الفهرس

   

الصفحة الرئيسية

 

أولاً: الفهم التجريدي

يرتكز (الفهم التجريدي) للقرآن الكريم على عنصرين:

الأول: ربط (المفاهيم القرآنية) بعالم الغيب.

الثاني: فصل هذه (المفاهيم) عن الواقع القائم.

إذن، فللقضية جانبان:

جانب إيجابي، يتمثل في (العنصر الأول).

وجانب سلبي، يتمثل في (العنصر الثاني).

ونحن وإن كنا نرتضي الجانب الإيجابي من القضية لأنه صحيح ومؤكد، إلا أننا نرفض الجانب السلبي، لأنه يعتبر (تجزيئاً للدين).

وفيما يلي، بعض الأمثلة السريعة على (الفهم التجريدي) للقرآن:

(1)

يقول القرآن الكريم: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ)[1].

كيف يفهم (التجريديون) هذه الآية، والتي تكررت بصيغ مختلفة بالعشرات في أماكن مختلفة من القرآن الكريم؟!

الجواب: إن لله سبحانه ميزة من أهم ميزاته، هذه الميزة تجعل الله متفرداً عن كافة الكائنات، وهي: أنه واحد، أحد، فرد، صمد، (لا شبيه له يعادله، ولا شريك له يشاكله).

ويستطرد (التجريديون) قائلين: (إن النظام الكوني هو خير دليل على وحدانية الله، ذلك لأنه لو كان هنالك إلهان، لتنازع أحدهما مع الآخر، ولاختل نظام الكون، وتهاوت الحياة).

إذن فالقضية لا ترتبط بـ (الواقع البشري) من قريب، ولا من بعيد، بل أنها مجرد قضية اعتقادية ترتبط بعالم الغيب والميتافيزيقيا.

ولكن الحقيقة أن كلمة (لا إله إلا الله) هي منهج كامل للحياة، بكل ما للحياة من ظلال وأبعاد، فهي تعني:

1 - أن العبادة مختصة بالله، وكما يقول القرآن الكريم:

(قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)[2].

2 - أن الحاكمية مختصة بالله، وفي هذا المجال يقول القرآن:

(أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ)؟[3].

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ).

إلى أن يقول: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[4].

(اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)[5].

3 - أن الطاعة مختصة بالله، وفي هذا المجال يقول القرآن:

(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ)؟[6].

(أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ)؟[7].

(يَا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ)[8].

وهكذا نجد أن الذين يخضعون لمن دون الله، أو يرجعون في حياتهم إلى حكم غير حكم الله، سواء في المجال التشريعي كالأحبار، أو في المجال التنفيذي كالطواغيت، أو يسيرون وراء أهوائهم وشهواتهم، كل هؤلاء ليسوا بموحدين حقيقيين لله.

وبهذا الفهم المتحرك، يصبح شعار (لا إله إلا الله) شعاراً واقعياً، بل أهم شعار مرتبط بالواقع، على الإطلاق، ومن ثم يكتسب حيوية، وفاعلية، وحرارة!

(2)

يقول القرآن الكريم: (وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ)[9].

ما هو مفهوم هذه الآية الكريمة ومثيلاتها، في نظر (التجريديين)؟!

إن هذه الآية تتناول مسألة (العدل الإلهي)، ويعتبر العدل هذا أهم صفة من صفات الله تعالى، وهو يعني أن الجزاء الإلهي للبشر يوم القيامة سيجري بشكل دقيق وعادل، حيث تنصب الموازين الإلهية الدقيقة التي تزن كل شيء سواء كان كبيراً، أو صغيراً (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ)[10].

ويضيف هؤلاء: (إن عدالة الله نابعة من غناه المطلق وعلمه التام، فهو ليس محتاجاً، وليس جاهلاً، ولذلك فهو لا يظلم الناس).

والحقيقة أن (العدالة الإلهية) ليست خاصة بـ (الماورائيات) بل هي تشمل كذلك مختلف جوانب (الحياة الكونية) و (الحياة البشرية)، ذلك لأن العدالة تنقسم إلى:

1 - العدالة الكونية، حيث نجد الكون بكل ما فيه بدءاً من الذرة وانتهاءً إلى المجرة ومروراً بكل الكائنات، نجده قائماً على أسس حكيمة وعادلة.

2 - العدالة التشريعية، فلم يأت تشريع من تشريعات السماء من أجل العبث، أو التضييق على الناس.

إن كل (الأحكام الإلهية) نابعة من علم دقيق، وحكمة تامة، وعدل تام.

3 - العدالة الاجتماعية، فالله سبحانه يفسح المجال للجميع لكي يعملوا، ويمدّ الجميع كذلك، وإذا ما تقدمت فئة معينة بسبب العمل، فإنه لن يتدخل لصالح فئة أخرى لا تعمل! حتى لو كانت تلك الفئة تعتنق مبادئه، وتطبق أحكامه. أو بالأحرى بعض أحكامه[11] ذلك لأن هذا النوع من (التدخل الإلهي) يعتبر ظلماً وحيفا على أولئك العاملين.

فليستيقظ الكسالى الغارقون في الأحلام، النائمون على حرير الأمل الرقيق، وليعلموا أن الله لن يصبح (بديلاً) عنهم، ولن يطهر الأرض من أدناس الجاهلية إلا بعد أن يعمل المؤمنون، ويتحركوا.

4 - العدالة الجزائية، حيث يلاقي - على أسس من هذه العدالة - المحسن جزاء إحسانه، والمسيء جزاء إساءته، دون أن يظلموا مثقال ذرة. وكما يقول القرآن: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ)[12].

ولكن هذه (العدالة) ليست خاصة بالآخرة، بل إنها تشمل الدنيا كذلك. فمن أحسن يجد الحسنى في الدنيا ومن بعدها الآخرة، ومن أساء يجد السوء في الدنيا ثم يرد إلى عذاب النار وبئس المصير.

وهكذا، نجد أن (الفهم الواقعي) للقرآن الكريم، يجعله ينبض بالحياة وكأن آياته قد هبطت للتوّ واللحظة. بينما (الفهم التجريدي) يحوّل (المفاهيم القرآنية الحية) إلى مفاهيم ميتة، وباهتة، أو على الأقل يحصرها ضمن إطارات محددة.

[1]سورة البقرة: 164.

[2]سورة الأنعام: 162 - 163.

[3]سورة الشورى: 21.

[4]سورة النساء: 60 - 65.

[5]سورة التوبة: 31 (وفي هذا الصدد يقول الإمام الصادق (عليه السلام): أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم ولو دعوهم إلى عبادة أنفسهم لما أجابوهم، ولكن أحلوا لهم حراماً، وحرموا عليهم حلالاً فعبدوهم من حيث لا يشعرون) راجع (الصافي) المجلد الأول ص696، ط5.

[6]سورة الجاثية: 23.

[7]سورة يس: 60.

[8]سورة مريم: 44.

[9]سورة غافر: 31.

[10]سورة الزلزلة: 7 و8.

[11]يقول القرآن في هذا المجال: (كُلاً نُمِدُّ هَؤُلاَءِ وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) الإسراء: 20.

[12]سورة النساء: 40.