|
شبهات حول القرآن |
|
هنالك بعض الشُّبَه والإشكالات، التي قد تقفز إلى أذهان البعض للتدليل على عدم جواز التدبر في القرآن الكريم، بل ولاعتبار (التدبر) في القرآن معصية كبيرة تهوي بصاحبها في نار جهنم، وساءت مصيراً؟! فما هي هذه الشبه؟ وما هي الإجابة عنها؟ |
|
الشبهة الأولى: الروايات نهت عن ذلك! |
|
يقولون: لقد نهت الروايات الشريفة عن (التفسير بالرأي)، وهددت من يفعل ذلك بنار جهنم، وقالت: (من فسر القرآن برأيه، إن أصاب لم يؤجر، وإن أخطأ هوى أبعد من السماء)[1]. (من فسر برأيه آية من كتاب الله فقد كفر)[2]. ولكن، ما هي النتيجة؟ عن ذلك يجيبنا حديث آخر فيقول: (من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار)[3]. وبعد هذه الروايات المشددة. هل يجرؤ مؤمن على التدبر في آيات القرآن الكريم؟! هكذا زعموا، وبئس ما يزعمون! ذلك لأن (التفسير بالرأي) لا يعني (التدبر في القرآن) إذ أن هذه الروايات لا يمكن أن تنهى عن نفس ما أمر به القرآن الكريم والروايات الأخرى[4]، بل أنها تعني أحد الأمور التالية: 1 - أن يحمل الفرد آراءه الشخصية، على تعريف المعاني القرآنية بأحد الأشكال التالية: (أ) حمل اللفظ القرآني على خلاف ظاهره. (ب) حمل اللفظ القرآني على أحد احتماليه، دون أي دليل. مثلاً: يحمل (القرء) في قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ)[5] على الطهر دون الحيض، باعتبار أن (القرء) لفظة مشتركة بين الطهر والحيض، من دون أي دليل. (ج) التعسف في تأويل الآيات القرآنية، وحملها على معاني ما أنزل الله بها من سلطان. وسوف نضرب على ذلك بعض الأمثلة فيما بعد. أما الأسباب الكامنة وراء هذا (التحريف المعنوي) الذي يأتي تلبية لآراء الفرد فهي: |
|
الأول: الأهواء الشخصية للفرد |
|
إن بعض من لم يدخل نور الإيمان قلوبهم يحاولون أن يُخضعوا آيات القرآن لأهوائهم وشهواتهم، ولذلك فهم يحاولون فهم الآيات القرآنية (بآرائهم) أي حسب أهوائهم وشهواتهم. فهذا (يحيي بن أكثم) - القاضي الشهير - كان يعاني من (الشذوذ الجنسي) حتى قال عنه ابن خلكان: (ألوط قاض بالعراق نعرفه)! وكان محبوب المأمون، فقال له يوماً: لمن هذا الشعر: قاض يرى الحد فـــي الزنا ولا***يــرى على من يلوط من بأس فأجابه: الذي قال: ما أحسب الجور ينقضي وعلى***الأمـــــــة وال مـــن آل عباس! يحيى بن أكثم هذا، كان (يدين) عمله الشائن، ويتمسك بآية من القرآن في مشروعية ذلك! والآية هي قوله تعالى: (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً)[6]. فكان يستفيد من ذلك إباحة (الزواج) وإباحة (اللواط) كذلك! ولا أعلم هل كان يفهم من ذلك (استحباب) هذا العمل الشائن أيضاً؟! إن الآية الكريمة تقول: (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً)[7]. وهي تعني أن الناس تجاه (إنجاب الذرية) على أربعة أقسام، فقسم لا يولد له إلا الإناث وقسم لا يولد له إلا الذكور، وثالث: يولد له الاثنان معاً. ورابع: لا يولد له أي واحد منهما. بل يظل عقيماً! ولكن يحيى بن أكثم اقتطع هذه الجملة من القرآن، وفصلها من سياقها العام، لكي يرضي أهواءه وشهواته[8]. والآن، لنستمع إلى حوار بين يحيى بن