولهذا سمي الدمع بـ (العبرة)، لأنه ينتقل من العين إلى الخد، وسمي الجسر (معبراً) لأنه به تحصل المجاوزة، وسميت الألفاظ (عبارات) لأنها تنقل المعاني من قلب المتكلم إلى عقل المستمع. ويقال: السعيد من اعتبر بغيره، لأنه ينتقل بعقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه[5]. وفي هذه الآيات تعني (العبرة)، العبور من القصة، إلى مغزاها، وتجاوز سطور التاريخ، لاستشفاف ما وراء هذه السطور. وتعني كذلك: العبور من الماضي السحيق إلى الحاضر القائم، من الحياة التي مضت، إلى الواقع الذي نعيش. 2 - وتؤكد الروايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام): أن لقصص القرآن نماذج حية في كل زمان ومكان. أ - فعن الفضيل بن يسار قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) (الإمام الصادق) عن هذه الرواية: (ما في القرآن آية إلا ولها ظهر وبطن)؟ قال: (ظهره تنزيله، وبطنه تأويله. منه ما مضى، ومنه ما لم يجئ بعد، يجري كما تجري الشمس والقمر). وفي خبر آخر: (يكون على الأموات كما يكون على الأحياء). والإمام (عليه السلام) يعني بالظهر، المصداق الظاهري للآية. هذا المصداق الظاهري كان مورد نزول الآية قبل ألف وأربعمائة سنة. أما البطن: فهو المصداق الباطني للآية، أي المصاديق المتكررة في كل زمان ومكان والتي ينطبق عليها مفهوم الآية. ولذلك جاء في الحديث: (أن لكل ظهر بطناً). أي أن المصاديق الباطنية متعددة وكثيرة، وتتكرر بشكل خفي. وهذا هو (تأويل) الآيات، أي ما تؤول إليه الآيات في الواقع الخارجي وما تنتهي إليه. والسؤال الآن: لماذا شبهت الرواية القرآن الكريم بالشمس والقمر؟ والجواب: إن الشمس والقمر يشرقان كل يوم على شيء جديد، وكذلك القرآن إنه ينطبق كل يوم على مصداق جديد. فالقرآن ليس خاصاً لجيل دون آخر، أو لزمان دون زمان، أو لمكان دون مكان. بل هو لكل زمن، ولكل مكان. وكما أن الشمس والقمر، يبدّدان الظلمات، ويضيئان من حولنا الأشياء، كذلك القرآن إنه يضيء لنا طرق الحياة، ويكشف ما خفي علينا من الأمور. ب - عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال لحمران: (ظهر القرآن: الذين نزل فيهم، وبطنه: الذين عملوا بمثل أعمالهم، يجري فيهم ما نزل في أولئك). ج - عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام): (ولو كانت إذا نزلت آية على رجل ثم مات ذلك الرجل ماتت الآية لمات الكتاب. ولكنه حي يجري فيمن بقي، كما جرى فيمن مضى). (إن الآية إذا نزلت في قوم ثم مات أولئك ماتت الآية لما بقي من القرآن شيء، ولكن القرآن يجري أوله على آخره ما دامت السماوات والأرض). هـ - عن أبي عبد الله (عليه السلام): (إن القرآن حي لم يمت، وإنه يجري كما يجري الليل والنهار وكما تجري الشمس والقمر، ويجري على آخرنا، كما يجري على أولنا)[6]. إذن. فمن الخطأ (التسمّر) في فهم القرآن على أفراد معينين، أو على حقب معينة. ومن الخطأ أن ندفن آيات القرآن في قبو الماضي السحيق. بل يجب تطبيق القرآن تطبيقاً حياً على الواقع الذين نعيش، وعلى الأفراد الذين نتعامل معهم ضمن هذا الواقع، من الحاكم ورجل الدين، والتاجر، والقوى الاجتماعية، وسائر طبقات الشعب. فالقرآن نزل لكل زمان ومكان. وفيما يلي نستعرض بعض النماذج عن (الفهم الواقعي) مقابل (الفهم التاريخي) للقرآن الكريم. (1) يقول القرآن الكريم: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ) (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ) (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ) (قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) (قَالَ رَبِّ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ إِلاَ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ)[7]. كيف يفسر أصحاب (الفهم التاريخي) هذه