المؤلفات |
الإسلام ومعوّقات التقدّم |
إن الإسلام يريد للمسلمين العزة والكرامة، والشرف والسؤدد، والتقدم والازدهار، ولتحقيق كل ذلك أوجب على المسلمين العوامل المؤدية إليها، وحرّم عليهم الأسباب المعوّقة عنها، ومن أهم تلك الأسباب المعوّقة: المسكرات والمخدرات التي تزيل العقل، وتميت الغيرة، وتشل حركة الإنسان ونشاطه، وعلى رأسها الخمر. ولذلك حرّم الإسلام الخمر بنص القرآن الحكيم، والأحاديث المتواترة عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأهل بيته الطاهرين (عليهم السلام) تحريماً باتاً، وحاربه محاربة شعواء، وجعل على من يشرب الخمر الحدّ والعقاب الأليم. وقد تجنب المسلمون الخمر وحاربوه بكل قوة، وقاطعوا كل من يتعاطاه وأعرضوا عنه، ولم يزوّجوه ولم يتزوجوا منه، وحتى أن الخلفاء الأمويين والعباسيين الذين كانوا يتعاطون الخمرة فيما بينهم كانوا يفعلون ذلك سراً، وكانوا حفاظاً على حسن ظاهرهم يحدّون من يشرب الخمر علناً، كما هو مذكور في التاريخ. |
موقف المسلمين اليوم من الخمر |
أما اليوم فالخمرة أصبحت متفشية في البلاد الإسلامية تفشياً فاضحاً، حتى قيل: أن رئيس وزراء دولة إسلامية كان قد سافر إلى قرية من قرى بلاده، فلم يجد في تلك القرية حانة للخمر، فعاتب الرئيس مدير تلك الناحية أي: المسؤول الحكومي هناك ووبّخه على ذلك، ثم رجع إلى مقرّه في العاصمة، وأول ما صنع هذا الرئيس عند رجوعه إلى العاصمة أنّه غير ذلك المسؤول الحكومي في تلك القرية إلى مسؤول آخر، وكان أول ما قام به هذا المسؤول الحكومي الجديد هو أنه أحدث حانة خمر في تلك القرية. |
القضاء في الإسلام |
إن الإسلام يريد للمسلمين كمال الأمن والاستقرار، ويبتغي لهم تمام الاطمينان وراحة البال، ويقرّ فيهم صون حقوقهم الفردية والاجتماعية، ولتوفير ذلك كله عليهم، وضمان سلامته لهم، أعطى استقلالية خاصة للقضاء، ومنحه مقاماً رفيعاً يعلو جميع المقامات، وخوّله جاهاً عريضاً يفوق كل الوجاهات، فشدّد على القاضي من جهة، وسهّل له من جهة أُخرى. شدد عليه من حيث الحياد وعدم الانحياز إلى طرف من أطراف الدعوى، ومن حيث الدقَّة والتقوى في إصدار الحكم، وعدم الارتشاء من أحد، أو قبول هديّته، حتى قال في تهديده: القاضي على شفا جرف جهنم. وسهل له من حيث البساطة في الأسلوب، وعدم اتخاذ الحجّاب والبوابين، وأن يكون في متناول الناس والمراجعين، وأن يسارع في الفصل بين المترافعين، وأن يعجّل في حسم نزاع المتنازعين دون أن يتقاضى منهم أجراً، أو يطالبهم برسوم وضرائب وما أشبه ذلك، فإنه جعلها له سحتاً، وعليه حراماً مغلظاً. وكان المسلمون الأولون يلتزمون بهذه التشديدات والتسهيلات في القضاء، فكان القضاء بينهم حسب ما أمر به الإسلام، وصدع به القرآن، وبيّنه الرسول (صلّى الله عليه وآله) والأئمة الطاهرون من أهل بيته (عليهم السلام)، ولذلك كان قضاءاً بسيطاً غاية البساطة بدون إتلاف وقت ومال، وفي نفس الوقت كان نظيف إلى أبعد حدّ، فلا جنف ولا إجحاف، ولا ظلم ولا