الفهرس

   

الصفحة الرئيسية

 

صور الجمع بين آيات القرآن

وهنا، ينتصب سؤال، ليقول: ما هي صور (الجمع) بين الآيات القرآنية؟!

والجواب: هنالك صور عديدة للجمع نذكر منها:

1 - (الجمع التفسيري).

2 - (الجمع الترتيبي).

3 - (الجمع الاستنباطي).

4 - (الجمع الموضوعي).

ولكن: كيف؟ دعنا نعرف.

أولاً: الجمع التفسيري

ويعني ذلك، كشف المدلول الحقيقي للآية القرآنية من خلال آية أخرى تتعرض إلى الموضوع ذاته. وهنا نستعرض بعض النماذج:

أ - يقول القرآن الكريم:

(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)[1].

عند سماع هذا الثواب العظيم، تشرأب الأعناق، وتتساءل: من هم الذين آمنوا؟ وما هي ملامحهم وصفاتهم؟ وما هي الصالحات؟

والجواب، نجده في آية أخرى هي قوله تعالى:

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)[2].

وفي قوله تعالى:

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ - اضطربت وخافت - وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)[3].

ب - يقول القرآن الكريم:

(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ)[4].

نحن نعرف منذ البداية أن لكل آية مفهوماً ومصداقاً. فمفهوم الصراط مثلاً واضح نعرفه من المعنى اللغوي للكلمة في لسان العرب.

فالصراط بمعنى الطريق المعبّد للسير. والمستقيم بمعنى المعتدل، وأقرب الطرق إلى المقصد. فمفهوم الآية إذن، واضح لا غبار عليه.

ولكن مصداق الآية غير واضح. فلا ندري ما هو الصراط المستقيم الذي يجب أن نسير عليه. ولا ندري من هم الذين أنعم الله عليهم، حتى نهتدي بطريقهم. فغير واضح من الآية واللغة ولسان العرب ما هو الصراط المستقيم؟!

فماذا علينا أن نفعل؟!

علينا أن نعرف ذلك من خلال الربط بين هذه الآية، والآيات الأخرى، ونكتشف مصداق الآية. فنقرأ في سورة (يس) آية 60 قوله تعالى:

(وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ). فنعرف أن الصراط المستقيم هو عبادة الله تعالى، والتزام منهجه في الحياة العملية والاجتماعية.

ونقرأ في آية أخرى قوله تعالى:

(وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ)[5]. فنعرف أن المراد من (الذين أنعمت عليهم) هم الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون.

وهذا معنى قول الإمام الرضا (عليه السلام): (من ردّ متشابه القرآن إلى محكمة فقد هدي إلى صراط مستقيم).

(وأن القرآن يفسر بعضه بعضاً)[6].

ج - والآن، لنتساءل من هم (الضالون)؟! من هم هؤلاء الذين ندعو الله تعالى كل يوم عشر مرات على الأقل، لكي يبعدنا عنهم؟!

من خلال مراجعة الآيات الأخرى، نجد أن القرآن الكريم يحدّد (الضلال) فيما يلي:

1 - الكفر - بكافة أشكاله وألوانه - وفي ذلك يقول القرآن:

(وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً)[7].

(وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ)[8].

2 - التعدي على حقوق الآخرين، وفي ذلك يقول القرآن:

(بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ)[9].

3 - الانحراف - بكافة ألوانه وأشكاله - وفي ذلك يقول القرآن:

(وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)[10].

(وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِيناً)[11].

وهكذا، استطعنا أن نكتشف - من خلال الآيات الأخرى - أن المراد بـ (الضالين) هم كل المنحرفين فكرياً، والمنحرفين سلوكياً، والذين يتعدّون على حقوق الآخرين.

وهذا، ما يطلق عليه (تفسير القرآن بالقرآن).

ثانياً: الجمع الترتيبي

وذلك يعني: فرز مجموعة من الآيات، وترتيبها ترتيباً منطقياً. ولهذا النوع من (الجمع) معطيات وفوائد، منها:

1 - حل التناقض المتوهّم بين الآيات القرآنية.

ذلك أننا حين ننظر إلى الآيات بشكل فوضوي، فقد نتصور اختلافاً بين مفاهيم هذه الآيات، ولكننا بعد تنسيقها وتنظيمها لا نجد أي اختلاف، بل نجد الأمر من قبيل (الخصوص بعد العموم) أو (التقييد بعد الإطلاق) أو ما أشبه ذلك، مما لا نرى مثيلاً له حتى في كلماتنا اليومية.

2 - فهم (مرحلية) هبوط الأحكام الإلهية.