أكثم، وبين الإمام الهادي (عليه السلام)، في هذا الصدد. فقد سأل الإمام عن قوله تعالى: (أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً). فأجاب الإمام (عليه السلام): (أي: يولد له ذكور، ويولد له إناث. يقال لكل اثنين مقرنين: زوجان، كل واحد منهما زوج). وأضاف الإمام وهو يضرب على الوتر الحساس: (ومعاذ الله أن يكون غنى الجليل [أي الله تعالى] ما لبست به على نفسك، تطلب الرخص لارتكاب المآثم (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً). واستدرك الإمام قائلاً: (إن لم يتب)[9]. إن هذا الشكل من (التحريف المعنوي) هو الذي يصدق عليه (من فسر القرآن برأيه) أي حسب أهوائه وشهواته. وهذا الشكل من التحريف لا تزال الأمة تعاني من آثاره السلبية حتى الآن. مثلاً: يفسرون قوله تعالى: (وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)[10] بأن على الفرد أن لا يعمل، ولا يجاهد، ولا يواجه الطواغيت لأن ذلك يعني (التهلكة) التي قد نهانا الله عنها. وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)[11]. بأن مسؤولية الفرد محصورة في إطار ذاته، ولا شأن له بالآخرين؟ فليذهب العالم كله إلى الجحيم! ليس ذلك مهماً! المهم أن يحافظ الفرد على صومه وصلاته، وبعض آخر من الواجبات الفردية وليس أكثر من ذلك. ويقول شاعرهم في ذلك: وما أبالـــي إذا نفسي تطاوعني***على النجاة بمن قد ضل أو هدى! ويفسرون (الصبر) الذي ورد الأمر به كثيراً في القرآن الكريم والسنة الشريفة، بأنه يعني: الخضوع للطواغيت، والاستسلام لهم. و (التقية) بأنها تعني: الجمود والتوقف. و (التوكل) بأنه يعني: إيكال المسؤوليات إلى الله، والجلوس في زوايا البيوت، بانتظار (الفرج)! و (الزهد) بأنه يعني: اعتزال الدنيا، وترك (الفاسقين) و (الكفار) يمرحون فيها ويلعبون، وانتظار ثواب الله في الآخرة، بدلاً من ذلك. وهكذا، وهلمّ جرّاً. وهذا هو أحد مصاديق (التفسير بالرأي) المنهي عنه في الروايات، والذي يعني حمل آيات القرآن الكريم على طبق (الآراء) التي تكونت للإنسان من خلال أهوائه وشهواته. إن القضية تبدأ بـ (هوى) يسعى خلفه الإنسان. وعلى مر الزمن يتحول هذا (الهوى) إلى رأي ونظرية، ثم يحاول الإنسان تطويع (الدين) ليأتي مؤيداً، بل ومشجعاً على هذا (الرأي). وهنا، يأتي الحديث الشريف: (من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار)! |
|
الثاني: المسبقات الفكرية المركزة في عقلية الفرد |
|
فهنالك كثيرون يقرأون القرآن، وأدمغتهم مشحونة بالأفكار والرؤى والمفاهيم المسبقة، ولذلك فهم لا يرون القرآن إلا من خلال أفكارهم، ولا يجدون في القرآن إلا ما يؤيد هذه الأفكار. تماماً، كالذي يضع على عينه نظارة سوداء، إنه يرى جميع الأشياء بلون نظارته! وكذلك هؤلاء، فهم يرون آيات القرآن، بلون المفاهيم القابعة في عقولهم. إنهم يحاولون فهم القرآن كما تقتضي قيمهم وأفكارهم، بدل أن يكونوا (تلامذة) متواضعين أمامه. إنهم يحاولون توجيه القرآن على حسب ما تقتضيه أفكارهم الواهية، بدل أن يحاولوا تهذيب أفكارهم على حسب ما تقتضيه مفاهيم القرآن الرفيعة. وهذا هو عين الخطأ. وهذا هو - أيضاً - أحد مصاديق (التفسير بالرأي) المنهي عنه[12]. ونجد في التاريخ الغابر، كما في التاريخ المعاصر أمثلة كثيرة على ذلك. * وأول ما نجده في هذا المجال هو تفسير القرآن الكريم على حسب (الأفكار العقائدية) المسبقة، كما نلمس ذلك في أصحاب مذاهب من أمثال (المعتزلة) أو (الأشاعرة) أو (الباطنية) أو (الكرانية) أو غيرهم. هذه الطوائف كانت تحمل آراءً خاصة في (الله) و (صفاته الثبوتية) و (صفاته السلبية)، وغير ذلك، وعندما اصطدمت عقائدها بالقرآن أخذت تفسّر الآيات القرآنية على حسب آرائها السابقة[13]. * ونجد كذلك تفسير آيات القرآن حسب (الفكر الصوفي) و (الذوق العرفاني)، والذي جاء من أجل تدعيم أفكار هذين الاتجاهين، وإعطائهما صبغة (شرعية). ونجد ذلك جلياً في كتاب (الفصوص) الذي ألّفه (محيي الدين ابن العربي) تأييداً لأفكاره الصوفية الخاطئة. والذي يسعى فيه (ابن العربي) إلى تخريج المعاني التي يريدها من الآيات والأحاديث بطريقة خاصة في التأويل، فإن كان في ظاهر الآية ما يؤيد مذهبه أخذ بها، وإلا صرفها إلى غير معناها الظاهر. فمثلاً: باعتبار أن مذهب ابن العربي هو (وحدة الوجود)، لذلك فهو يفسر قول هارون لأخيه موسى: (يَا ابْنَ أُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي) بأن موسى بعد أن عاد من (الطور) ورأى قومه قد عبدوا العجل، عاتب أخاه هارون قائلاً له: لماذا لم تدع الناس يعبدون العجل؟ ألا تعلم أن الله سبحانه يجب أن يُعبد في أية صورة كان المعبود! أو مثلاً، يفسر بعض العرفاء قوله تعالى: (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) بأن اليد هي المعصومون الأربعة عشر، باعتبار أن (يد) تحمل الرقم (14) بحساب الحروف (الأبجدية)! وكذلك أيضاً يفسر بعض العرفاء قوله تعالى: (اذهب إلى فرعون إنه طغى) بأن المقصود من (فرعون) ليس شخصاً معيناً، بل المقصود به (القلب القاسي)، وهذه الآية تشير إلى مجاهدة هذا اللقب[14]. ومما يمكن إلحاقه بما نحن فيه تصريف بعض الصوفية معنى قوله تعالى: (رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ) إلى معنى الحب والعشق![15]. * وهنالك أيضاً تفسير القرآن الكريم حسب (الفكر المادي)، والذي حدث متأثراً بالفترة التي أخذت الحضارة الغربية تخطو فيها خطوات واسعة في المجالات العلمية والتكنولوجية، مما أبهر بريقها عيون بعض المسلمين. هؤلاء أخذوا يفسرون القرآن بطريقة خاصة، ترك الاتجاه المادي بصماته واضحة عليها. فالملائكة، والجن، والشياطين فسروها بـ (القوى الطبيعية) التي تسير الإنسان والكون. ومعاجز الأنبياء، أخذت تعطي مدلولات جديدة، وتفسر بشكل جديد. وهكذا، وهلمّ جراً. * * * * * إن كل هذه الأنواع من التلاعب بمعاني القرآن الكريم، وتوجيه الآيات القرآنية على حسب الأفكار (العقائدية المسبقة) أو (الأفكار الصوفية والعرفانية) أو (الاتجاهات المادية). كل هذه تعتبر من أنواع التفسير بالرأي، المرفوض أساساً من قبل الدين. 