مماطلة، وقد ذكر خبراء غربيون، متضلّعون في التاريخ: بأن من أسباب تقدم الإسلام تقدماً هائلاً، وانتشاره بين الناس انتشاراً سريعاً، هو ما شاهده الناس من بساطة قضاء الإسلام ونظافته، وعدله وسلامته، واستقلاله وحياده، وسواسية الناس الحاكم والمحكوم، والراعي والرعية لديه، حتى أن الرسول (صلّى الله عليه وآله) كان يلتجئ مع خصم له إلى القضاء، وكذلك كان أمير المؤمنين (عليه السلام) في خلافته الظاهرية، وفي قصص معروفة. |
من واجب القضاء |
كما أن القاضي في السابق كان –كما أمر الإسلام به_ يظهر بمظهر إنسان عادي، يجلس للناس في المسجد، أو في غيره من الأماكن العامة، ليكون في متناول الجميع، وبنظر العموم، ويقضي بين الناس بما أدّت إليه الشهود والبيّنات، أو قامت عليه الأيمان والقسامات، وذلك كما قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (إنما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان)(1)، ويقضي أحياناً ببعض القرائن والشواهد الأخرى، الكاشفة عن أصل الدعوى وحقيقتها، وذلك حسب الموازين الإسلامية المذكورة في كتاب القضاء. وقد دام زمن قضاء أحد أولئك القضاة في الكوفة، وهي بلدة واسعة مزدحمة بالنفوس، حيث كان يقطنها ملايين الناس، مستمراً من زمان عمر بن الخطاب إلى زمان عبد الملك بن مروان، يعنى: كان قاضياً في كل هذه المدة الطويلة، وكان من أسلوبه أن يجلس في المسجد للقضاء بين المترافعين والمتخاصمين، وذلك بمشهد من الناس ومرأىً منهم، ودون أي خفاء أو التواء، أو مماطلة أو ترهّل. وذات مرّة لم يخرج إلى المسجد وإنما جلس في الدار وقضى بين اثنين، فسمع به الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) فعاتبه على ذلك، وأمره بأن يجلس للقضاء بين الناس في المسجد. وهكذا كان القضاء إسلامياً، والقاضي نزيهاً، وحلّ المشاكل والمنازعات بأبسط ما يكون، وأسرع ما يتصور. أما اليوم فقد انتفى كل ذلك وانعدم من بين المسلمين، فلا يشترط في القاضي النزاهة والعدالة، كما أن القضاء أصبح معقداً غاية التعقيد، وأصبح القضاء في الغالب قضاءاً غير إسلامي، بل حسب القوانين المستوردة من الغرب أو الشرق، أو حسب القوانين التي وضعها قضاة لا يؤمنون بقضاء الإسلام، كما نشاهد ذلك في كل بلاد الإسلام. |
الاجتماع والسياسة في الإسلام |
إن الإسلام يريد للمسلمين في ظل رحمته ورأفته، وحكمة قوانينه العادلة، السيادة والريادة، والعلوّ والعظمة، وأن يكونوا قادة الأمم وملوك الدنيا، وقد أمرهم من أجل تحقيق ذلك بالاتحاد والأخوة، والأمة الواحدة والبلاد المتحدة، ونهاهم عن التفرّق والتقاطع، وعن التشتت والتبعثر. وكان المسلمون السابقون يأتمرون بأوامر الأخوة والاتحاد، والأمة الواحدة والبلاد المتحدة، ويجتنبون التفرّق والتقاطع والتبعثر والتشتت، فكانوا كما أراده الإسلام لهم سادة العالم، وقادة الأمم، وملوك الدنيا. بينما اليوم حيث ترك المسلمون أوامر الإسلام في هذا المجال، وارتكبوا نواهيه في هذا الميدان، أصبحوا ذيولاً