ذلك أن الأمر أو النهي عندما يتعلق بقاعدة من قواعد التصور الإيماني، أي بمسألة اعتقادية، فإن الإسلام يقضي فيها قضاءً حاسماً منذ اللحظة الأولى.

ولكن، عندما يتعلق الأمر أو النهي بعادة وتقليد، أو بوضع اجتماعي معقد، فإن الإسلام يتريث فيه، ويأخذ المسألة باليسر والرفق والتدرج، ويهيئ الظروف الواقعية التي تيسّر التنفيذ والطاعة.

ومن ذلك نستفيد درساً عظيماً هو: أن من الضروري أن يطوي (الداعية) المراحل بهدوء، وتؤدّة[12]. أما (خرق المراحل) والقفز عليها فهو لا يسبب إلا الفشل، والانتكاس.

والآن، لنضرب بعض الأمثلة:

أ - في مسألة تحريم الخمر، لم يكن الأمر أمر توحيد أو شرك. وإنما كان أمر عادة وأُلف، والعادة تحتاج إلى علاج، ولذلك تدرّج القرآن من مرحلة إلى مرحلة، حتى وصل إلى التحريم النهائي. وقد ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام):

(ما بعث الله نبياً قط، إلا وفي علم الله تعالى أنه إذا أكمل له دينه كان فيه تحريم الخمر، ولم يزل الخمر حراماً، وإنما ينقلون من خصلة ثم خصلة. ولو حمل ذلك عليهم جملة لقطع بهم دون الدين).

وعنه: (ليس أحد أرفق من الله تعالى، فمن رفقه تبارك وتعالى أنه ينقلهم من خصلة إلى خصلة، ولو حمل عليهم جملة - أي: مرة واحدة - لهلكوا)[13].

والآن، لننظر كيف تدرّج القرآن الكريم في تحريمه للخمر:

(1) في البداية، بدأ القرآن بتحريك الوجدان الديني، والمنطق العقلاني في نفوس المسلمين وذلك ببيان أن الإثم في الخمر أكبر من النفع فقال:

(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ)؟

(قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا)[14].

وفي هذا إيحاء بأن تركها هو الأولى.

(2) ثم جاءت الخطوة الثانية بآية سورة النساء:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ)[15].

والصلاة في خمسة أوقات، معظمها متقارب، لا يكفي ما بينها للسكر والإفاقة! وفي هذا تضييق لفرص المزاولة العملية لعادة الشرب، وكسر لعادة الإدمان التي تتعلق بمواعيد التعاطي، إذ المعروف أن المدمن يشعر بالحاجة إلى ما أدمن عليه من مسكر أو مخدر في الموعد الذي اعتاد تناوله، فإذا تجاوز هذا الوقت، وتكرر هذا التجاوز فترت حدة العادة، وأمكن التغلب عليها.

(3) وبعدما تمت هاتان الخطوتان جاء النهي الحازم الأخير بتحريم الخمر في قوله تعالى: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)[16].

وعندئذ، قال المسلمون: أجل! لقد انتهينا يا رسول الله! ثم أخذوا يريقون الخمور في الأزقة حتى جرت فيها!

* * * * *

ب - والقتال - هو الآخر - تم تشريعه بشكل تدريجي.

ففي مكة كان المطلوب من المسلمين هو مجرد اتخاذ موقف سلبي تجاه تحرشات الكفار، ذلك لأن أي رد فعل ساخن من قبل المسلمين كان يعني القضاء التام عليهم، واستئصال جذورهم من الوجود.

أما في المدينة، وحيث قوي المسلمون إلى حد ما، فقد تدرج الأمر على النحو التالي - على حسب ما يشير إليه بعض المفسرين -:

(1) في البدء، هبط (الإذن المجرد) من قبل السماء، فكان قوله تعالى:

(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ).

(الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ)[17].

وفي هذه الآية نجد تحريضاً خفياً للمؤمنين لكي يقاتلوا أعداءهم - الذين ظلموهم وأخرجوهم من ديارهم - كما نجد تشجيعاً لهم على القتال ذلك لـ (أن الله على نصرهم لقدير).

لكن المسألة لا زالت في مرحلة (الإذن المجرد)!

(2) بعدئذ، يخطو القرآن خطوة أخرى على الطريق لكي يأمر المسلمين بمقاتلة من يتعرض لهم من المشركين، وفي ذلك يقول القرآن الكريم:

(فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً)[18].

ويقول في الآية التالية:

(فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُبِيناً)[19].

وفي هذه المرحلة، أصبح الأمر أمر (ردّ فعل) من طرف المسلمين! فالقضية أصبحت مرتبطة بموقف أولئك المشركين، إن سلماً فسلم، وإن حرب فحرب!

