|
الذينَ يَفهمون القرآن، كتاب مَوت! |
|
كيف تفهم أجيالنا المعاصرة القرآن الكريم؟! قبل أن نجيب على هذا السؤال، لابد أن نطرح سؤالاً آخر هو: كيف فهم الطلائع المسلمون الذين عاشوا في عصور الرسالة الأولى هذا الكتاب المجيد؟! الجواب: لقد فهموا القرآن (كتاباً للحياة) و (برنامجاً للتحرك) و (خريطة للسلوك). كان الواحد منهم يقرأ القرآن وكأنه هو المخاطب بآياته، وكان يستنبط من كل آية (بصيرة واضحة) يستعين بها في مسيرة الحياة الطويلة. وعندما كانت تعترض الواحد منهم مشكلة، أو يجد نفسه على مفترق طرق لا يدري أين تؤدي به، كان يلتجئ إلى القرآن، يقلب صفحاته، ويتأمل في آياته، حتى يعثر على حل لمشكلته، ويجد الضوء الذي يكشف من أمامه الظلمات. وجاءت - من بعدهم - أجيال، أساءت الفهم، وضلت الطريق. هذه الأجيال، تصورت القرآن (كتاب موت)، بدل أن يكون (كتاب حياة)، فالقرآن لا يعني بالنسبة إلى حياة هؤلاء شيئاً، إنه مجموعة من القضايا الميتافيزيقية، والقصص التاريخية، والطقوس العبادية، وأي ربط لهذه الأمور بالحياة؟! إذن، فمن الطبيعي - بعدئذ - أن يبحثوا عن (قيم الحياة) و (مناهج الحياة) و (تعاليم الحياة) في أي مكان، غير القرآن بالطبع! وقد نتج هذا الفصل، الفصل بين القرآن وبين الحياة المعاشة، من عدة عوامل، أهمها: 1 - الهوى والشهوات. ذلك لأن الفهم (الحيوي) و (الواقعي) للقرآن، يعني: (أ) تحديد شهوات الإنسان، وأهوائه، كما سيتضح ذلك فيما بعد. (ب) التنازل عن كثير من الارتباطات، والعلاقات الاجتماعية، بل، ومقاومة الكثير من (مراكز القوى) التي ترتبط مصالح الإنسان المادية بالخضوع لها، والتعاون معها. ولكن أهواء الإنسان لا ترضى بذلك، إذن، لنفهم (القرآن) ككتاب ميت، وعندئذ ننطلق في حياتنا كما نشتهي ونريد. 2 - الفهم الخاطئ للدين. ذلك لأن الدين الذي: (أ) يأمر أتباعه بالعزلة، والانزواء عن المجتمع. (ب) ويهتم بالآخرة، ولا يعير الدنيا أي اهتمام. (ج) ويرفض التدخل في السياسة (لأنها خبث، وكذب ونفاق)! هذا الدين، كما يفهمه (المقدسون البسطاء)، وكما تحاول ترويجه الأوساط الاستعمارية[1] هذا الدين لا يرتبط بالحياة بالطبع، وقرآن هذا الدين هو كذلك، إنه كتاب يدعو الإنسان إلى الزهد في الدنيا، وصرف كل جهوده في الآخرة، فما هي قيمة الدنيا؟! إنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة! بل هي أساساً سميت (دنيا) لأنها دنيئة، ومتعفنة! إذن، ما لنا ولها؟ دع الدنيا للآخرين، دعها للكافرين، يتمتعوا بها، ويتقلدوا زمامها، أما أنت فاعبد الله حتى يأتيك اليقين، لتكن دنياك خربة، ومتهاوية، ليس ذلك مهماً، المهم أن تكون آخرتك معمورة! انظر كيف يلبسون الحق بالباطل، ويقولون الكذب وهم يعلمون! وبهذا الفهم الخاطئ للدين، هل يكون القرآن كتاباً مرتبطاً بالحياة، كما عبر هو عن نفسه حين قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)[2]. أم يكون كتاباً مرتبطاً بالموت؟! إن هذا المنطق هو بالضبط منطق (عبد الله بن عمر) حينما مات معاوية، وقام على الأمر يزيد، لقد رفض عبد الله بن عمر أن يتخذ أي موقف رافض، واكتفى بالقول: (أما أنا فعليّ بقراءة القرآن، ولزوم المحراب)! عبد الله بن عمر كان يقرأ في القرآن قضية موسى وفرعون، وكيف ثار موسى في وجه فرعون الطاغية، حتى قضى عليه، ولكنه كان يقرأ ذلك كـ (قصة)، وليس (كعبرة) و (كتجسيد حي)، ولذلك لم يبذل أي جهد في مقاومة فرعون زمانه (يزيد بن معاوية)، بل اكتفى بقراءة القرآن، ولزوم المحراب! وهكذا يجني (الفهم الخاطئ الدين) على (الفهم الحيوي، أو الواقعي للقرآن)! 