2 - التسرع في تفسير الآيات القرآنية على حسب ما يظهر للفرد في بادئ الرأي، ووفق ما توحي إليه ظنونه الأولية، من دون الاستيقان، ومن دون الرجوع إلى سائر الآيات والروايات الواردة في ذلك الموضوع. ذلك لأن الرأي في اللغة يعني: (الظن) و (التخمين) - كما تشير إليه بعض المصادر[16] - فالتفسير بالرأي، وفقاً لهذا الاحتمال، يعني أن يفسر القرآن بسبب بعض الظنون النيئة، التي لم تنضج بعد. رغم: (إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)، كما يؤكده القرآن الكريم[17]. ومما يجدر ذكره في هذا المجال: أن امرأة على عهد عمر بن الخطاب كانت تمارس الجنس مع مملوكها وهذا بالطبع أمر محرم في نظر الإسلام. فذُكر ذلك لعمر. فأمر أن يؤتى بها، ولما جاءت سألها: ما حملك على ذلك؟! فقالت: تأولت آية من كتاب الله، وهي: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ)[18]. وفي بعض الروايات: (كنت أراه يحل لي بملك يميني كما يحل للرجل المرأة بملك اليمين!) إلى آخر القصة[19]. ومن هذا القبيل: أن يرى الإنسان قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ)[20]. فيبادر بالقول: إن فكرة الشفاعة هي فكرة خرافية، وإن القرآن الكريم قد نفاها من الأساس. أو يرى قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)[21]. فيتصور الله جسماً، ويتصور أن الله سار بتؤدّة وأناة، حتى تربع على عرشه العظيم! وهكذا. إن هذا الشكل من الفهم المتسرع للآيات القرآنية، على حسب ما يقتضيه الظن والتخمين، وبعض الاستحسانات العقلية الفارغة، هو ما نهت عنه الروايات السابقة، حسب الاحتمال الثاني. 3 - فهم آيات القرآن الكريم المرتبطة بالأحكام، والآيات المتشابهة، والآيات المجملة وما شابه، بعيداً عن روايات أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام). ذلك لأنه في عهد الرسالة كان النبي (صلى الله عليه وآله) هو الذي يشرح للمسلمين الآيات الغامضة، المبهمة، وفي ذلك يقول الله سبحانه: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)[22]. ولكن: ماذا بعد رحيل الرسول؟! لقد خلف النبي من بعده كتاب الله، والعترة، وقد قرن النبي (صلى الله عليه وآله) القرآن بالعترة في أحاديث كثيرة[23] ومن هنا، فإن آية محاولة للفصل بينهما، هي محاولة خاطئة. ويؤيد ذلك، أن كثيراً من الروايات التي ورد فيها النهي عن (التفسير بالرأي) جاءت رداً على أولئك الذين كانوا يحاولون فهم القرآن بعيداً عن أهل البيت، بل ونقيضاً لهم في بعض الأحيان، كأبي حنيفة، وقتادة، وغيرهما. كما جاءت مجموعة من الروايات في هذا الصدد. منها: ما روي عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام): (إنما هلك الناس في المتشابه لأنهم لم يقفوا على معناه، ولم يعرفوا حقيقته، فوضعوا له تأويلاً من عند أنفسهم بآرائهم، واستغنوا عن مسألة الأوصياء فيعرفونهم). ومنها: ما روي عنه أيضاً: (إنهم [أي المخالفين] ضربوا القرآن بعضه ببعض، واحتجوا بالمنسوخ، وهم يظنون أنه الناسخ، واحتجوا بالخاص وهم يظنون أنه العام، واحتجوا بأول الآية وتركوا السنة في تأويلها ولم ينظروا إلى ما يفتح به الكلام وإلى ما يختمه، ولم يعرفوا موارده ومصادره. إذ لم يأخذوه عن أهله، فضلوا وأضلوا)[24]. وهكذا. نجد أن فهم القرآن - في طوائف من الآيات - بشكل مستقل، وبعيداً عن أهل البيت يعتبر (تفسيراً بالرأي)، حسب الاحتمال الثالث. والسؤال الآن هو: لقد برزت أمامنا حتى الآن ثلاثة احتمالات في معنى (من فسر القرآن برأيه) وهي: 1 - فسّر القرآن بآرائه الشخصية، وذلك بقسمين: فسر القرآن بهواه، وفسر القرآن بمسبقاته الفكرية. 