(3) ثم تسير القضية في خط تصاعدي فيأمر القرآن الكريم الأمة المسلمة بمقاتلة من يليها من الكفار، ويقول:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)[20].

قال الحسن: (كان هذا قبل الأمر بقتال المشركين كافة)[21].

(4) وتبلغ القضية ذروتها، حينما يأمر القرآن بشن حرب لا هوادة فيها ضد كافة المشركين، حين يقول:

(فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ)[22].

وهكذا، تدرجت القضية من (الإذن المجرد) إلى الأمر الشامل المؤكد.

وهذا التنظيم للآيات الكريمة نطلق عليه اسم (الجمع الترتيبي).

ثالثاً: الجمع الاستنباطي

والجمع الاستنباطي يعني: الجمع بين آيتين من القرآن الكريم لاستنباط حكم تشريعي معين، أو فكرة معينة.

والتراث الذي خلفه لنا الأئمة الطاهرون (عليهم الصلاة والسلام) غني بهذا النوع من (الجمع) ولذلك فسنقتصر في هذا الفصل على نماذج منه. وإليكم بعض هذه النماذج:

أ - عن الدؤلي قال: رفع إلى عمر امرأة ولدت لستة أشهر، فأراد عمر أن يرجمها[23].

فجاءت أختها إلى علي بن أبي طالب فقالت: إن عمر يرجم أختي، فأنشدك الله إن كنت تعلم أن لها عذراً لما (أي: إلا) أخبرتني به.

فقال علي: إن لها عذراً. فكبرت تكبيرة سمعها عمر ومن عنده.

ثم انطلقت إلى عمر فقالت: إن علياً زعم أن لأختي عذراً.

فأرسل عمر إلى علي: ما عذرها؟!

قال: إن الله يقول: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ)[24]، وقال: (وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً)[25]، وقال: (وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ)[26] وكان الحمل هنا ستة أشهر[27].

قال الراوي: ثم بلغنا أنها ولدت آخر لستة أشهر[28].

وهكذا، استطاع الإمام علي (عليه السلام) أن يستنبط من خلال هذه الآية المتباعدة في الترتيب القرآني[29] والتي قد لا يبدو عند النظرة العابرة وجود أي ترابط فيما بينها، استطاع أن يستنبط منها حكماً عظيماً من أحكام الإسلام، وأن ينقذ امرأة بريئة من حكم الرجم.

ب - إن سارقاً اعترف على نفسه بالسرقة، فأحضروه إلى مجلس المعتصم الملك العباسي، كي يجري عليه الحد، ولكن المعتصم لم يعرف حده، فأحضر فقهاء بغداد وفيهم ابن أبي داود، والإمام العظيم محمد بن علي الجواد (عليه السلام)، فسألهم: من أين تقطع يد السارق؟

فقال ابن أبي داود: من مفصل الكف واستدل بآية التيمم: (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ)[30].

ولكن العلماء الآخرين أطبقوا على قطع اليد من المرفق مستدلين بآية الوضوء: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ)[31].

كل ذلك والإمام الجواد (عليه السلام) ساكت لا يتكلم بشيء. حتى التفت إليه المعتصم قائلاً: ما تقول؟! غير أن الإمام (عليه السلام) لم يك يريد الرد على هؤلاء

فقال: قالوا وسمعت!

فتطلع المعتصم إلى رأي جديد يضمره الإمام (عليه السلام)، فألح عليه قائلاً: لا رأي لي عند هؤلاء، بالله عليك إلا ما حكمت.

فقال الإمام (عليه السلام): (إن النبي أمر أن توضح المواضع السبعة (التي منها الكفان) في السجود على الأرض. ويقول الله الحكيم: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ)[32] فلا تقطع الكف التي هي من المساجد، (بل) تقطع الأصابع الأربع فحسب)[33].

وهكذا، استطاع الإمام الجواد (عليه السلام) أن يكشف حدود قطع يد السارق بالجمع بين آيتين كريمتين هما قوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) وقوله تعالى (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ).

ج - عن علي بن يقطين: قال: سأل المهدي (الملك العباسي) أبا الحسن (عليه السلام): (أي: الإمام الكاظم) عن الخمر فقال: هل هي محرمة في كتاب الله؟ فإن الناس يعرفون النهي ولا يعرفون التحريم.

فقال له أبو الحسن (عليه السلام): بل هي محرمة.

قال: في أي موضع هي محرمة بكتاب الله يا أبا الحسن؟!

قال: قول الله تبارك وتعالى:

(قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ)[34].

فأما قوله: (ما ظهر منها) فيعني الزنا المعلن، ونصب الرايات التي (كانت) ترفعها الفواجر في الجاهلية.