3 - اعتبار القرآن (كتاباً متعالياً عن الإدراك البشري). فالذين يعتبرون القرآن مجموعة من الألغاز، والأحاجي، والرموز الغامضة، ويتصورون أن فهم القرآن وقف على فئة محدودة من البشر، هؤلاء بالطبع لا يستطيعون أن يفهموا القرآن، وحتى لو فهموه فإنهم لن يسمحوا لعقولهم أن تقوم بـ (الفهم الواقعي، والحيوي) للقرآن، بل إن ذلك - في نظر بعضهم - هو الانحراف الصريح[3]. والسؤال الآن هو: ما هي النتائج التي ترتبت على هذا الفصل، الفصل بين القرآن وبين الواقع القائم؟! والجواب: 1 - أصبح القرآن بذلك كتاباً ميتاً، لا يستطيع الدفع والتحريك، بعد أن كان، وعلى امتداد فترة طويلة من الزمن، المحرك الأساسي للأمة المسلمة على طريق النمو والتقدم. لقد وعت الأمة بفضل القرآن، وتحركت بفضل القرآن، وتصاعدت بفضل القرآن، واندفعت تنشر النور في أقطار الأرض، وتحطم عروش الطغاة في كل مكان بفضل القرآن، وأنجزت كل شيء بفضل القرآن. هذا ما كان في السابق، حين كانت الأمة تنظر إلى القرآن كتاباً للحياة، ومنهجاً للتحرك، وخريطة للمسير. أما اليوم، وحين انفصل القرآن من الحياة، ولم يبق منه إلا رسوم، كما يقول الإمام علي (عليه السلام)، فقد انتهت فاعليته، وأصبح لا يحرك فرداَ، ولا يبني كياناً، ولا يرهب عدواً[4]. 2 - انفصل القرآن بذلك عن أجيالنا الصاعدة. ذلك لأن هذه الأجيال تبحث عن: (1) القضايا المتحركة، أما القضايا الجامدة، والقصص الميتة، فهي لا تستثيرها، ولا تستقطب اهتمامها. (ب) الأمور التي ترتبط بواقعها القائم، وتعالج مشاكلها الحاضرة. ولأن هذه الأجيال فهمت القرآن كتاباً، عتيقاً، ميتاً، لا يرتبط بالواقع القائم، لذلك ألقت بالقرآن وراء ظهورها، وانطلقت تبحث عن أيديولوجية أخرى تعالج مشاكلها الحاضرة! وكان المسؤول الأكبر لذلك هو (الفهم الميت للقرآن). ولو كان هؤلاء قد فهموا القرآن فهماً (حيوياً) و (واقعياً) لما كانوا قد انفصلوا عنه، ونحن واثقون بأن هؤلاء سوف يعودون يوماً ما إلى القرآن، وإلى الأيديولوجية الإسلامية، بعد أن يفهموهما بشكلهما الواقعي الحي. 3 - ظلت بالفصل بين القرآن وبين (الفهم الواقعي) له، المفاهيم الخاطئة مكرّسة في نفسية الأمة، بينما كان بإمكان (الفهم الحيوي) و (الواقعي) للقرآن الكريم أن يعالج الكثير من هذه المفاهيم، وسنضرب فيما بعد بعض الأمثلة على ذلك. هذه، كانت بإيجاز النتائج الخطيرة التي ترتبت على (الفهم الميت) أو (الفهم الجامد)، لا فرق، لآيات القرآن الكريم. وينتصب هنا سؤال، ليقول: ما هي مظاهر (الفهم غير الواقعي) للقرآن؟! والجواب: إن هنالك ثلاثة مظاهر: 1 - الفهم التجريدي. 2 - الفهم التاريخي. 3 - عدم إعطاء الكلمة مدلولها الحقيقي. دعنا، نلقي قليلاً من الضوء، على ذلك. |
|
[1]يقول الإمام الخميني في كتابه (الحكومة الإسلامية): (المؤسسات الاستعمارية كلها وسوست في صدور الناس: أن الدين لا يلتقي مع السياسة الروحانية وليس عليها، أو ليس لها أن تتدخل في الشؤون الاجتماعية. وليس من حق الفقهاء أن يعملوا لتقرير مصير الأمة. ومن المؤسف جداً أن البعض منا صدّق تلك الأباطيل، وقد تحقق بهذا التصديق أكبر أمل كانت تحلم به نفوس المستعمرين. انظروا الهيئات الدينية فستجدون آثار ونتائج تلك الدعايات واضحة. فهنالك البطالون من عديمي الهمم، وهنالك الكسالى الذين يكتفون بالدعاء، والثناء، والتحدث في بعض المسائل الشرعية وكأنهم لم يخلقوا لغير ذلك. ومما يمكن رؤيته في هذا الجو من تلك الآثار والنتائج هو النغم التالي: (الكلام يتنافى ومقام العالم. المجتهد لا يليق به أن يتكلم، ويحسن به أن يكثر الصمت ويكتفي بقول لا إله إلا الله، أو يكتفي باليسير جداً من الكلام)!..) الحكومة الإسلامية - ص (138 - 139). [2]سورة الأنفال: 24. [3]لقد تناولنا مسألة (التفسير بالرأي) بشكل مفصل في الفصل الأول من هذا الكتاب. [4]يقول الإمام الخميني: (.. وأنا أقول لكم: إنه إذا كان همنا الوحيد أن نصلي وندعو ربنا ونذكره، ولا نتجاوز ذلك، فالاستعمار وأجهزة العدوان كلها لا تعارضنا. ما شئت فصلِّ، ما شئت فأذّن (ونضيف: ما شئت فاقرأ القرآن بشكل ميت) وليذهبوا بما آتاك الله، والحساب على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وعندما نموت فأجرنا على الله! وإذا كان هذا تفكيرنا فلا شيء علينا، ولا خوف علينا). (قيل: إن أحد قادة الاحتلال البريطاني للعراق حينما سمع المؤذن سأل عن الضرر الذي يسببه هذا الأذان للسياسة البريطانية، فلما أخبر بأنه لا ضرر من ذلك قال: فليقل ما شاء ما دام لا يتعرض لنا. وأنت إذا كنت لا تمس السياسة الاستعمارية وكنت في دراستك للأحكام لا تتجاوز النطاق العلمي فلا شأن لهم معك. صل ما شئت. هم يريدون نفطك أي شأن لهم بصلاتك..) (وهذا هو بالضبط ما ينطبق على القراءة الميتة للقرآن الكريم) راجع الحكومة الإسلامية) ص 21. |