2 - فسر القرآن بظنه. 3 - فسر القرآن بفهمه المستقل عن أهل البيت (عليهم السلام)؟! فأي واحد من هذه المعاني هو المقصود؟! والجواب: يمكننا أن نستفيد من إضافة كلمة (رأي) إلى (الهاء) في قول الإمام (برأيه) معنى عاماً يشمل هذه المعاني جميعاً، وذلك المعنى هو: (تفسير القرآن بالرأي الشخصي، النابع من الذات، لا مع الواقع). وهذا المعنى العام يشمل: القسم الأول من المعنى الأول، لأنه تفسير للقرآن بالهوى، وليس بالواقع. والقسم الثاني من المعنى الأول، لأنه تفسير للقرآن بالتعصب والأفكار السابقة، وليس بالواقع. والمعنى الثاني، لأنه تفسير للقرآن بظنه الشخصي. وليس بالواقع. والمعنى الثالث، لأنه تفسير للقرآن بالأفكار الشخصية، وليس بالواقع (الذي مقياسه هو: أهل البيت عليهم الصلاة والسلام). وهكذا. نجد أن الروايات التي تنهى عن (التفسير بالرأي) لا تقصد بذلك النهي عن التدبر في القرآن الكريم، وإنما تنهى عن (تفسير القرآن بالرأي الشخصي النابع من الذات، لا من الواقع، بمختلف صوره وأشكاله). الشبهة الثانية: كيف نعرف العام والخاص، والمطلق والمقيد، والناسخ والمنسوخ؟ يقولون: إن في القرآن عاماً وخاصاً، ومطلقاً ومقيداً، وناسخاً ومنسوخاً، وهل يعرف ذلك إلا الراسخون في العلم؟! والجواب: 1 - إن الآيات التي طرأ عليها التخصيص، أو التقييد أو النسخ. هي آيات محدودة ولا يمكن أن تسحب الحكم المنطبق على بعض الآيات، على القرآن الكريم ككل[25]. 2 - إن أغلب - أو كل - الآيات التي طرأ عليها التخصيص، أو التقييد، أو النسخ هي الآيات التي تتناول (الأحكام الشرعية). كأحكام القتال والطلاق والزنا والعدة وما أشبه. ومن الطبيعي أن الاستنباط من (آيات الأحكام) تختص بالفقهاء والمجتهدين، ولا يحق للرجل العادي أن يستنبط منها، وحديثنا هنا في التدبر في الآيات الأخرى، تلك الآيات التي تتناول القضايا الخلقية، والاجتماعية، والثقافية، وما أشبه. وليس في (آيات الأحكام). 3 - هذا، بالإضافة إلى ما سبق من دعوة الدين إلى التدبر في آيات القرآن الكريم[26]. |
|
الشبهة الثالثة: الذين أخطأوا في فهم القرآن! |
|
يقولون: لقد أخطأ الكثيرون في فهم الآيات القرآنية، وانحرفوا بذلك عن سواء السبيل، فمن يضمن لنا عدم الوقوع في الخطأ، كما وقعوا هم؟! أليس من الأفضل أن ندفن رؤوسنا في الرمال، ولا ندور حول مواضع الزلل؟ والجواب: لقد أوضحنا - بشكل ضمني - فيما سبق أن خطأ البعض في فهم القرآن يعود إلى أحد العوامل التالية: 1 - تحكيم (الأهواء الشخصية) في تفسير القرآن. 2 - التعصّب لـ (المسبقات الفكرية) المغروسة في أعماق الفرد، وبالتالي تطويع القرآن لهذه الآراء، بدلاً من تطويع هذه الآراء للقرآن. ومما يدخل ضمن هذا الإطار (التعصب للإفكار المذهبية)، ومحاولة تفسير الآيات القرآنية بشكل يؤيد هذه الأفكار. 3 - التسرع في اعتناق الأفكار التي تظهر للإنسان في بادئ الرأي، وعدم التدقيق في صحة هذه الأفكار أو سقمها. 4 - عدم الرجوع إلى روايات أهل البيت (عليهم السلام) في الآيات المجملة، أو الآيات المتشابهة، وما شابه. أما عندما يكون الفرد تلميذ القرآن المتواضع، الذي يكيف أهواءه وأفكاره وفق قيم القرآن ومبادئه، وليس العكس. ويتأنى في تقبل ما يخطر على باله من أفكار، ويعود إلى أهل البيت (عليهم السلام) فيما تشابه عليه، عندئذ، تقل نسبة الخطأ في فهم القرآن، إلى حدود كبيرة. ويمكن أن تنعدم بالتالي. |