المجموعة من الآيات؟! (إن هذه المجموعة من الآيات تكشف عن عناد اليهود، وخبث طينتهم، وتمردهم على قرارات قيادتهم الرشيدة. لقد دعاهم موسى إلى قتال (العمالقة)، واستخدم في سبيل ذلك كل عوامل الترغيب والترهيب، إلا أنهم (لعنهم الله) أبوا، وسخروا من موسى، ومن ربه كذلك!). ويستطردون قائلين: (قاتل الله اليهود، كم جرعوا نبيهم من الغصص، وكم أذاقوه من الآلام)؟! هذا إذن هو كل ما في الأمر، وينتهي بعدئذ كل شيء! هذه المجموعة من الآيات وعشرات مثلها، لا تهدف إلا النيل من مجموعة بشرية معينة - هم اليهود - وتسجيل اللعنة عليهم على امتداد التاريخ؟! ولكن، لنتساءل: هل الأمر فعلاً هو كذلك؟! إن مشكلة هؤلاء هي أنهم نظروا إلى هذه (القصة القرآنية) كقصة مضت وانتهت، ولم يحاولوا أن يعرفوا (موسى زمانهم) و (بني إسرائيل عصرهم)، ولم يسعوا من أجل تطبيق ما حدث في الماضي السحيق على الواقع القائم. بينما نجد الروايات الشريفة تؤكد على أن الأمة الإسلامية سوف تسير على خطى اليهود[8]، (حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتهم معهم، كما جاء في الحديث الشريف، وهذا يدفعنا إلى البحث عن (المصاديق الجديدة) للقصص التي نقلها القرآن عن اليهود. والآن، لنلقي نظرة (واقعية) من زوايا مختلفة على هذه الآيات: 1 - لقد أراد بنو إسرائيل الوصول إلى الأهداف الضخمة المرسومة لهم، دون أن يبذلوا أي جهد أو تعب. عندما قالوا: (وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ)! لقد أرادوا أن ينزل (النصر) عليهم من السماء على طبق من ذهب، وهم جالسون في أماكنهم، دون أن يتحملوا مسؤولية، أو يعملوا شيئاً. لقد أرادوا (المدينة المقدسة) لقمة سهلة باردة! ولكن سنن الله في الكون تأبى ذلك[9] ومن هنا فإنهم ليس فقط لم يصلوا إلى الهدف، بل وأيضاً تلقوا عقاباً إلهياً صارماً نتيجة هذا الكسل والتقاعس. أليس هذا الواقع ذاته يتكرر الآن عند الكثير من المسلمين؟! أليس هؤلاء يقبعون في زوايا البيوت، وينتظرون الوصول إلى أهدافهم المنشودة من دون سعي أو عمل؟! والنتيجة؟! النتيجة هي بالطبع: خيبة الأمل، والسقوط أيضاً، تماماً كما حدث في بني إسرائيل! 2 - لقد استبدل (بنو إسرائيل): (التواكل) بـ (التوكل). فعندما طلب (الرجلان اللذان أنعم الله عليهم) من بني إسرائيل أن يقتحموا أسوار المدينة ويتوكلوا على الله، أن يجمعوا بين السعي، والاعتماد القلبي على الله، بين الغيب والشهود، عندما طلبا منهم ذلك قالوا: (اذْهَبْ أَنْتَ - يا موسى - وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)! عندئذ وبدل أن (يتوكلوا) على الله، (تواكلوا)، بمعنى أنهم نفضوا أيديهم من المسؤولية، وألقوها على عاتق الله سبحانه. والآن، لننتقل بقلوبنا من الماضي السحيق، إلى الواقع القائم، ولنتساءل: كم يتكرر هذا المشهد في واقعنا كل يوم؟! أليس الكثيرون منا يستبدلون بـ (التوكل): التواكل؟! بل: أليس الكثيرون يعتبرون (التوكل) هو (التواكل)؟![10]. 3 - ومن الله، ننتقل إلى القيادة؟! لقد جلس (بنو إسرائيل) في أماكنهم، وانتظروا بشكل سلبي هبوط النصر عليهم! هذا الواقع لا نشاهده الآن؟! كم هم أولئك الذين يجلسون في بيوتهم، ويضعون كفاً على كف، ويتحسرون على فساد الوضع، ولكنهم لا يحركون ساكناً، بل ينتظرون ظهور الإمام المهدي (عليه السلام) لإصلاح هذه الأوضاع! كما انتظر بنو إسرائيل أن يحارب موسى وربه من دونهم، واكتفوا هم بدور (المنتظر) و (المتفرج). لقد تحول وللأسف مفهوم (انتظار الإمام المهدي) عند الكثيرين، من فكرة إيجابية تدفع الإنسان إلى البذل والعطاء، إلى (مورفين) مخدر يبرّر السكوت عن الواقع الفاسد، في انتظار الغيب المجهول القادم من وراء ستار المستقبل[11]. وهكذا سارت أمتنا على خطي (بني إسرائيل) حذو النعل بالنعل، والقذة بالقذة، كما تنبأ بذلك من قبل الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)[12]. (2) يقول القرآن الكريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ..)