وأما قوله (وما بطن) يعني: ما نكح من الآباء، فإن الناس كانوا قبل أن يبعث النبي (صلى الله عليه وآله) إذا كان لرجل زوجة، ومات عنها، تزوجها ابنه من بعده إذا لم تكن أمه، فحرم الله ذلك.

وأما (الإثم) فإنها الخمر بعينها، وقد قال الله في موضع آخر: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ)[35].

فأما الإثم في كتاب الله فهي الخمر. والميسر فهي النرد، وإثمهما كبير.

فقال المهدي: هذه والله فتوى هاشمية![36].

رابعاً: الجمع الموضوعي

و (الجمع الموضوعي) يعني: فرز الآيات القرآنية التي تتحدث حول موضوع معين، وتصنيفها إلى مجموعات، وترتيب هذه المجموعات حسب تسلسلها المنطقي، ومن ثم استخراج الحكم القرآني النهائي حول ذلك الموضوع.

ويختلف (الجمع الموضوعي) عن (الجمع الاستنباطي) في نقاط كثيرة، منها:

1 - (الجمع الاستنباطي) يتم عادة ضمن آيتين أو ثلاث، فهو جمع محدود، بينما (الجمع الموضوعي) يتم عادة ضمن مجموعة كبيرة من الآيات.

2- (الجمع الاستنباطي) تكون نتيجته غالباً حكماً شرعياً - بالمعنى المتداول لهذه الكلمة - بينما تتسع آفاق (الجمع الموضوعي) لتشمل كافة القضايا: السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والدينية، وغيرها.

3 - (الجمع الاستنباطي) يقتصر على فئة محدودة من (الراسخين في العلم) - باعتبار صعوبة استخراجه - بينما تفتح أبواب (الجمع الموضوعي) أو (الفهم الموضوعي) - لا فرق - لكل الفئات الاجتماعية تقريباً.

والحقيقة أن (الجمع الموضوعي) أو (الفهم الموضوعي) لآيات القرآن الكريم، يعتبر من أهم أنواع (الجمع القرآني)، وذلك لسببين:

الأول: (الميزات) التي يتمتع بها هذا النوع من الجمع، والتي أسلفنا بعضها قبل قليل.

الثاني: (المعطيات) و (النتائج) التي يفرزها هذا النوع من الجمع، والتي من أهمها: الخروج بـ (رؤية قرآنية متكاملة) حول موضوع معين.

[1]سورة البقرة: 25.

[2]سورة الأنفال: 74.

[3]سورة الأنفال: 2 و3.

[4]سورة الحمد: 6 و7.

[5]سورة النساء: 68.

[6]القرآن كتاب حياة: 61 - 62.

[7]سورة النساء: 136.

[8]سورة البقرة: 108.

[9]سورة لقمان: 11.

[10]سورة (ص): 26.

[11]سورة الأحزاب: 36.

[12]لا نعني بالتدرج: تحليل الحرام أو تحريم الحلال، بل عدم مفاجأة الطرف الآخر بالواجبات الثقيلة في أول وهلة بل التريث حتى يستعد نفسياً لذلك.

[13]الصافي، في تفسير القرآن: المجلد الأول، ص187، ط5.

[14]سورة البقرة: 219.

[15]سورة النساء: 43.

[16]سورة المائدة: 90 و91.

[17]سورة الحج: 39 - 40.

[18]سورة النساء: 90.

[19]سورة النساء: 91.

[20]سورة التوبة: 123.

[21]عن (مجمع البيان) ج5 ص84.

[22]سورة التوبة: 5.

[23]باعتبار أنها ولدت قبل إكمال تسعة أشهر، مما أثار ريبة عمر في كونها زانية قبل زواجها.

[24]سورة البقرة: 233.

[25]سورة الأحقاف: 15.

[26]سورة لقمان: 14.

[27]فإذا كانت مدة الرضاع أو الفصال - لا فرق - حولين (أي أربعة وعشرين شهراً) وكانت مدة الحمل والفصال معاً ثلاثين شهراً، فالنتيجة هي: أنه يمكن أن تكون فترة الحمل ستة أشهر فقط.

[28]راجع (الغدير) ج6 ص93 ط3.

[29]الآية الأولى في الجزء الثاني من القرآن الكريم، والثانية في الجزء السادس والعشرين والثالثة في الجزء الواحد والعشرين.

[30]سورة النساء: 46.

[31]سورة المائدة: 9.

[32]سورة الجن: 18.

[33]راجع: (العقوبات في الإسلام ص25 - 26).

[34]سورة الأعراف: 33.

[35]سورة البقرة: 219.

[36]راجع (البرهان في تفسير القرآن) المجلد الثاني ص14، ط3، وكذلك أيضاً (الصافي في تفسير القرآن) المجلد الأول ص188، ط5.