|
الشبهة الرابعة: القرآن كتاب غامض، فكيف نفهمه؟ |
|
يقولون: القرآن كتاب يكتنفه الإبهام والغموض، ففيه غموض في الكلمة، وغموض في المعنى، وغموض في المغزى، فكيف نستطيع بعد ذلك أن نفهمه؟! لقد نزل القرآن قبل ألف وأربعمائة عام، وخاطب جيلاً قد مات منذ أمد سحيق، فهل تستطيع أجيالنا أن تفهم القرآن الآن؟! والجواب: 1 - إن أغلب الآيات القرآنية هي آيات واضحة، في الكلمات، والمعاني، والأهداف، كما قال سبحانه: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)؟ فبإمكان أي فرد أن يتصفح القرآن الكريم ليجد هذه الحقيقة ماثلة أمام عينيه. 2 - ولكن، تظل هنالك مجموعة من الآيات غامضة، ومبهمة، وذلك يعود إلى ابتعاد أمتنا عن اللغة العربية الأصيلة، وليس إلى القرآن ذاته[27]. والسؤال الآن هو: كيف نفهم هذه الآيات الغامضة؟ والجواب: هنالك ثلاثة طرق: أ - الرجوع إلى معاجم اللغة، واستخراج معاني الألفاظ منها، طبقاً لما سنشرحه في الفصل القادم بإذن الله. ب - التدبر في السياق العام للآية، واستنباط معنى الكلمة أو الآية من خلال ذلك. ورغم أن السياق ليس عاملاً نهائياً وحاسماً في فهم الآيات القرآنية. إلا أنه يعنينا كثيراً في هذا المجال. مثلاً: إذا أردنا التعرف على معنى (نفش) في هذه الآية: (وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ)[28] لم يكن علينا إلا قياس كلمة (نفشت) بالحرث والغنم والحكم، مما نعرف أنه إتلاف الحرث. أو إذا أردنا اكتشاف معنى (حول) في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً * خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً)[29] فما علينا إلا أن ننظر إلى سياق الآية الكريمة لكي نكتشف أن معنى (الحول) هو (التحول) و (الانتقال). أو إذا أردنا فهم معنى (الإملاق) في قوله تعالى: (وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ)[30] فما علينا إلا أن ننظر إلى الجو العام المحيط بالآية لنعرف أن معناه هو (الفقر) و (الحاجة)، وهكذا. ج - التفسير. إن لمعرفة الإطار التاريخي الذي هبط فيه الوحي، والمورد الذي نزلت فيه الآية الكريمة، الأثر الكبير في فهم معاني (الآيات القرآنية)، والأهداف التي نزلت من أجل تكريسها هذه الآيات. ذلك لأن القرآن نزل بشكل تدريجي، واكب فيه الأحداث التي واجهها المسلمون في عهد الرسالة، ولم ينزل على الناس مرة واحدة، ولذلك كان من الطبيعي أن تحمل كل آية طابع الظروف التي هبطت فيها. وكتب التفسير هي التي تسلّط الأضواء على هذه الظروف، وتغطي بالتالي الأبعاد الحقيقية للآية الكريمة، (وذلك بالإضافة إلى الفوائد الهامة الأخرى التي تمنحنا إياها كتب التفسير). هذه كانت أهم الشبهات التي قد يتمسك بها للتدليل على عدم جواز، وحتى عدم إمكان (التدبر) في الآيات القرآنية. وقد عرفنا من خلال هذا المبحث (إمكان) و (مشروعية) التدبر في القرآن الكريم. ويبقى أن نشرح ضرورة التدبر في القرآن، وهذا ما يتكفل به الفصل القادم، بإذن الله. |