وأذناباً، مستضعفين ومضطهدين، مقهورين ومطاردين، أذل من العبيد، واتعس من الرقيق، وذلك هو جزاء المعرضين عن تعاليم الإسلام الراقية. أما المسلمون السابقون فقد كانوا يطبقون أمر الإسلام بالأمة الواحدة ويأخذون بقوله سبحانه: (وإنّ هذه أُمّتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتّقون)(2) فلم تكن مميزات قومية، ولا فوارق عنصرية بين الأمة الإسلامية، كما لم تكن حدود جغرافية ولا نزاعات حدودية بين بلاد المسلمين وإن كان المسلمون يملكون حكومات متعددة على ربوع البلاد الإسلامية، كما في هذه الآونة الأخيرة من الزمان، حيث كانت حكومة العثمانيين في تركيا، وحكومة القاجاريين في إيران، فإن الحكومات المتعددة في البلاد آنذاك، كانت كالمتصرفيات المتعددة اليوم في قطر واحد، حيث كان المسلمون يتنقلون فيها بكامل الحرية، ويذهبون ويأتون من هذا البلد إلى ذلك البلد، ومن ذلك البلد إلى هذا البلد، بدون حدود جغرافية، ولا تأشيرة دخول أو خروج. |
نموذج من الأمة الواحدة |
وقد رأيت أنا آثاراً من هذه الظواهر الإسلامية - التي أمر بها القرآن وترمي لتحقيق أسرة واحدة - قبل ستين سنة، حيث لم تكن بين العراق وبين سائر البلاد الإسلامية، مثل إيران والكويت والبحرين ومسقط والحجاز وسورية ولبنان وما أشبه ذلك حدود جغرافية مصنعة كاليوم، وكذلك كان الأمر بالنسبة إلى الهند الوسيعة في ذلك اليوم، حيث كان المسلمون القاطنون فيها يأتون إلى العراق من تلك البلاد البعيدة، ويذهبون من العراق إلى تلك البلاد النائية للزيارة، أو للتجارة، وذلك بدون مانع ولا حاجز، وإنما كسفر اليوم من النجف الأشرف إلى كربلاء المقدسة، أو من كربلاء المقدسة إلى الكاظمية المشرفّة وسامراء المفخّمة، ومنها إلى بغداد، أو من بغداد إلى البصرة، وهكذا وهلم جرّاً. وأني أذكر جيداً كيف كان الناس ومن شتّى الأطراف والأكناف يذهبون بحرية تامة من العراق إلى الحجّ، ويرجعون من الحج إلى العراق ثم يتوزعون منه إلى بلادهم ونواحيهم؟ أو يأتون من الحجاز وغير الحجاز من البلاد الإسلامية الأخرى إلى العراق لأجل زيارة العتبات المقدسة، والمراقد المشرفة، وذلك بلا جواز، ولا تأشيرة دخول وخروج، ولا موانع كاذبة، ولا حدود جغرافية مبتدعة. هذا وقد أخذ الغربيون اليوم بالأمّة الواحدة، والبلاد المتحدة، فألغوا بينهم الحدود، ورفضوا الجناسي والجوازات، ومهدوا لأن يكونوا بلاداً واحدة وأمة متحدة، بينما ترك المسلمون كل ذلك وصاروا كما قال الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وهوَ يحذّر المسلمين مغبّة إعراضهم عن القرآن وتعاليم الإسلام: (الله الله في القرآن لا يسبقكم بالعمل به غيركم)(3). |
المسلمون والأُخوّة الإسلامية |