[13]. جاء في التفاسير أن بعض المسلمين أثقلوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالنجوى والكلام، فنزلت هذه الآية الكريمة. وفي الحديث: (.. وكان الرجل إذا أراد أن يكلمه تصدق بدرهم ثم كلمه (الرسول) بما يريد، فكف الناس عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبخلوا أن يتصدقوا قبل كلامه. فتصدق علي (عليه السلام) بدينار كان له، فباعه بعشرة دراهم في عشر كلمات سألهن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولم يفعل ذلك أحد من المسلمين غيره، وبخل أهل الميسرة أن يفعلوا ذلك..)[14]. ثم نسخ هذا الحكم بالآية التي تليها. والسؤال الآن هو: ما هو العبرة (الحية) و (الواقعية) التي نستفيدها من هذه الآية الكريمة بالإضافة إلى كونها (فضيلة) تفرد بها الإمام علي (عليه السلام)؟! والجواب: إن هذه القصة التي تضمنتها الآية الكريمة، تكشف لنا عن نوعين من (الإيمان): أحدهما: إيمان التضحية. وثانيهما: إيمان المصالح. في (إيمان التضحية) يكون الفرد المؤمن (جندياً تحت الطلب)، أي أنه يستعد لتنفيذ كل القرارات، والتضحية بكل ما يملك من مال، وأهل، ونفس، في سبيل الله، والقيم، والمبادئ. أما صاحب (الإيمان المصلحي) فهو يسير في ركاب (الدين) ما دام هذا الدين لا يضر بمصالحه ولا يكلفه شيئاً، أما عندما يكلفه الدين مصالحه الشخصية، فهو يترك الدين، ويضرب به عرض الحائط[15]. وقد تجلى من خلال هذه القصة (إيمان التضحية) في شخص الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام). كما تجلى (إيمان المصالح) في أولئك الأغنياء الذين التفوا حول الرسول (صلى الله عليه وآله) وكانوا يكثرون من مناجاته والتحدث إليه، فما أن وصل الأمر إلى الإنفاق والبذل، انقطعوا عن الرسول، وتركوه وحيداً في داره![16]. والسؤال الآن: إلى أي طراز من هذين الطرازين ينتمي المسلمون في العهد الراهن؟! إن واقع المسلمين الآن هو الأجدر بالإجابة على هذا السؤال! (3) يقول القرآن الكريم: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ)[17]. في البداية، ينبغي أن نلقي نظرة على (تنزيل) هذه الآية الكريمة، ومن ثم، ننتقل إلى (التأويل). ففي تفسير القمي: (لقي رسول الله (صلى الله عليه وآله) (الجد بن قيس) فقال له: يا أبا وهب ألا تنفر معنا في هذه الغزوة؟ (غزوة تبوك). فقال: يا رسول الله، والله إن قومي ليعلمون أنه ليس فيهم أحد أشد عجباً بالنساء، وإني أخاف إن خرجت معك أن لا أصبر إذا رأيت بنات الأصفر (أي بنات الروم). فلا تفتني وأذن لي أن أقيم. وقال لجماعة من قومه: لا تخرجوا في الحر. فأنزل الله على رسوله في ذلك هذه الآية)[18]. إن هذا المشهد التاريخي يمثل لنا (التبرير) بأجلى صوره وأشكاله! إنه ليس مجرد تبرير عادي (كالتبرير بالحر والبرد وما أشبه) بل إنه تبرير (ديني) بمعنى أنه يتخذ من (الدين) ستاراً لتبرير الهروب من المسؤولية (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني)! وهو أيضاً لم يرد بصيغة عادية، بل صاحبته مختلف عوامل التأكيد من (القسم) و (إن) و (اللام) التأكيديتين، وغير ذلك، كما نلاحظ في الحديث الشريف. ولكن هذا (المنطق التبريري) ليس خاصاً على رجل تاريخي اسمه (الجد بن قيس) وكنيته (أبو وهب). وليس خاصاً بحقبة معينة، اندثرت في طيات الماضي العتيق. إنه نموذج يتكرر في كل زمان، ومكان، ولكن بأنماط وصور مختلفة. فالذين يعتذرون عن تحمل مسؤوياتهم الدينية، ويقضون أعمارهم في زوايا البيوت، بحجة أنهم يخافون على أنفسهم من (الانزلاق) أو (الكبرياء) أو (الضلال) أو ما أشبه. والذين يرفضون الانتماء إلى جبهة الحق، بحجة أن هذا الانتماء قد يعرّضهم