|
[1]مقدمة (البرهان في تفسير القرآن) ص16، طبعة دار الكتب العلمية - إيران. [2]تفسير (البرهان) المجلد الأول ص19. [3]تفسير (الصافي) المجلد الأول ص21، ط5. [4]راجع الفصل السابق: (التدبر، أم التحجر)؟ [5]سورة البقرة: 228. [6]سورة الشورى: 50. [7]سورة الشورى: 49 - 50. [8]للمزيد من التفاصيل حول (السياق القرآني) راجع القسم الثاني من هذا الكتاب (الفهم التجزيئي للقرآن). [9]سفينة البحار، للمحدث المتبحر الشيخ عباس القمي (رضوان الله عليه) المجلد الأول ص367 - 368، وأيضاً (الأذكياء) لابن الجوزي ص132. [10]سورة البقرة: 195 [11]سورة المائدة: 105 [12]والذي يدل على كون ذلك تفسيراً بالرأي هو أن الباء في قول الإمام (عليه السلام) (برأيه) هي باء السببية، بمعنى (فسر القرآن بسبب رأيه)، أي أن تفسيره للقرآن بهذا الشكل جاء نتيجة لـ (رأيه السابق)، بحيث لو لم يكن ذلك (الرأي) موجوداً مسبقاً لما فسر القرآن بهذا الشكل. [13]راجع (التمهيد في علوم القرآن) ج3. [14]تفسير الصافي، المجلد الأول ص22. [15]مجمع البيان، المجلد الأول ص2، ط3. [16]قال الراغب في (مفرداته): الرأي عبارة عن ترجيح أحد طرفي القضية بالظن والتخمين. وقال المحقق الأنصاري: (الظاهر أن المراد بالرأي هو الاعتبار العقلي الظني الراجع إلى الاستحسان)، راجع فرائد الأصول مبحث (حجية ظواهر الكتاب). [17]وما يؤيد كون الرأي بمعنى الظن وروده بهذا المعنى في بعض الروايات: فعن ابن الحجاج قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): (إياك وخصلتين فيهما هلك من هلك: إياك أن تُفتي الناس برأيك، أو تدين بما لا تعلم). (البحار: ج2 ص114 ط دار الكتب الإسلامية). والظاهر أن المراد بـ (الرأي) هنا الظن والتخمين. [18]سورة المؤمنون: 5 و6. [19]الغدير للعلامة الأميني: ج6 ص118، ط3. [20]سورة البقرة: 154. [21]سورة طه: 5. [22]سورة النحل: 44. [23]رويت هذه الأحاديث من كتب الفريقين، راجع: (المراجعات) للعلامة شرف الدين ص19 - 25. [24]فرائد الأصول، مبحث حجية ظواهر الكتاب. وأيضاً: مقدمة (البرهان) ص19، طبعة دار الكتب العلمية - إيران. [25]مجموع الآيات التي ادعوا نسخها هي (228) آية تقريباً وقد بحث الأستاذ الشيخ محمد هادي في ذلك فوجد أن (20) آية منها فقط هي المنسوخة، بينما الـ (208) الباقية ليست منسوخة، (راجع: التمهيد في علوم القرآن: ج 2، ص296 - 404)، وإذا قارنا هذه الكمية الضئيلة بمجموع آيات القرآن التي تبلغ (6666) آية - على المشهور - لوجدنا أنها لا تشكل سوى قطرة صغيرة في بحر خضم. ويمكن أن نقول مثل ذلك القول - بشكل تقريبي طبعاً - في الآيات المخصصة وفي الآيات المقيدة. [26]راجع فصل (التدبر أم التحجر)؟ [27]هذا بغض النظر - طبعاً - عن الآيات المتشابهة التي يفتقر فهمها إلى التفكير المنطقي السليم وإلى مراجعة روايات أهل البيت (عليهم السلام). [28]سورة الأنبياء: 78. [29]سورة الكهف: 107 - 108. [30]سورة الإسراء: 32. |