وهكذا كان المسلمون يحافظون بما أمر به الإسلام من الأخوة الإسلامية، فالمسلم كان يرى المسلمين رجالاً ونساءً أخوة له في الدين، وذلك كما قال الله سبحانه: (إنّما المؤمنون أخوة)(4). وقد طبّق رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الأخوّة الإسلامية بين المسلمين مرّتين: مرّة في مكّة، ومرّة أخرى في المدينة، كما ذكرها المؤرخون، حيث كان (صلّى الله عليه وآله) قد آخى في المدينة بين المهاجرين والأنصار، فأصبح كل واحد من المهاجرين مع كل واحد من الأنصار متآخيين، وفي هذا دلالة واضحة على أن من أهم واجبات التعددية –التي هي رمز التقدّم والرقي- في الأمة الواحدة هو حفظ شؤون الأخوة بينهم، ورعاية حقوق الأخوة في تعامل كل منهم مع الآخر، كما كان عليه الأنصار والمهاجرين، لا كما اعتاده بعض التكتلات الإسلامية من ضرب بعضهم بعضاً، فأنّهم لم يلتزموا بأوليات التعددية التي رسمها الإسلام لهم، فلا يحق لهم وهم على تناحرهم أن يدّعوا الإسلام، أو ينسبوا أنفسهم إلى المسلمين، وذلك لأنّهم لم يجرّوا بسوء نيتهم وسوء تصرفاتهم على الإسلام والمسلمين إلا شراً، ولأنه بسوء عملهم خالفوا مفهوم الأخوة الإسلامية التي أوجبها الإسلام على المسلمين. إن مفهومها هو ما فعله الأنصار بأخوتهم المهاجرون، من إيوائهم واستضافتهم، وجعل كل أوليات الحياة في اختيارهم ومتناول أيديهم، وإشراكهم في مهنهم وكسبهم، في التجارة والزراعة، والحرفة والصناعة، وغير ذلك، وأقل ما يمكن تطبيقه من مفهوم الأخوة الإسلامية اليوم هو: أنه إذا هاجر مسلم مثلاً من إيران أو أفغان إلى العراق وسكن في الأعتاب المقدسة كالنجف الأشرف، أو كربلاء المقدسة أن يعامل كما يعامل أهالي النجف الأشرف، وأهالي كربلاء المقدسة، في كل الشؤون، وفي كل الحقوق وبصورة متساوية، وبلا زيادة أو نقصان. |
الحريّات في المجتمع المسلم |
وكذلك كان المسلمون بالنسبة إلى الحريّات الإسلامية، فإن جميع المسلمين حيث ما حلّوا أو نزلوا كانوا أحراراً في كل شيء وفي جميع المجالات طبعاً ما عدا المحرمات -وما أقلها في الإسلام- وذلك كما أشار إليه القرآن الحكيم حيث قال: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحلّ لهم الطيّبات ويحرّم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم)(5) والمراد من (الإصر) هو: الحمل الثقيل الذي يتحمله الإنسان بسبب العادات والتقاليد الباطلة التي تفشّت في الاجتماع، كما أن المراد من (الأغلال) هي القوانين الكابتة التي تقيّد الإنسان وتحبسه عن الانطلاق والتقدم. هذا كان حال المسلمين السابقين بالنسبة إلى ما أمر به الإسلام في مجال الأمة الواحدة، والأخوّة الدينية، والحريات الإسلامية، وأما اليوم فترى المسلمين على خلاف كل ذلك، فهم أمم ممزقة لا أمة واحدة، وهم أعداء متخاصمون لا أخوة يتعاون بعضهم مع بعض، وهم مقيّدون مكبّلون لا أحرار منطلقين، قد قيدتهم القوانين الوضعية، وأصبحت الأمور على أثرها معقدة تحتاج إلى الإجازة والإشارة، والرسوم والضرائب وإلى ألف شيء وشيء، حتى سلبتهم الحريات كلها: حرية العمل والحركة، وحرية الفكر والقلم، وحرية الكلام والرأي، وإلى آخر ما في القائمة من الحرّيات الإسلامية. |
1- الكافي 7/414. 2- المؤمنون: 52. 3- نهج البلاغة 3/77. 4- الحجرات: 10. 5- الأعراف: |