لمطاردة السلطات والقبض عليهم، وربما (انهيارهم) و (انحرافهم). كل هؤلاء وهم كثيرون في مجتمعاتنا، وآخرون غيرهم، يمكن اعتبارهم نماذج جديدة يكررون موقفاً مشابهاً لموقف (الجد بن قيس). وهم مثله تماماً يردّدون (تبريرات) كثيراً ما تلبس بـ (غطاء ديني) ولكن ليسمعوا قول الله تعالى: (أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ)![19]. هذه كانت بعض النماذج السريعة حول (الفهم الواقعي) للقصص القرآنية، وهنالك نماذج أخرى كثيرة مثلاً: قصة آدم، قصة موسى وفرعون، قصة يوسف، قصة مؤمن آل فرعون، قصة (صاحب الجنتين)، وقصة أصحاب الكهف.. وبإمكان القراء الكرام أن يقوموا بـ (الفهم الواقعي) لها، مستعينين في ذلك بروايات الأئمة الطاهرين (عليهم الصلاة والسلام)، وبالتفكير المنطقي السليم. |
|
[1]سورة الحشر: 2. [2]سورة آل عمران: 13. [3]سورة يوسف: 111. [4]سورة النازعات: 25 - 26. [5]التفسير الكبير ج 29 - ص 282. [6]اقتبسنا هذه الروايات من مقدمة كتاب (البرهان في تفسير القرآن) ص5، طبعة دار الكتب العلمية، إيران. [7]سورة المائدة: 20 - 26. [8]عن النبي (صلى الله عليه وآله): (والذي نفسي بيده لتركبن سنن من كان قبلكم، حذو النعل بالنعل، والقذة بالقذة، حتى لا تخطأون طريقهم، ولا تخطئكم سنة بني إسرائيل). راجع (الصافي في تفسير القرآن) المجلد الأول ص434، ط5. وأيضاً (البرهان في تفسير القرآن) المجلد الأول ص456، طبعة دار الكتب العلمية - إيران. [9]جاء في الحديث الشريف: (أبى الله أن يجري الأمور إلا بأسبابها). [10]يعتبر القرآن الكريم التوكل رديفاً للعمل، وليس بديلاً عنه، فيقول: (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا) كما جاء في الآية السابقة. ويقول: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) (آل عمران: 159). [11]للمزيد من التفاصيل حول مسألة الانتظار بكلا شقيها الإيجابي والسلبي راجع (مهدي انقلابي بزرك) (بالفارسية) الذي ألفه الأستاذ الشيخ ناصر مكارم شيرازي على الصفحات87 - 113. [12]لقد طبق (المقداد) هذه الآية تطبيقاً واقعياً، وذلك حين شاور الرسول (صلى الله عليه وآله) المسلمين في الخروج إلى بدر فقال المقداد: يا رسول الله: أمض لما أمرك الله فنحن معك، والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) ولكن: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد - يعني: الحبشة - لجالدنا معك من دونك حتى تبلغه. فقال له رسول الله خيراً، ودعا له بخير. راجع تاريخ الطبري - غزوة بدر - ج2 ص140، ط2. [13]سورة المجادلة: 12. [14]البرهان: ج4 ص309. [15]عن هذا الطراز من (المؤمنين) يقول القرآن: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ - طرف أو جانب - فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) الحج: 11. ويقول: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ) العنكبوت: 10. [16]قال في الميزان: (.. ففي قوله: (وتاب الله عليكم) (عقيب آية التصدق) دلالة على كون ذلك منهم ذنباً ومعصية، غير أنه تعالى غفر لهم) راجع (الميزان: ج19 ص190، ط2). [17]سورة التوبة: 49. [18]تفسير الصافي المجلد الأول ص705. [19]لقد طبقت فاطمة الزهراء (عليها السلام) هذه الآية الكريمة بشكل آخر على عصرها الذي كانت تعيشه وذلك في الخطبة التي ألقتها على جمع المهاجرين والأنصار، بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله)، قالت: (فوسمتم غير إبلكم، وأوردتم غير مشربكم، هذا والعهد قريب، والكلم رحيب، والجرح لما يندمل، والرسول لما يقبر، ابتداراً زعمتم خوف الفتنة (أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ). راجع كتاب (فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين) (بالفارسية) الذي ألفه عماد الدين حسين الأصفهاني ص371. |